تدفع الحرب الروسية – الأوكرانية التي تدور رحاها بأوروبا الشرقية، والتي أججت التوتر بين الغرب وموسكو وتنذر باتساع رقعتها نحو، ما وصفه مراقبون، “حرب عالمية ثالثة” لها تكاليف باهظة ليس على المنشئات والبنية التحتية فقط وإنما على مستوى الأرواح وعلى ملايين الناس الذين تنقلب حياتهم رأسا على عقب، إلى تقليب صفحات الماضي، لاستحضار ما دون من تفاصيل حروب طاحنة جرت خلال القرن الماضي، وبداية القرن الحالي.
في هويات متداخلة، كما في روسيا وأوكرانيا، لم يبق أحد خارج الحرب. انتهت الحروب وحفرت جراحا لا تندمل وعنفا لا ينسى. وفي هذه السلسلة، تعيد “بيان اليوم” النبش في حروب القرن الـ 20 والقرن الـ 21 الحالي، حيث نقدم، في كل حلقة، أبرز هذه المعارك وخسائرها وآثارها، وما آلت إليه مصائر الملايين إن لم نقل الملايير من الناس عبر العالم..
من النكسة إلى حرب الاستنزاف.. محاولة مصرية لتخفيف وطأة هزيمة 1967
عقب الهزيمة التي تلقتها الجيوش العربية المكونة من مصر وسوريا والعراق والأردن عام 1967 من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي وبعد الزحف الذي قام به الاحتلال واستطاع من خلاله احتلال مناطق واسعة من مصر وفي مقدمتها سيناء كاملة، دخلت مصر في ما سمي “حرب الاستنزاف” وذلك مباشرة بعد قرار مجلس الأمن واستسلام الجيوش العربية في ما وصف بالنكسة عام 1967.
وتعد حرب الاستنزاف نوعا من الحروب التي يسعى من خلالها أحد أطراف المواجهة إلى تقويض القوة العسكرية للخصم عبر استنزاف مقدراته وتكبيده خسائر مادية كبيرة وتدمير معنويات الجنود بجرهم إلى دائرة مفرغة من المواجهات المتقطعة.
كان مفهوم حرب الاستنزاف قد بزغ بشكل كبير خلال الحرب العالمية الثانية، وزادت حدته مع ما سمي بالحرب الباردة، وهو المفهوم الذي سيتبناه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، في محاولة منه لرد الاعتبار عقب نكسة 67.
بداية حرب الاستنزاف
تعود أسباب اندلاع ما سمي حرب الاستنزاف إلى أسابيع بعد هزيمة 67، خصوصا حينما تقدمت المدرعات الإسرائيلية صوب مدينة بور فؤاد بهدف احتلالها، وذلك في يوليوز 1967، أياما قليلة بعد اتفاقيات الهدنة، وقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، وهو ما جعل القوات المصرية تتصدى لها من خلال فرقة الصاعقة المصرية، وعرفت حينها بمعركة رأس العش.
تصاعدت العمليات العسكرية خلال الأشهر التالية خاصة بعد مساندة العرب لدول المواجهة أثناء مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، ورفض إسرائيل لقرار مجلس الأمن 242 الداعي لانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلها عقب انتصارها الخاطف في حرب يونيو.
استغل جمال عبد الناصر الذي عاد للسلطة بعد استقالته في اليوم السادس من حرب 67، خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار، وأعلن عن الدخول في سلسلة من الهجمات لاستنزاف قوة الاحتلال، مركزا جهده على الضفة الشرقية لقناة السويس.
بدأت حرب الاستنزاف ضد القوات الإسرائيلية المحتلة بصحراء سيناء بشكل مستمر ومتواصل منذ ذلك الحين وزادت بشكل أكبر عام 1969، وصرح حينها جمال عبد الناصر أنه ليس عاجزا عن اجتياح سيناء لكنه قادر على تدمير معنويات الجيش الإسرائيلي.
وفي مارس من نفس السنة بدأت المدفعية المصرية في شن قصف كثيف ضد المواقع الإسرائيلية، وردت عليه إسرائيل لاحقا بغارات جوية كثيفة استهدفت المدن والبلدات الواقعة على الضفة الغربية للقناة ما دفع أكثر من 750 ألف مدني إلى النزوح.
وتختلف الروايات بين من اعتبر أن البداية الفعلية لحرب الاستنزاف كانت ثلاثة أسابيع بعد هزيمة 1967، أي صيف ذات السنة، وبين من حددها في 1968، لكن مختلف المصادر تجمع على أن أبرز العمليات العسكرية في هذه الحرب جاءت في مارس 1969، وكان هدف عبد الناصر من العملية حرمان إسرائيل من تعزيز مواقعها على الجبهة، في انتظار المد الروسي من العتاد والذي تقرر إثر الهزيمة العسكرية.
واعتمد عبد الناصر في تعزيز هجومه على قوات الاحتلال الإسرائيلي، على فصائل المقاومة الفلسطينية الذي كان جهدها وعملها جوهريا في تلك الحرب حيث شتتت تركيز جيش الاحتلال وكبَّدته خسائر خصوصا على الجبهة الأردنية التي شهدت معركة الكرامة التي كانت أول نصر رمزي استعاد به العرب بعض كرامتهم بعد النكسة.
