حول ما وقع في جنوب بيروت…

لا جدال أن ما أقدمت عليه قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت يعتبر جريمة بشعة لا يمكن لكل ديموقراطي عبر العالم سوى إدانتها وشجبها واستنكارها.

لم يكن الأمر نزالا أفضى إلى مقتل شخص وقضي الأمر، ولكن الأمر يتعلق بنظام إجرامي استعماري، وأقدم في الأيام الأخيرة، علاوة على حرب الإبادة التي يقترفها في غزة وفي كل فلسطين، على تصعيد القصف الجوي الواسع على مناطق لبنانية تمتد من الجنوب الى البقاع والجبل والساحل، وتوجيه ضربات مركزة على الضاحية الجنوبية في بيروت، ثم زاد بتوسيع نطاق وحجم غاراته في لبنان، ونجم عن كل هذا دمار واسع في البلد، ثم اغتيالات وضحايا…، وكل هذا لا معنى له سوى أنه جرائم احتلال، وحرب بشعة استهدفت لبنان، وهو ما لا يمكن، بداهة، سوى إدانته والتنديد به.

وغير هذا هو كلام صبياني بلا قيمة…

من دون شك يستمر  اليوم المحللون السياسيون والخبراء الأمنيون والعسكريون في استعراض تفاصيل ما وقع، وعرض الفرضيات والتخمينات والقراءات لاستخراج الدروس وتحديد المسؤوليات ونقاط القوة والضعف والاختراقات، ولكن كل هذا لا يلغي أن ما وقع في لبنان يرسم اليوم معالم مرحلة استراتيجية جديدة ومختلفة في المنطقة كلها.

إن ما تنقله المنصات الإعلامية هذه الأيام وما يحكيه الخبراء والعارفون بتفاصيل المنطقة يطرح أسئلة كثيرة حول المقدرات والتحصينات ومستويات التداخل والاختراق، كما يطرح علامات استفهام حول مواقف وحسابات القوى الإقليمية والدولية ذات الصلة بأوضاع لبنان، وكل هذا يطرح علينا ما إذا كان ما حدث يعتبر نهاية مرحلة في الصراع وبداية أخرى، وما إذا كانت المنطقة بصدد تغيير الحسابات الإستراتيجية والتاكتيكية المتعلقة بالوضع في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.

وفي كل الأحوال، يبقى الثابت والجلي أن الكيان الإسرائيلي هو  نظام احتلال مجرم، وأن القضية الفلسطينية هي عمق الأزمة ومن الضروري إيجاد حل عادل ودائم لها، وان لبنان يستحق العيش بلدا حرا ومستقلا وآمنا، ودون السعي إلى هذه الأهداف ستستمر الحرب، وستتواصل مقاومة الاحتلال بالشكل الذي تختاره الشعوب وقواها الوطنية، وقد تبرز دائما تيارات متطرفة ما دامت البيئة محفزة على ذلك، وما دام الاحتلال الصهيوني قائما.

الكثيرون اختلفوا منذ عقود مع التيار الذي قاده حسن نصر الله، سواء داخل لبنان أو في الخارج، وفي حين كان يناديه ويلقبه أنصاره ب”السيد”، كان المختلفون معه وخصومه يتهمونه بالارتهان لإيران والولاء لحكامها، ويحملونه مسؤولية التحكم  السياسي والأمني في لبنان، وينبهون إلى انه صار يمتلك عتادا حربيا يفوق ما لدى الدولة اللبنانية.

وللتذكير، هذا التشكيل السياسي والعسكري هو الوحيد من القوى اللبنانية الذي احتفظ بسلاحه بعد انتهاء الحرب الأهلية في 1990 عقب التوقيع على اتفاق الطائف، ثم طوره لاحقا، ولم يتردد في مراحل مختلفة في استعماله في الداخل اللبناني، ونجح في التحكم في القرار السياسي الداخلي، وتورط في القتال إلى جانب نظام بشار الأسد في سوريا ودعم الحوثيين في اليمن والقتال كذلك في العراق، وفي كل هذا كان ولاؤه لإيران فقط، وذراعا لتطبيق مخططاتها وحساباتها في المنطقة.

هذا كان يدركه الكثيرون، وهو أيضا ما أثار نقاط استفهام كبيرة حول موقف النظام الإيراني الآن مما حدث في جنوب لبنان، وما قد يكشف المستقبل عن تفاصيله وأسراره وحساباته.

ربما حسابات القوى الإقليمية والدولية بشأن الشرق الأوسط استنفذت دورها، ويجري  العمل على صياغة خطط أخرى مختلفة للمستقبل، وهو ما ستبرز معالمه في المقبل من الأعوام.

وهنا تطرح أمام الجميع التحديات الواضحة اليوم دوليا وإقليميًا، وجراء تبدل المصالح والتموقعات الإستراتيجية وحسابات الدول، ونخلص، تبعا لذلك، إلى أن بلادنا بدورها من حقها التفكير في مصالحها الوطنية أولا، واستحضار حساباتها هي كذلك امام ما يحياه العالم من تغيرات وصراعات.

لقد أوردنا أعلاه أن المواقف المبدئية لا جدال فيها أو عليها، ذلك أن القضية الفلسطينية هي عمق الأزمة ويجب الوصول إلى حل عادل ونهائي ودائم لها على أساس دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ومن حق لبنان أن يكون بلدا مستقلا وحرا وآمنا وذا سيادة، وأن الكيان الإسرائيلي هو نظام استعماري مجرم ويقترف اليوم الإبادة وبشاعة الإجرام.

ولكن المسؤولية أيضا ملقاة على أطراف محلية وعربية ذات صلة.

أين هي جامعة الدول العربية مثلا؟

ما هي مسؤولية القوى السياسية اللبنانية وكل نخب البلاد تجاه شلل الوضع السياسي والمؤسساتي العام منذ مدة طويلة؟

ما هي أدوار القوى الفلسطينية ذاتها تجاه الفشل في الوصول إلى وحدة الصف الداخلي الفلسطيني في غزة وفي غير غزة؟

لماذا بقي التشكيل السياسي والعسكري لنصر الله متحكما في المشهد السياسي الداخلي بلبنان ومنفذا لخطط النظام الإيراني طيلة سنوات؟

نحن في المغرب لن نحاسب الآن نصر الله بسبب مواقفه ومعاداته لقضيتنا الوطنية، فلقد رد المغرب عن الاستفزاز والاستهداف في الحين، ولكن نستلهم من الأمر كله درسا جوهريا، وهو أن مصلحة وطننا تبقى دائما فوق كل اعتبار أو حساب، وهذا هو الحساب والمبدأ المعمول بهما دائما من طرف المغاربة، وهو نقطة القوة لديهم.

ولكن عندما يرتهن البعض إلى حسابات دولة أجنبية ولا يبالي بالوطن ومصالحه ويكون ولاؤه للأجنبي، هنا يسمى السلوك خيانة، وطال الزمن أم قصر تنقلب الأمور إلى عكسها، ويقع السقوط على مرآى الجميع، كما حدث في جنوب بيروت تماما.

ويصمت النظام المحرك من خلف، وتنفضح الخيانة أمام الجميع.

ما حدث هو درس بليغ لمن يجعل الولاء لغير وطنه، ولمن يجعل مصالح الأجنبي أسبق أو قبل أو مكان مصلحة الوطن.

محتات الرقاص

[email protected]

Top