يعتبر غلاف أي منجز أدبي عتبة أولى لقراءته، وأول ملاحظة تثير انتباهنا، هي عدم ذكر مصمم الغلاف، مع ذكر الناشر والمطبعة وعنوان الرواية واسم مؤلفها وسنة الطبع. إنه لوحة فنية تتكون من قبة ضريح تجمع بين ما هو أصيل ومعاصر، فالخط الذي كتب به العنوان واسم كاتب الرواية محمد مشقاقة يحيلان إلى ما هو أصيل، أما الصحن المقعر واللاقط الهوائي المعلق على سطح قبة الضريح فيحيلان إلى ما هو عصري وحديث، أما الرجل الذي يحمل مبخرة مرتديا بذلته العصرية فيدل على شخصية مركبة تعاني ما تعانيه شخصيات المجتمعات التي عاشت تحت الاستعمار فترة ليست بالهينة، وتركت شعوبها تابعة لها لا هم حافظوا على أصالتهم ولا هم عاشوا الحداثة كما يجب. إنها الحداثة المعطوبة كما عبر عنها الدكتور محمد بنيس وكما جاء على لسان أحد الشخصيات في هذه الرواية بالذات.
للعنوان والغلاف ــ كما هو معلوم ــ عدة وظائف تتجاوز دلالاته الفنية والجمالية إلى ما هو اقتصادي وتجاري، لكن ولأن الرواية التي نود قراءتها الآن تنتقد هذا الاقتصادي والتجاري الكولونيالي الذي ساهم في تمزق وتشتت الأسرة المغربية والعربية على حد سواء، يصبح بدوره في خدمة المتن الروائي، لذلك بدا الغلاف بسيطا وعاديا، لكنه جاء عميقا في دلالته، أراه اختيارا ذكيا يتماشى ومضمون المتن الروائي.
اعتاد القراء والنقاد عموما ــ وبحكم انفتاح الرواية على مجالات معرفية كثيرة ــ الحديث عن الرواية التاريخية، الرواية البوليسية، الرواية الرومانسية، الرواية الاجتماعية، الرواية المدينية، الرواية القروية، الرواية النفسية.. فإلى أي صنف من هذه الأصناف يمكن وضع هذه الرواية ولي الله؟
لا نخالف الصواب إذا ما وضعناها في إطار الرواية الأسرية العائلية المعاصرة، هذه العائلة يمكن وصفها بالعائلة التي تأثرت بهذه الحداثة المعطوبة حتى النخاع، فهي من جهة تعيش على إيقاع اليومي (الثراء الفاحش، الانفتاح الغير محسوب العواقب، الجري وراء المال والشهرة) وهذا كله خلف قهرا وهدرا سيكولوجيا حسب دراسة مصطفى حجازي في كتابيه سيكولوجية الإنسان المقهور وسيكولوجية الإنسان المهدور. نعم لقد تركت هذه الحداثة أعطابا نفسية وتصدعات يصعب علاجها كما يتضح ذلك جليا في عائلة أحمد الشرفاوي.
بدون عناء يدرك قارئ هذا النص الروائي بأن موضوعه يدور حول الأسرة، المكون من أربعة أفراد (الحاج أحمد الشرفاوي رب العائلة رجل غني مداوم على سهراته الليلية وطقوسه الصوفية في مقام الولي الصالح، وهو شاذ جنسيا نجده يبذل المال للسيد عبد الغفور القائم بتنظيف الولي الصالح وإعداد السهرات للحاج أحمد الشرفاوي .
