تدفع الحرب الروسية – الأوكرانية التي تدور رحاها بأوروبا الشرقية، والتي أججت التوتر بين الغرب وموسكو وتنذر باتساع رقعتها نحو، ما وصفه مراقبون، “حرب عالمية ثالثة” لها تكاليف باهظة ليس على المنشئات والبنية التحتية فقط وإنما على مستوى الأرواح وعلى ملايين الناس الذين تنقلب حياتهم رأسا على عقب، إلى تقليب صفحات الماضي، لاستحضار ما دون من تفاصيل حروب طاحنة جرت خلال القرن الماضي، وبداية القرن الحالي.
في هويات متداخلة، كما في روسيا وأوكرانيا، لم يبق أحد خارج الحرب. انتهت الحروب وحفرت جراحا لا تندمل وعنفا لا ينسى. وفي هذه السلسلة، تعيد “بيان اليوم” النبش في حروب القرن الـ 20 والقرن الـ 21 الحالي، حيث نقدم، في كل حلقة، أبرز هذه المعارك وخسائرها وآثارها، وما آلت إليه مصائر الملايين إن لم نقل الملايير من الناس عبر العالم..
الحرب الصينية اليابانية الثانية.. الحرب التي خلفت ما يزيد عن 85 مليون قتيل
بعد حرب جمعت بينهما دامت لستة أشهر (25 يوليو 1894 – 17 أبريل 1895) بسبب نزاع قام بين سلالة تشينغ الحاكمة للصين من جهة، وإمبراطورية اليابان من جهة أخرى من أجل النفوذ في مملكة جوسون الكورية، وآل الانتصار فيها إلى اليابانيين وجنوح حكومة تشينغ للسلم في فبراير 1895، ستعود الحرب من جديد بين الصينيين واليابانيين لكن المرة الثانية كانت أكبر حدة.
في 7 يوليو 1937، بدأت الحرب الصينية – اليابانية بحادثة “جسر ماركو بولو”، إذ تصاعد النزاع بين القوات اليابانية والصينية ليصل إلى معركة حربية. وبالرغم من كون بعض المصادر رجحت وقوع الحرب مع بداية 1931 عقب الغزو الياباني لإقليم منشوريا التابع للصين خلال نفس السنة، إلا أن أغلب المراجع تشير إلى اندلاع الحرب بين القوتين الصينية واليابانية عام 1937.
كانت الحرب اليابانية الصينية الثانية نزاعا عسكريا دار في المقام الأول بين جمهورية الصين وإمبراطورية اليابان، نتيجة لسياسة الإمبريالية اليابانية التي دامت عقودا من الزمن؛ بغرض توسيع نفوذ الامبراطورية اليابانية سياسيًا وعسكريا، وذلك من أجل تأمين الوصول إلى احتياطيات المواد الخام ولتأمين الوصول إلى الغذاء والعمالة.
هذا التهافت الياباني الصيني على السيطرة على المواد الخام والذي جاء في سياق ما بعد الحرب العالمية الأولى، والتي كانت فترة عرفت زخما في الصناعات وتداول النفط والميكانيك وغيرها، الأمر الذي سيشكل مزيدا من الضغوط على الحكومة اليابانية؛ خصوصا بعد سعى اليساريين إلى المطالبة بحق الاقتراع العام ونحو منح العمال مزيدا من الحقوق.
كما أدت زيادة إنتاج المنسوجات من قبل المصانع الصينية إلى التأثير بالسلب على الإنتاج الياباني، ولعل الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 ستعمق التباطؤ والتراجع الشديد فيما يخص الصادرات.
هذه المعطيات كلها ستزيد من تنامي النزعة القومية المتشددة، والتي بلغت ذروتها بصعود فصيل عسكري فاشي إلى السلطة في اليابان. حيث قاد هذا الفصيل في ذروته مجلس وزراء «هيديكي توجو» التابع لرابطة مساعدة حكم الإمبراطورية بموجب مرسوم من الإمبراطور هيروهيتو.
“حادثة موكدين” وغزو اليابان لإقليم منشوريا
وفي عام 1931، ساعدت “حادثة موكدين” في إشعال شرارة الغزو الياباني لإقليم منشوريا التابع للصين، والتي تلقى حينها الصينيون هزيمة نكراء، ولذلك يشير العديد من المؤرخين إلى عام 1931 باعتباره بداية الحرب اليابانية الصينية الثانية.
بالمقابل، كانت المشاعر القومية بدأت في الاستيقاظ في الصين، وذلك بالتوازي مع بدايات تشكل الحزب الشيوعي الصيني في مطلع عشرينيات القرن الماضي، إذ سرعان ما نشب النزاع بين التيارين، القومي والشيوعي، ليتحول إلى حرب أهلية طاحنة. الطرفان كان يدغدغ مخيلتهما حلم استعادة “عظمة الصين الضائعة” في العالم.
