إن الكتابة التاريخية في موضوع اليهود بالمغرب لا تخلو من صعوبات وعلى رأسها التعقيد الشديد الذي تتميز به ظاهرة الأقليات بالمغرب، وقد صرح بذلك المؤرخ المغربي محمد كنبيب في كتابه “يهود المغرب 1912-1948” والذي يعد من أمهات الكتب التي تتوخى الدقة والمنهج التاريخي العلمي في موضوع اليهود المغاربة كمادة تاريخية واجتماعية …
لقد تناولت الكتابات الإثنوغرافية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يهود المغرب بالدرس والتحليل على مستويات عدة منها، التوطين والسكن والأنشطة الاقتصادية والحرفية واللهجات والعادات والتقاليد والموروث الثقافي عموما، وكل هذه الكتابات لا يمكن المجادلة في قيمتها وفائدتها.
لقد شكل التواجد اليهودي بإفران الأطلس الصغير موضوع دراسات متعددة لكن أغلبها يرجع إلى الحقبة الكولونيالية حيث انتقل إلى إفران الأطلس الصغير مجموعة من الباحثين والأنثروبولوجيين الفرنسيين والإنجليز وكتبوا مقالات ونشروا دراسات على صفحات مجلات متخصصة إبان عهد الحماية منها:
مجلة:hespéris-Bulletin de la société de la préhistoire de Maroc – revue des études islamique ومن بين هذه الدراسات ما كتبه Vincent Monteil بعنوان les juifs d’ifrane
كما نشرت العديد من المقالات والإشارات حول يهود إفران من طرف أجانب آخرين على غرار pierre flamand وde la chapelle و jacques Meunie ……
ولا مناص من هذه الدراسات والأبحاث بالرغم من بعدها الاستعماري وكتاباتها في عهد الاستعمار بالمغرب، لأن هذه الدراسات توفر إطارا نظريا لا بد منه للانطلاق لدراسة الموضوع من زاوايا متعددة خصوصا وأن الكتابات المغربية أو الكتابات المحلية حول هذا الموضوع نادرة جدا، مما يحثم على الباحث المرور إلى الرواية الشفوية والبحث عن استنطاق الوثائق المحلية من عقود وأعراف وظهائر…
لفظة إفران.. والبعد اليهودي
من بين الفرضيات التي ناقشتها الرواية الشفوية حول دلالات تسمية “إفران” أنها ترجع بالأساس إلى الملك “أفراتي” ephrati الذي ينتسب إلى “إفراييم” الابن الثاني للنبي يوسف عليه السلام، وهي إحدى قبائل بني إسرائيل الإثني عشر.. وحسب الرواية التي أوردها الباحثان “أحمد الراطب” و”الطاهر أبو الأنوار”، فإن الملك “افراتي” أسس أول مملكة يهودية بالجنوب المغربي، هنا نورد لتسمية “اوشليم الصغرى أو القدس الصغيرة التي تنعث بها إفران الأطلس الصغير في الكتابات الأوروبية والتي كان اليهود يطلقونها على إفران الأطلس الصغير .
وصول اليهود إلى إفران الأطلس الصغير
عند دراستنا لمجموعة من الكتابات الأوروبية نستخلص أن يهود إفران قدموا إليها زمن “نبوخذ نصر البابلي” بعد الهدم الأول لهيكل سليمان 586 قبل الميلاد، حيث مروا بمصر واجتازوا الضفة الشمالية للصحراء واستقر بهم المقام أخيرا على أرض إفران حوالي 360 ق. م، فكانت الكهوف والمغارات التي تتميز بها المنطقة أولى مظاهر استقرار اليهودي بإفران ثم بعد ذلك اشتروا الأرض من السكان المحليين حسب الرواية التي أوردها الباحثان أحمد الراطب والطاهر أبو الأنوار .