السيد عبد الغفور كشخصية ثانوية هو الذي يبحث للحاج الشرفاوي عن شاب اسمه حمزة كي يعمل عنده ويخبره بما سيطلبه منه الحاج وهو تلبية رغباته الجنسية ذلك أن الحاج في الرواية هو المفعول به وحمزة هو الفاعل، ثم الزوجة ماجدة البالغة من العمر 50 عاما صاحبة السوق التجاري والمحل الراقي (قوس قزح) هي الأخرى تعيش حياتها الجنسية طولا وعرضا مع الخدم الذين يأتي بهم زوجها وكأنها هي ضرة زوجها الحاج وليست زوجته، إذ أنهما معا يشتركان في نفس الفاعل الذي ينوع مفعولاته، فالفاعل في هذه الرواية واحد والمفعول به متعدد.
وهناك ندى الشابة التي تشبه والدها في كل شيء الانفتاح المبالغ فيه، فتاة متهورة وتواقة للشهرة توسط لها والدها في عمل بالإذاعة كمقدمة للأغاني مرة ولبرنامج الطبخ مرة ثانية أو كمقدمة للنشرة القضائية في مرة ثالثة وعدم التخصص في مهنتها، يدل على عدم استقرارها النفسي والمعرفي والعاطفي. لا يهمها في الحياة إلا الشهرة والمال حتى أنها سمحت في خطيبها الشاعر والمثقف رضى لتلهث وراء عزيز الرياضي المشهور على صفحات الجرائد والمجلات.
ثم نجد الضلع الرابع في هذه العائلة وهو أيمن الشاب المتزن العاقل الذي يمارس مهنة المحاماة وكأنه الناجي الوحيد من حطام هذه العائلة التي تعددت عقدها النفسية المرضية. وعتابه ولومه للعائلة يواجه دائما بالرفض بل وبالخصومة والتعسف سواء من طرف الأب أو من طرف الأم.
أما باقي الشخصيات الوارد ذكرها في هذا النص الروائي فلا تعدو أن تكون مكملة للشخصيات الرئيسية للرواية وتدور في فلكها.
يحمل هذا النص الروائي بين طياته ــ كما سبقت الإشارة ــ آراء وأفكارا توضح بجلاء مظاهر الفساد والانحراف الذي ساد في الحياة الاجتماعية والأسرية المغربية/ العربية المعاصرة نتيجة الانفتاح على الأسواق العالمية وبلغة نقدية لاذعة مشبعة بنوع من السخرية والأسى، وكأن كاتبها يروم التنبيه إلى خطورة الواقع الحالي الذي اتخذته الحياة السياسية العامة وانعكاسها على الحياة العائلية والمجتمعية.
يلاحظ القارئ أن ولي الله مقسمة إلى 27 مقطعا أو مشهدا. هذه المشاهد جميعها لا بد وأن تؤثثها شخصية من أفراد العائلة الشرفاوية نسبة إلى الحاج أحمد الشرفاوي. وبما أن الأحداث لا بد لها من أن تجري في زمان ومكان معينين، فإن عدد الأمكنة في رواية ولي الله تدور في 16 مكانا، والمكانان اللذان يحضران بكثرة هما: فيلا أحمد الشرفاوي سبع مرات والولي الصالح خمس مرات والسوق التجارية وحانة الخيال وفيلا أيمن الجديدة ثلاث مرات، أما الأماكن المتبقية فعددها ما بين مكانين ( مقهى لومبير وسيارة الحاج وسيارة أيمن وفيلا أيمن والمصحة ومكتب الضابط ) وباقي الأمكنة وردت مرة واحدة وهي مسبح الداوليز وفضاء المحكمة ومكتبة واحة القراء ومقبرة الشهداء ومكتب أيمن وقاعة المحاضرات.
أما الزمن الغالب الذي تجري فيه الأحداث في معظم المشاهد فهو النهار، ذلك أن الليل ورد تقريبا أربع أو خمس مرات.