وهكذا، وبعد هزيمة الصين في 1931، لعدم جاهزيتها وبسبب الصراعات الداخلية، استمرت المناوشات بين البلدين في اشتباكات محلية صغيرة، تسمى “الحوادث”، إلى حين وصول سنة 1937 التي ستعرف حادثة ما يسمى بـ “جسر ماركو بولو”، والتي حقق اليابانيون في أعقابها انتصارات كبرى، فاستولوا، في عام نفس السنة على بكين وشنغهاي والعاصمة الصينية نانجينغ، وأدى ذلك إلى حدوث مذبحة نانجينغ.
بعد الفشل في إيقاف اليابانيين في معركة ووهان، نُقلت الحكومة المركزية الصينية إلى تشونغتشينغ (تشونغكينغ) في الداخل الصيني، وبحلول عام 1939، وبعد الانتصارات الصينية في تشانغشا وجوانغشي، ومع امتداد اتصالات الجنود اليابانية إلى أعماق الداخل الصيني، وصلت الحرب إلى طريق مسدود.
وجدت اليابان نفسها عاجزة عن إلحاق الهزيمة بالقوات الشيوعية الصينية في شنشي، والتي أعادت ترتيب نفهسا بقوة، لتشن حملة من التخريب وحرب العصابات ضد الغزاة. وفي الوقت الذي أحكمت اليابان سيطرتها على المدن الكبرى كانت تفتقر إلى العدد الكافي من القوات للسيطرة على المناطق الريفية الشاسعة في الصين.
الهجوم الصيني المضاد
في نونبر 1939، شنت القوات القومية الصينية هجوما كبيرا في فصل الشتاء، في حين شنت القوات الشيوعية الصينية هجوما مضادا في وسط الصين في أغسطس 1940.
هذه العودة الصينية إلى قوتها ومجابهتها للمد الياباني، ستجعل من اليابان تتراجع بعض الشيء، خصوصا مع التدخلات الدولية واندلاع الحرب العالمية الثانية التي كانت اليابان طرفا فيها.
ولعل ما سيضعف اليابان أكثر هو لجوءها في في 7 دجنبر 1941، إلى مهاجمة الأسطول الأمريكي في قاعدته البحرية في ميناء بيرل هاربر، لتعلن الولايات المتحدة الأمريكية في اليوم التالي الحرب على اليابان. حيث بدأت في مساعدة الصين بنقل المواد جوا عبر جبال الهيمالايا، وتوالت بذلك المعارك بين الصين مدعومة من أمريكا في مواجهة اليابان.
وبعد سلسلة من الكر والفر بين الصينيين واليابانيين، استطاع الصينيون استعادة العديد من أراضيهم، قبل أن تعلن اليابان في استسلامها في شتنبر 1945، لقوات الحلفاء في أعقاب إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناكازاكي.
كما استسلمت قوات اليابان المتبقية رسميا في التاسع من شتنبر 1945، مع انعقاد المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى في 29 أبريل 1946. وبعد نهاية الحرب قرر حلفاء الحرب العالمية الثانية الذين دعموا الصين كبح ومعاقبة العدوان الياباني من خلال إعادة جميع الأراضي التي ضمتها اليابان من الصين، بما في ذلك منشوريا وتايوان / فورموزا وبسكادورز، إلى الصين، وطرد اليابان من شبه الجزيرة الكورية.
وكانت الصين أكبر فائر في الحرب، إذ أنها من وسط تطاحنات داخلية بين التيار القومي والشيوعي استطاعت أن تعيد ترتيب أوراقها وتدخل في تحالف دولي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مكنها من نيل الاستقلال التام، كما جعلها واحدة من أكبر أربعة حلفاء خلال الحرب، وأصبحت واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
أزيد من 85 مليون ضحية في الحرب
وبالرغم من الانتصارات التي حققتها الصين في الحرب، إلا أن ذلك كان مرتبطا بسلسلة من الخسائر البشرية والمادية، حيث عرفت الحرب ما يزيد عن 17 مليون قتيل من المدنيين، فضلا عن ملايين القتلى العسكريين، وملايين المفقودين.
وبلغت تكلفة الحرب في مجملها بين 50 وأزيد من 85 مليون قتيل وتعد من بين أبشع الحروب خلال ثلاثينيات وأربعينيات الماضي، خصوصا مع تزامنها مع الحرب العالمية الثانية..
> إعداد: توفيق أمزيان