وتتعد سيناريوهات وصول اليهود إلى إفران غير أن الباحثين المغاربة يشتركون في قِدم استقرار اليهود بجنوب المغرب لكن الجدل قائم في الأقدمية، هل هي لإفران الأطلس الصغير أم لمنطقة “تمنارت” التي لا تبعد كثيرا عن إفران حيث يعتقد أن أقدم ملاح يهودي بالجنوب يتواجد بها، وقد ناقش الأستاذ شفيق أرفاك أطروحة الدكتوراه حول تمنارت واستفاض كثيرا في هذا الموضوع .
الصورة الثقافية لليهود
في المثل الشعبي الإفراني
من المؤكد أن للصورة الثقافية التي تحملها الشعوب عن بعضها البعض دورا حاسما في تسليط الضوء عن قرب حول العلاقة بين الذات والآخر إن سلبا أو إيجابا فهي التي تترجم التباعد والتقارب أو التقارب والتفاهم .
وتعتبر الأمثلة الشعبية خزانا ثقافيا يتضمن كل العناصر المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا والميثولوجيا والسوسيولوجيا وكل العلوم التي تدرس الإنسان في علاقاته مع ذاته أو محيطه، لهذا ارتأيت إدراج بعض الأمثلة الشعبية المتداولة بإفران، فمنها من اختفى منذ عهد قريب ومنها ما تحتفظ به الذاكرة الجمعية للمسنين ومنها على سبيل الإشارة لا الحصر:
•”أوركيك مينقان أوداي ولا ميتسين أولكنس”
الترجمة التقريبية لهذا المثل: “لست قادرا على قتل اليهودي ولن تقدر على أخذ حقيبته منه”.
ويطلق الأجداد هذا المثل على الشخص الضعيف غير القادر على تحمل مسؤوليته والذي تسلل إليه الكسل والهون ولم يعد نشيطا في حياته اليومية.
وما يستفاد من هذا المثل اجتماعيا هي اعتبار قتل اليهودي وسرقة ما بحوزته أمرا عاديا ويدخل ضمن نطاق الواجب والدور النشيط الذي يجب على الإفراني غير اليهودي أن يقوم به تجاه اليهودي، الأمر الذي يعني التوتر الذي يصل حد الموت وسلب الممتلكات بين الأهالي الآخرين وعلاقتهم باليهودي.
•”تدا ماك إيويت أوداي غ صاع إلامن”
ترجمته: “لقد رحلت الأم واستبدلناها مع اليهودي بصاع من النخالة”
هذا المثل قل سماعه اليوم إلا في البيوت التي لا زالت تكتنز أرواح الجيل القديم، فيطلق هذا المثل على الأطفال الذين يرجعون إلى بيوتهم من المدرسة ليتساءلوا عن مكان أمهم كما جرت الفطرة والطبيعة وغالبا ما تكون الأم غائبة عن البيت عند رجوع الأطفال من المدرسة أو المسيد لتواجدها في البساتين والحقول أو جمع حاجات البيت لإعداد الطعام أو لزيارة الأهل.
ويصطدم الطفل بهذا المثل من طرف جدته أو الجد أو الخالة أو العمة فينفجر بكاء لتعود الأسرة وتكذب الخبر وينفرج هم فلذة الكبد.
وما يستفاد من هذا المثل عناصر متعددة أهمها أن اليهودي يدخل في عملية متاجرة ومقايضة مع باقي الأهالي من المسلمين في جو من الثقة والمصلحة المتبادلة، غير أن مقايضة الأم أمر مستحيل لأن دورها في هذا المثل مجاز أريد به تخويف وبث الفزع في صفوف الأطفال لمعرفة ما مدى تعلقهم بالأم .
