هناك من الفاعلين الثقافيين من لا يتصورون التنشيط الثقافي سوى بصيغته الحضورية، حتى وإن كان الأمر يتعلق بعقد ندوة فكرية أو إلقاء نصوص إبداعية أو ما إلى ذلك.
غالبا ما ينتمي هؤلاء إلى جيل الرواد أو الجيل الذي تلاهم مباشرة، وهو جيل لا تزال علاقته بالتواصل الرقمي جد معقدة، ويصعب إقناعه بأنه من الممكن أن يقدم منتوجه الفكري والإبداعي ويتواصل مع قرائه دون الحاجة إلى التنقل من مكانه.
ولهذا السبب لاحظنا كيف أن العديد من اللقاءات الثقافية التي نظمتها مجموعة من منظمات المجتمع المدني كانت تخلو من حضور أسماء لها باع طويل في المحور الذي يدور حوله هذا اللقاء أو ذاك.
لا يتعلق الأمر بتهميش تلك الأسماء الوازنة من طرف اللجان المنظمة، ولكن بكل بساطة، لم يكن بالإمكان التواصل معها بواسطة التكنولوجية الرقمية، وقد أكد العديد من أعضاء تلك اللجان أنهم وجهوا دعوات المشاركة للعديد من الأدباء والمبدعين والفنانين الذين ينتمون إلى الأجيال السابقة لكنهم اعتذروا لكونهم لا يفقهون في شيء اسمه التواصل عن بعد، بل منهم من لا يتوفر حتى اليوم على حساب في تطبيق الواتساب، أو على صفحة التواصل الاجتماعي، وينظر إلى هذه الأمور بنوع من الريبة، أو يعتبرها تدخل ضمن اهتمامات المراهقين، لا غير.
لقد هيمنت على جل الأنشطة التي جرى تنظيمها خلال الشهور الأخيرة، أسماء من الجيل الحديث، بالرغم من حداثة سنهم ومحدودية تجربتهم الإبداعية والفكرية، لكنهم في مقابل ذلك نجد لديهم إلماما بتقنيات التواصل الرقمي، وقد كان هذا كافيا ليشفع لهم للمشاركة في مختلف اللقاءات الثقافية التي تعقد وفق هذه التقنية.
اللافت للانتباه أنه حتى حينما تم تخفيف قيود الإجراءات الصحية خلال المدة الأخيرة، وبات بالإمكان عقد لقاءات في فضاءات عمومية بحضور المدعوين للمشاركة والجمهور، تمت معاينة غياب الفئة إياها، أي تلك التي تنتمي إلى الأجيال السابقة والتي لا تؤمن إلا بما هو حضوري. منهم من تم توجيه الدعوة له بالفعل للمشاركة، لكنه أصر على الغياب مرة أخرى، بعد أن كان يتشبث بالغياب عن التواصل عن بعد.
كيف يمكن تفسير هذه الحالة؟
هل تعد من مضاعفات تأثير الوباء على الجانب النفسي؟
هل هو ناتج عن الخوف من الإصابة بالعدوى وإن كان المنظمون ما فتئوا يذكرون على هامش دعوات الحضور إلى أن اللقاء سيتم تنظيمه باحترام تام للتدابير الوقائية من الإصابة بوباء كورونا؟
منذ أن جرى تخفيف القيود الصحية بعد الانتباه إلى الانخفاض الملحوظ لحالات الإصابة بالوباء، تمت برمجة لقاءات ثقافية وفنية في صيغتها الحضورية بنوع من الكثافة، وهناك لقاءات من المزمع عقدها وفق الصيغة نفسها، وبات من الملاحظ أن الحاضرين والمدعوين للمشاركة، صاروا يتخلصون شيئا فشيئا من عقدة الحجر الصحي التي دامت عدة شهور، فلم يعودوا يحرصون على ارتداء الكمامة أو تحاشي لمس الأشياء بأيديهم، صاروا يصافحون ويعانقون بعضهم البعض بكل طلاقة. خلال ذلك، ومع مرور الوقت، أخذت أعداد الإصابة بالوباء والحالات الحرجة والوفيات ترتفع بنسبة قياسية، وبات الجميع ينظر بحيرة إلى الوضع.
ما العمل؟ هل سنرجع إلى الوضع المشدد السابق؟
سينشط من جديد التواصل عن بعد، وسيطغى على المشهد الثقافي من جديد كذلك، الجيل الذي يتميز بحداثة سنه وبمحدودية تجربته، لا لشيء سوى لكونه يتقن التواصل عن طريق التكنولوجية الرقمية، أنعم به وأكرم.
لقد تم القطع مع مرحلة، والانتقال إلى مرحلة أخرى مغايرة تماما، لا يمكن لنا أن نتكهن الآن بطبيعة نتائجها أو عواقبها.
لكن يبدو أنه لا مفر لنا من التواصل عن بعد. لا مفر.. لا مفر.
< عبد العالي بركات