استمرت الحرب لنحو ثلاث سنوات، واشتدت كما ذكرنا ابتداء من مارس 1969، وخلالها استهدفت غارات سلاح الجو الإسرائيلي المدنيين المصريين أملا في إخضاع القيادة السياسية المصرية، مستخدمين في ذلك مقاتلات الفانتوم الأميركية الحديثة، بالمقابل استعان المصريون بالخبراء السوفييت وصواريخ الدفاع الجوي السوفياتية لتأمين العمق المصري.
تفاصيل ثلاث سنوات من المعارك
بعد استكمال الجيش المصري لخطوطه الدفاعية وتماسكها في نطاقات عميقة غرب قناة السويس، تكونت احتياطيات الجبهة خفيفة الحركة، وكانت الخطط النيرانية تعتمد على المدفعية بأعيرتها المختلفة، حيث بدأت الدوريات المصرية المقاتلة من المشاة والقوات الخاصة والمهندسين في التسلل شرقا، ومهاجمة المواقع الدفاعية الإسرائيلية، مع التركيز ضد المناطق الإدارية الإسرائيلية وكانت المدفعية تؤمن أعمالها بالنيران.
استمرت معارك المدفعية والتراشق بالنيران طوال مرحلة الصمود التي شكلت مهد هذه الحرب، واستهلكت فيها آلاف الأطنان من الذخائر بمعدل فاق جميع الحروب السابقة، إضافة إلى نشاط أفراد القناصة المهرة، الذين دربوا لقنص أفراد الجيش الإسرائيلي وقادته، سواء في نقاط المراقبة، أو أثناء تحركهم على الضفة الشرقية للقناة.
وعلى صعيد رد الفعل الإسرائيلي بعد معركة رأس العش، قامت القوات الإسرائيلية يوم 4 يوليوز 1967، بمحاولة فاشلة لإنزال لمشاة وقوارب في قناة السويس في مناطق القنطرة، وكبريت والشط، وبور توفيق، لإبراز سيطرتها على القناة، إلا أن القوات المصرية تصدت لها في البر والبحر والجو، مما أدى إلى إفشال جميع المحاولات بعد أن أصيب لإسرائيل 8 طائرات، و8 زوارق بحرية، فضلاً عن إصابة وتدمير 19 دبابة، و18 مركبة مدرعة، و27 مركبة محملة بالذخائر، إضافة إلى خسائر كبيرة في الأفراد، في حين كانت خسائر القوات المصرية 3 طائرات، وزورقان بحريان، فضلا عن عدد من الجنود والقادة ونزوح آلاف المدنيين.
استمر الهجوم المتبادل بين الجانبين، وتمكن الجيش المصري من تدمير المدمرة إيلات، في 24 أكتوبر 1967، لترد القوات الإسرائيلية على طول الجبهة، بتوجيه قصف ناري مركز ضد مدن القناة ومصانعها وضد المدنيين، وتسببت في نزوح جديد للمدنيين.
معارك موازية
من أجل تقسيم طاقة الجيش الإسرائيلي وتشتيته، شهدت الحرب أيضا معارك محدودة بين الاحتلال الإسرائيلي وكل من سوريا والأردن والفدائيين والمقاومين الفلسطينيين، ما جعل الأمور تسوء بالنسبة لجانب الاحتلال، وبدأت مشاعر المصريين تتحمس لاستعادة سيناء وطرد الاحتلال منها.
كان الغرض من هذه المعارك هو تنشيط الجبهة والاشتباك بالنيران مع القوات الإسرائيلية بغرض تقييد حركة قواتها في الخطوط الأمامية على الضفة الشرقية للقناة، وتكبيدها قدرا من الخسائر في الأفراد والمعدات، واستغرقت هذه المرحلة المدة من شتنبر 1968 إلى فبراير 1969.
و تصاعد القتال إلى مرحلة جديدة أطلق عليها الاستنزاف أو مرحلة التحدي والردع، وذلك من خلال عبور بعض القوات والإغارة على القوات الإسرائيلية، وكان الهدف منها تكبيد إسرائيل أكبر قدر من الخسائر في الأفراد والمعدات لدفعها نحو التراجع من سيناء، إلا أن الأمر لم يحدث، لكن بالمقابل تقوت عزيمة الجيش المصري، واستمر تطعيم الجيش المصري عمليا ومعنويا للمعركة مع الاحتلال واستعادة سيناء، واستمرت هذه المرحلة من مارس 1969 إلى غشت 1970.
نهاية الحرب
في 7 غشت 1970 انتهت المواجهات بقرار من الرئيس عبد الناصر والملك حسين الذين أعلنا قبول مبادرة روجرز التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في 5 يونيو 1970 عن طريق وزير خارجيتها وليام روجرز لوقف إطلاق النار لمدة 90 يوما بين مصر وإسرائيل وأن يدخل الطرفان في مفاوضات جديدة لتنفيذ القرار 242 القاضي بالوقف التام للحرب.
وهكذا توقفت الحرب لكنها لم تؤد الحرب إلى أي تغييرات في خطوط وقف إطلاق النار، ولم تنجح كذلك المساعي الهادفة للتوصل إلى تسوية سلمية بسبب التعنت الإسرائيلي، وإنما سادت حالة من اللاسلم واللاحرب، والتي ستؤدي إلى نشوب حرب أكتوبر بعد ثلاث سنوات بقيادة الرئيس الراحل أنور السادات، وهي الحرب التي سنتحدث عنها في الحلقة المقبلة.
> إعداد: توفيق أمزيان