•”أّزلات هان سرون تروا إموسلمن”
ترجمته: “اهربوا بعيدا، أبناء المسلمين قادمون”
عندما كما صغارا ونلعب في جنبات الطرق والحقول والأودية كان شيوخ القرية يباغتونا بهذا المثل فنهرب إلى منازلنا خوفا من هؤلاء الأبناء الذين نعتقد أنهم سيخطفوننا أو يلحقوا بنا أذى كثيرا، وغالبا ما نسمع هذا المثل الشعبي عند لعبنا في وسط ممنوع أو عند لعبنا في أمكنة خطيرة أو نصدر ضجيجا في غير محله.
وما يستفاد كذلك من هذا المثل ذلك الخوف المستمر الذي يعيش به أطفال اليهود الذين كانوا بخرجون من الملاحات ويلعبون في أوساط الأهالي، مما يعكس دوما علاقة التوتر لا سيما خارج الملاح الذي يعتبر الملاذ الآمن لليهود بإفران وغيرها من مناطق تواجدهم بالمغرب .
•”أوداي إجا أغرومنس إميم”
ترجمته: “اليهودي رائحته نثنه وخبزه لذيذ للغاية”
المثل يوضح شهرة الخبز القادم من الملاح الإفراني والذي يتهافت عليه الأهالي مما يؤكد مشاركة المحليين بغض النظر عن اثنينهم للطعام وقدسية الملح في ربط العهود والاتفاقات المرتبطة بالشأن المحلي .
خلاصات:
كثيرة هي الأمثال الإفرانية التي تؤرخ للعلاقة بين اليهود وغيرهم من الأهالي ثم الصورة التي لازال جيل اليوم وقبله يحتفظون بها في متخيلهم الاجتماعي، لكن تبقى العلاقة بين اليهود وغيرهم في المجتمع الإفراني علاقة جدلية وعلاقة أخد وعطاء مثلها مثل علاقة المسلمين بإخوانهم المسلمين أو بغيرهم من المسلمين، لأن اقتسام مجال معين في مدة تاريخية معينة يحثم على الجماعات التفاهم والتباعد دون غلبة الواحدة على الأخرى على الأقل في المجتمع الإفراني .
فاليهود المغاربة حاول الأروبيون أن يظهروهم في كتلة متجانسة تعاني الفقر والتهميش في ظل سيطرة إخوانهم اليهود الأغنياء على الامتيازات خصوصا زمن الحماية الفرنسية، ولكن الأوروبيين رفضوا الإشارة إلى قساوة العيش التي يعيش فيها نظراؤهم المسلمون في نفس الزمن والمكان .
إن هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل كانت بمثابة نزيف مس الحضارة المغربية، شئنا أم أبينا، ولم تنجز بعد دراسات شمولية، بحسب الدكتور محمد كنبيب، في إطار دراسة مسلسل التهجير بعد 1948 وما عانه اليهود المغاربة عند وصولهم إلى المخيمات من تمييز وظروف اجتماعية خانقة كالبطالة.
أما الجالية التي فضلت المكوث بأرض الوطن فهي تتطلب دراسات عميقة.. فعدد اليهود المغاربة اليوم في انخفاض كبير لكن مازالوا يمثلون أهم مجموعة يهودية في العالم العربي. ونتيجة ما تتمتع به من حقوق ودينامية تقلد غالبيتهم مناصب سامية في دواليب الدولة أو في دواليب الاقتصاد العميق للبلاد، ولا تمنع العولمة والتقدم المالي لليهود العودة إلى المغرب كلما سنحت الفرصة قادمين إما من الولايات المتحدة أو أوروبا أو الشرق الأوسط قصد “الحج” أو لأسباب عائلية أو غيرها.
وفي الختام ما يجب أن نتفق عليه، هو أن يهود المغرب أو المغاربة اليهود سطروا الحضارة المغربية بمداد لا ينمحي واستطاعوا أن يشكلوا الاستثناء كعادة المغرب ضمن كل اليهود الموجودين في أرجاء لعالم.
بقلم: الحسن تيكبدار*
*باحث في التراث الثقافي