انشغل المواطنون خلال زمن هذه الجائحة، وعلاوة على مواجهة الوباء والتصدي لمخاطره الصحية، بمشكلات التعليم وتمدرس الأبناء، وفرضت قضايا التربية والتكوين نفسها في النقاش العمومي، ليس فقط من خلال التعثر الناجم عن ظروف كورونا وما أنتجته من ارتباكات، ولكن في المستوى العام من خلال واقع منظومتنا التربوية والتعليمية ككل، وأيضا مستقبلها.
في بلادنا، ليست الأفكار والرؤى والمخططات هي التي تنقصنا لإدراك طريق إصلاح التعليم، ذلك أن مئات الخطط وآلاف الاقتراحات والنقاشات والأفكار عرضت في مراحل مختلفة، وبعضها جرى تجريبه فعليا، وهناك برامج ومخططات ودراسات أنفقت عليها الملايير، لكن تعليمنا، في النهاية، لا زال يهبط في درجات التدني والتراجع بشكل مروع.
ومن ثم، فإرادة الإصلاح هي التي تنقص، وأيضا شجاعة الإقدام على خطوات أكثر جرأة وتكاملية.
إن تطوير نظامنا التعليمي يجب أن يرتكز بداية على المدرسة العمومية وأن يجعلها مدرسة للجودة والتميز، وأيضا لتكافؤ الفرص والانسجام المجتمعي، ومعبرا لتحقيق الارتقاء الاجتماعي.
وحوالي هذه المدرسة العمومية، يمكن أن يكون للتعليم الخصوصي أو غيره أدوار تكميلية، ويحرص على تحقيق قيمة مضافة.
إن المدرسة العمومية، ضمن هذه الرؤية، هي في حاجة اليوم إلى تأهيل بناياتها وتجهيزاتها في كل مناطق البلاد، وتزويدها بكل شروط وتجهيزات العمل، وهذا الورش وحده يتطلب استنفار التعبئة والتمويل الضروريين والكافيين.
رجال ونساء التعليم، وكل الأطقم العاملة في القطاع، هم، بدورهم، في حاجة إلى تحسين أوضاعهم المادية والاجتماعية، وتحفيزهم لاستعادة حماس العمل والعطاء والاجتهاد، كما أنهم في حاجة إلى نظام متكامل للتكوين المستمر وتنمية القدرات المعرفية والبيداغوجية، ومواكبة تطورات الميدان ومستجداته.
وتبعا لما سلف، فإن توفير البنايات والزيادة في عددها وتجهيزها، وتوفير الأطر التعليمية الكافية، هما وسيلتان للمساعدة على حل معظلة أخرى، هي التي يجسدها الاكتظاظ داخل الأقسام، وهو ما يجعل الاستفادة والنجاعة التعليمية مستحيلتان.
وفضلا عن هذه المعضلات الواقعية المشار إليها:(ضعف عدد المدارس وضعف تجهيزها، ضعف عدد المدرسين وضعف تكوينهم المستمر، الإفراط في الاكتظاظ داخل الأقسام)، تطرح كذلك المشكلات المتصلة بالمناهج والمقررات والمضامين التعلمية وأشكال التدريس، وهذه تتطلب سياسة عمومية متكاملة وناجعة، أي اعتماد تخطيط استراتيجي حقيقي لتطوير تعليمنا الوطني، وتدقيق الأهداف والمراحل والأجرأة التنفيذية.
وضمن هذا التخطيط الإستراتيجي، يجب استحضار مركزية المسألة اللغوية في منظومتنا التربوية والتكوينية، أي تعليم اللغات الأجنبية وأيضا التدريس بها، وضمن ذلك تقييم صيغة التعريب التي جرى إعمالها في بلادنا والوقوف عند اختلالاتها وتداعياتها بالكثير من الصراحة والجرأة، واستحضار مستوى التكوين العقلاني والنقدي للتلاميذ والطلبة، وذلك من خلال تدريس الفلسفة مثلا، وكل العلوم الإنسانية والاجتماعية…
إننا عندما نستعرض هذه المعضلات، كما يحكيها الناس في كل مجالس الحديث يوميا، ومن دون تحليق في سماوات التنظير المجرد، ندرك أن التعليم يعتبر اليوم أبرز التحديات المطروحة على بلادنا.
ونضيف إلى هذا تنامي أعداد المتمدرسين وأعداد الحاصلين على شهادة الباكالوريا، وارتباطا بذلك، نسجل ضعف استعداد الدولة، وخصوصا المدرسة العمومية، لاستقبال هؤلاء الوافدين أو التفكير في مستقبلهم الدراسي ومستوياتهم المعرفية والتكوينية، أو إعداد حلول لما بعد تخرجهم…
هنا يصير تحدي إصلاح التعليم وتطويره أولوية وطنية مركزية، ويجب أن يرتكز أي نموذج تنموي جديد على هذه الرافعة الإستراتيجية، وبالتالي جعل التعليم وتطوير معارف المواطنات والمواطنين هو أساس بناء المشروع المجتمعي المطلوب لبلادنا.
في زمن كورونا بدت الحاجة ملحة لانخراط الشعب في التعبئة الوطنية لحفظ الصحة العامة والتصدي للوباء، وفِي مختلف القضايا الوطنية الكبرى تكون هذه التعبئة ضرورية وحاسمة، ولهذا يعتبر تعليم الشعب وتثقيفه وإنماء معارفه من أهم دروس زمن كورونا، ويجب علينا كلنا أن نستوعب هذا الدرس جيدا وندرك أيضا مخاطر إهمال التعليم أو التطبيع مع الأمية والجهل وتدني مستويات التعليم والوعي.
نحن في حاجة اليوم أن تقف بلادنا صريحة مع ذاتها، وأن تمتلك الإرادة الكافية والشجاعة السياسية القوية لتسجل أولا ما اقترف من أخطاء وخطايا في تدبير شأننا التعليمي الوطني على مدى عقود، وأن تقرر اختيار طريق التغيير، وأن تدرج تطوير التعليم ضمن أسس مشروعها المجتمعي التنموي والديمقراطي، وأن تختار التعليم لبناء مستقبل المغرب.
<محتات الرقاص