هل يمكن اعتبار القرن الثاني عشر الميلادي بالمغرب، مرحلة جديدة في تشكّل مغرب آخر، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا؟
تمتلك هذه الفرضية مجموعة من العناصر التي تؤكدها، انطلاقا مما استجدّ من تطور وتحوّل ملموسين، وذلك بالخروج من حالة الممالك المتفرقة، ضمن نفس المجال المشترك تاريخيا، إلى نظام الدولة والمخزن وتوحيد المذهب، واستحداث عاصمة سياسية معلومة، ونشوء مدنية وحركة ثقافية في عدد من المدن المغربية، وترسيخ أهمية التبادل الثقافي بين المغرب والمشرق وعدد من الرباطات في كل مكان، بلغ صداها كل المغرب والمشرق، وكذلك صدور تأليفات في شتى العلوم جوهرها الأنا والمجتمع المغربي من داخله، عقلا وشعورا، بعدما عاش لحظات تحول ذاتي بطيء ومتقطع، عنيف في كثير من الأحيان ولكنه مُدهش، منذ مرور حانون القرطاجني على السواحل الأطلسية وبعده الرومان والوندال والبيزنطيين. تاريخ كان فيه المغرب، في الأعم، فاقدا لتلك المبادرة المستقلة والموحِّدة، وربّما لرؤية ناضجة، كما لم يستقل ثقافيا لتكون لديه ثقافة ومؤرخون وأدباء يحكون عنه باعتباره أرضا وشعبا وليس هامشا في وجود المحتل.
ولم يكن لمرحلة القرن الثاني عشر الميلادي أن تكون لولا المرحلة السابقة الماهدة، بكل موروثاتها، التي أنضجتها على مدى أربعة قرون، وربما قبل ذلك بما تراكم بشكل متفرق وبطيء، وقد عرفت دينامية لم تتوقف مع تلك الجدلية “الساخنة” بين السياسي والديني، أو سؤال خصوصية المجتمع المغربي والبحث عن هوية غير مغلقة وغير تابعة؛ حيث دخل المغرب هذا القرن مبكرا بعقد ونصف مع وجود دولة كبيرة وعاصمة سيصبح اسمها من اسم المغرب، وأيضا صدى انتصار معركة الزلاقة، سنة 1086م، ممّا مدّ الهوية والوعي المغربيين بجرعة كبيرة، وهي أول معركة يسمع فيها المشرق والمغرب ببلد قوي ومُهاب بغموضه الساحر. ومُقابل هذا، يمكن التأريخ لنهاية هذا القرن بهزيمة في معركة العقاب سنة 1212م، والتي خيّبت الآمال دون أن تمحو تلك الرهبة الراسخة.
تطور المجتمع المغربي ضمن صيرورته على مستوى العرق الأمازيغي أولا، ثم الجغرافية الواسعة، ثانيا، من ليبيا إلى أقصى الغرب، وجنوبا إلى واحات الصحراء، وفي تسميات تواترت في المصادر الإغريقية واللاتينية من قبيل: المور والكيتول والنوميد والليبو والكرامانت، ومع الفتح الإسلامي سعى المؤرخون والنسابون إلى اختيار نموذج التصنيف الثنائي العربي، ونشروا بأن البربر هم بتر وبرانس، ويتشكلون من قبائل وبطون، وكانت عدد من الأنظمة الفعالة حاضرة في تدبير شؤون السكان ضمن حياة طبيعية محكومة بالبناء القبلي. ومع مجيء الإسلام، اندمج البربر في النظام الجديد دون التخلي عن ثقافتهم الموروثة مع بعض التعديل في بعض الممارسات، لكنهم تمردوا حينما فاض عسف الحكام الأمويين وانحرفوا. كما أن النخبة الأمازيغية التي ستقود عددا من الثورات، انطلقت من الإرث المحلي للأمازيغ، ومن الخبرة الجديدة المكتسبة من الاحتكاك مع العرب الفاتحين في الفتوحات بالمغرب والأندلس، ثم التثاقف السريع مع المذاهب الوافدة والمعارضة، من شيعية وخارجية ومعتزلية.
خلال الخمسين سنة الأولى من الفتح الإسلامي، (منذ دخول عقبة بن نافع في التعيين الثاني له سنة 681م) وإلى غاية ثورة ميسرة المطغري وتأسيس إمارة بورغوطة ببلاد تامسنا سنة 739م، كانت مرحلة انتظار وسباق بين المذاهب والتيارات، أفرزت تحولا استراتيجيا مرتبطا بالصراع العنيف الذي كانت رحاه تدور في المشرق ويُسمع صخبها بإفريقيا والمغرب.
في هذا السياق الجديد، سيتشكل بالمغرب أفق مغاير عرف مجموعة من المعطيات، منها وجود عدد من الإمارات أو الفيدراليات والتي لا تعني انفصالا وإنما استقلالا جهويا في إطار الجغرافية العامة التي تحددت باسم المغرب الأقصى. وهكذا تشكلت إمارة نكور وسجلماسة ثم دولة الأدارسة، التي هي الأولى المُبادِرة إلى توحيد هذه الإمارات تحت سلطة واحدة. ونفس الفكرة راودت البورغواطيين، منذ حكم يونس وأبي غفير، في نهاية القرن التاسع الميلادي، ولم تكن شروطها التاريخية قد نضجت أو ربما حال الصراع الخارجي والتدخلات المتكررة دون ذلك. ولم يتحقق هذا إلا مع مجيء الدولة المرابطية في القرن الحادي عشر الميلادي ثم مع الموحدين في القرن الثاني عشر، حيث تم تفكيك كافة “الممالك الجهوية” بغاية بناء الدولة وتوحيد الجهات والمذهب.
