عصفها ألف خَريف و ما زالت تَحمِل إكليلاً مِن الوردِ في قَلبِھا، ورجعت من جديد لمُواجهة نفسها بين الصمت والضجيج، تبحثُ عن معالم ضاعَت وسط زِحام الأيام..
كان كل قرار يبدو كصخرةٍ ثقيلة، وكل طريقٍ مشَت فيه مليئًا بالأوهام…
وأتساءل باستمرار… من أنا الآن؟ هل أنا تلك التي حَلِمَت بالوصول يوماً ما؟
فتُجيبُني عيني بتعبٍ، وكأنها تَسرِد قصة جهد بلا ثمر.. فالعمر يَمضي سريعاً، كأنهُ سِباق ضد عقارب الزمن، وأنا مازِلتُ أبحث عن معنى وسط الركام..
كلما حاولت التّوَقّف لألتقط أنفاسي، يأتي صَوت داخلي يطالبني بالمزيد..
أنا التّناقض
أنا الغُربة واللا شيء، أنا الضَياع بِذاته…
فَلا تأخُذني أيها العابر لحروفي على مَحمَل النَجاة، لأنّني الغَرق المتخم بالحنين، وذاكرتي التي لا تتماهى مع النسيان والذكريات العقيمة، وطفلة ما زالت ترتاد ذات الحي، ولا ترهقها الخطوات الشاردات لذاك الصوت المنبعث من بعيد ..أو ربما من النوافذ الحزينة التي تقطنها اليمامات، لعصافير حيّنا ولأحاديث الجارات، وللبائع المتجول الذي كان يحمل الحلوى على أجنحة الفراشات …ليبحث عن الأحلام الطيبة، والزمن الذي ما زلت اعتقد انه مر فقط في أحلامي وضفائر الأماني الغافية .ولكل من توجعه الذكريات والأيام الهاربة …ليمر العمر على موعد شارد مع عناق خطوك بعد طول انتظار..
ياه كم هي طويلة، هذا اليوم، سويعات الدجى ..
وقد راودت ضفائر الليل لعلي أغفو، وقد أبت عيوني أن تحتضن سنة الحياة ..
فما كان من الخزام إلا أن يستيقظ وقد فارت في التنور قهوتي..
فيا رب دثر ثغري بالبسمة، ودع يمامات الحي يغدقن الدوح بهديلهنّ ..فتطوي كل منهن الأحلام بحقائبي المسافرة عبر الذاكرة وفصولها الهرمة.. وبقايا أرجوحة ما زالت تحمل وجهي الذي نسي أن يكبر ..
لوحة-للفنان-التشكيلي-عبد-الإله-الشاهدي
أتوق لأبجدية عذراء وبيت قصيد لم يكتمل بعد.. ورائحة خبز في زقاق ضيق، ودميتي التي ما زالت تربكها السنوات والقليل من الضحكات وبعض الرفاق ..
تبدو حقائبي مرهقة، ففي كل مرة تصحو على ضجيج ذاكرتي، لتثاءب ثم تلملم بقاياها وتنام .
فليت الحقائب تخبئ الأنفاس، والأحضان الدافئة وسحباً تمطرنا أحباباً، وعيوناً ما زالت تمسك على شفيف اللحظات ..
تهاجر أنفاسنا في حواصل لوتس وتعوم في رضاب الاشتياق، ليغردنا عصفور عانق زجاج نافذة مكسور يضمد أتراحه بقبلات يتيمة الشفاه ..وشطآن اللحظ تندب نظرةً باتت من عناق الملح جرداء ..
ليالي تشرين تسرح ضفائرها بالذكرى والدرب أصبح خالياً من الرفاق وصاحب البيت يحتال على اليمام، ينثر فتات اللهفة فوق فخ ملون وشرفته باتت مليئة بأسراب حمائم مكسورة الخاطر..
تباً له… ولساعي البريد الذي ما فتئ يجلب مكاتيب أعدتها مئات المرات, ربما نسي طريق بيتنا.. وليت قارئة الفنجان تقابله صدفة فتنسيه أسم شارعنا، لتلتهمنا الأشواق، فتغرف دمعاً من قدر الآماق..
تبكي للوعتنا يمامة، كانت تسكن الرواق، وتسلفنا يراعاً، وكومة أوراق .فنوقظ قافية وحرفاً أرهقه الحزن بالعناق ..تقول للعابرين مهلاً، العمر لحظة وهيهات أن يباع من جديد في الأسواق ..
بينَ الليالي المُرعبة، نَمضي بروحٍ مُتعبةَ، بَالأمس كانَت ضحكَتنا صوتا شَجِيًّا واضحا، وَالآخرين فِيها مُعَجبة، واليَوم يبدو أنّها لا تَستَمِر وتختفي مثل الوعود الكاذبة، الظلام صارَ رفيقنا، ليَمنعنا من العمل، من متابعة الأخبار٬ ومن الهروبِ نحوَ الخارج بحُكمِ بدءِ موشحات الشتاء، نعيشُ أصعب أيامنا، شلَلٌ يَستبدِلُ لغة الحياة ويفرِضُ الصمت…
نكتُب لأنّنا نؤيد الصوت الصاخب نُؤيّدُ البقاء على خط الحياة٬ ونُريد زَج كل من يرى في معاناتنا استعراضًا ولَفتا للنظر في محرقة النبذ والتخلّي… نكتُب لأنّ التاريخ بَدأَ يولَد في مشرحتِنا… نكتُب علّناً نجِد ما يقول لنا أننا بخير..
في شقوق الجدران العتيقة، تنساب حكايات الراحلين، كنهر من الذكريات، في كل شَق يَحُطّ في فضاء الصمت ملحمة حنين لا يعرف للسكينة طريقًا.. ننظُر في المرايا باحِثين عنّا،
فلا نجد سوى أطياف تاهت في مَمرّات الزمن، يختلِط الحلم بالواقع والذكريات تنزلق كالماء بينَ أصابعنا، نرى وجوهنا ولكنها ليست وجوهاً من لحمٍ ودَم بل صورة مُشوّشَة ضبابِيّة..
تحمِلُ في طيّاتِها صدَى أوقات مضَت.. تجارُب تركت أثرَها ولكنها لم تُكمِل مسارها.. أسدلت الستار وأعلنت النهاية بلا نهاية واضحة..
فسلام على من يألفهم القلب في الحضور وفي الرحيل ..
سلام على طيفهم في الصباح والمساء، وحين يكون بين الأضلع نزيل ..
سلام على أرواحنا المتعبة ونبض قلوبنا والدمع الهميل ..
فيا ليتنا يمام ينشر أحلامه على كتف موال يقتات على الحنين وهمس الهديل ..
وليت احدهم يهديني ديوان شعر، قرطاسه كف العذارى ومدادُه ريق سيل، غلافة ذكريات عتيقة.. وعنوانه .. رسائل عجولة عجزت من الغياب النبيل ..
بقلم: هند بومديان