في ضوء هذه التحولات والتراكم المتشابك، ستظهر حركة ثقافية ذات بُعد ديني ثم اجتماعي متمثلة في التصوف المغربي الذي نما قريبا من التحولات السياسية الجديدة مع قيام المرابطين الصنهاجيين الذين رسّخوا ثقافة الفقهاء وأعادوا تشكيل المجال المغربي في ربطه بالأندلس وكذلك صورة الدولة المغربية؛ في تطور سريع مع الدعوة إلى التوحيد التي نهض بها الموحدون، من مصامدة “الأطلس الكبير” جبال الأطلس الكبير الغربي “الأطلس الصغير” والأطلس الصغير، بزعامة المهدي بن تومرت، هذا الأخير الذي رحل إلى قرطبة بالأندلس ثم إلى المشرق بمصر ومكة والعراق حيث تعلم وناظر خلال أربع سنوات، عاد بعدها ليعلن محاربة المرابطين والطعن فيهم بموازاة دعوته إلى التوحيد، وهو الذي يقول بأنه “لا يصح قيام الحق في الدنيا إلا بوجوب اعتقاد الإمامة في كل زمان من الأزمان إلى أن تقوم الساعة… ولا يكون الإمام إلا معصوما ليهدم الباطل، لأن الباطل لا يهدم الباطل، وأن الإيمان بالمهدي واجب، وأن من شك فيه كافر، وإنه معصوم فيما دعا إليه من الحق، وإنه لا يكابر ولا يضاد ولا يدافع ولا يعاند ولا يخالف ولا ينازع، وأنه فرد في زمانه، صادق في قوله، وإنه يقطع الجبابرة والدجاجلة، وإنه يفتح الدنيا شرقها وغربها، وإنه يملأها بالعدل كما مُلئت بالجور، وإن أمره قائم إلى أن تقوم الساعة” (أعز ما يُطلب، ص257).
ولعل ما خلفه المهدي بن تومرت، مؤسس الدولة الموحدية، من إرث في هذا المجال، كتابة وسلوكا، يُنبئ بالباقي ويعكس ملامح هذا التحول الثقافي والتمثلات الجديدة الموصولة بمعارف العصر وموروثات المجتمع للعبور إلى سلطة فعلية أو رمزية. وقد خصّ صاحب المعجب صورة المهدي قائلا بأنه “كان أوحد عصره في علم خط الرمل وقراءة كتف الشاه، وقد وقع بالمشرق على ملاحم من عمل المنجمين وجفور من بعض خزائن خلفاء بني العباس، أوصله على ذلك كله فرط اعتنائه بهذا الشأن وما كان يحدث به نفسه” (المعجب في تلخيص أخبار المغرب، للمراكشي). ويشير ابن خلدون إلى أن جزء من كتاب الجفر الذي كان قد ألفه يعقوب بن إسحق الكندي منجم الرشيد والمأمون، قد وقع بالمغرب ويسمونه الجفر الصغير، والظاهر أنه وُضع لبني عبد المومن (المقدمة – الفصل 54). كما عُرفَ عنه أنه كان لا يحمل معه من متاع الدنيا في سياحته الطويلة بالمشرق والمغرب سوى عكازا وركوة، واستثماره لكل ذلك وغيره في تشكيل صورة الإمام المصلح والمنقذ في سبيل ترسيخه للمهدوية التي بات لها أتباعها في عصره ولاحقا.
وبموازاة كل هذا، كان لصدى التصوف بالمشرق والأندلس أثر بارز مع أعلام مشهورين منذ القرن الثامن الميلادي إلى الثاني عشر، من أمثال: الحسن البصري ومعروف الكرخي والبسطامي والمحاسبي والجُنيد وذو النون المصري والحلاج وأبو طالب المكي والقشيري والغزالي والجيلاني والسهروردي ثم ابن عربي، وهو ما مهّدَ بدوره للتفاعل بين المشرق والأندلس والمغرب والتأسيس للتصوف المغربي الذي سيبدع في رسم هوية خاصة مع أعلام من أمثال: ابن حرزهم وأبي شعيب السارية وأبي يعزى يلنور وأبي مدين الغوث، وعشرات آخرين في تلك الفترة، حيث جسد التصوف روح العقيدة بشكل ثقافي محلي من خلال ممارسات وطقوس تتصادى والفكر والسلوك داخل مجتمع تمور بداخله جل المؤثرات القديمة التي كانت جزء من حياة المغاربة قديما، بما في ذلك السحر والتنبؤ وعلم الرمل والجفر وكل البقايا القديمة والمؤثرات المتنوعة. كما أسهم إحساس المغاربة بتحول في حياتهم وجغرافيتهم وهويتهم، من نمو العمران، وما عرفته الحياة من منحى ثقافي جديد بالخوض في مجالات إبداعية وفكرية، وكذلك على مستوى المجتمع.
< بقلم: شعيب حليفي