وإذا كانت الرواية عالما قائم الذات، عماده اللغة صنعه الروائي بالكلمات وبالخيال، ومع الاعتراف بأن الرواية إنما هي عالم مشيد بالكلمات بأشيائه وشخصياته وفضائه وكل علاقاته ومكوناته، فإن الإقرار بهذه الحقيقة لا ينفي حقيقتين اثنتين:
ــ أولها علاقة الرواية بمؤلفها وثانيها علاقتها بالواقع الموضوعي، فعالم الرواية مهما أغرق في الخيال ومهما كانت قدرة الكاتب على توليد اللغة والسيطرة عليها واستثمار أسرارها، يظل دائما وثيق الصلة بالحياة: حياة المؤلف وحياة الناس من حوله. والجانب الفني في رواية ولي الله ينسجم تماما مع مضمون عنوان الرواية بمعنى أنه يعكس الموقف الفكري والتصوري اللذين يصدر عنهما المؤلف في تعامله الجمالي مع مادته السردية المحكية.
فــ “ولي الله” الذي سبق للمسرحي الطيب العلج أن عنون به إحدى مسرحياته التي اقتبسها عن موليير، هي الأخرى تعالج تيمة استغلال الدين فيما هو شخصي. واختار الروائي رشيد مشقاقة ضريح الولي وفضاءه الذي يتلاقى فيه بعض الناس كي يتستروا عن أفعالهم وتصرفاتهم المشينة ومنهم شخصية أحمد الشرفاوي. هذا الرجل الذي يلبس لباسا دينيا، في حين هو أبعد ما يكون عن وصايا الدين، فهو رجل مهمل للأسرة ولحقوقه الزوجية وأكثر من ذلك هو رجل شاذ، بدل أن يكون زوجا لماجدة أصبح كضرة لها يتقاسمان معا نفس الفاعلين على اعتبار أنه وزوجته مفعولا بهما أو فيهما، وأن زواجهما كما جاء على لسان زوجته ماجدة لابنتها ندى هو زواج مصلحة فقط. وإذا كان الأب والأم هما عماد الأسرة فإن رواية ولي الله تشي بعكس ذلك تماما مما أدى بضياع البنت ندى ليبقى الاستثناء هو الابن أيمن.. ىإذ هو المنقذ الوحيد لهذه العائلة، مما يجعل ماجدة الأم تنعته بأنه وزميله رضى هم الآباء وأن ماجدة وزوجها مجرد أبناء.
إن شخصيات رواية ولي الله تكشف بجلاء مظاهر الفساد والانحراف المستشري في الواقع المغربي / العربي والجري وراء التفاهات واللهو بجد والجد باللهو، كما جاء على لسان رضى أحد شخصيات الرواية الثانوية، والجهل الذي يكاد يكون هو القاعدة في هذا العالم. أما القراءة والمطالعة فيشكلان الاستثناء في الواقع المغربي المعاصر حتى أن صاحب مكتبة “واحة القراء” يخبر جلساءَهُ بأن الواجهة الزجاجية لمكتبته كُسرتْ ولم يُسرق منها كتاب واحد، وهذا دليل على أنه لا أحد أصبح يهتم بالقراءة في البلد.
إن شخصيات هذه الرواية الأساسية والتي تعتبر عماد الأسرة الشرفاوية أربع: وهي الحاج أحمد وماجدة وندى وأيمن، هذه الأسرة المتشظية المفككة هي نموذج لمعظم الأسر الثرية في الواقع المغربي والعربي المعاصرين. تعيش هذه الأسرة ومثيلاتها حياة يسودها الكذب على الذات أكثر من الكذب على محيطها، فالمال والجهل والاستسلام للشهوات، هي عوامل ثلاث تركت انعكاساتها المباشرة وبصماتها الواضحة على نفسيات أفراد هذه الأسرة وعلى علاقاتها مع بعضها البعض.
هل قالت هذه الرواية كل شيء عن هذا الواقع المعاصر بكل رداءته وانكساراته وإخفاقاته؟ طبعا لا .. وليس مطلوبا منها أن تكون كذلك، لأنه ليس بوسع أية رواية أن تضيء الجوانب المعتمة في المجتمع بكامله ولكنها تضيء جانبا وتركز عليه معتمدة على فطنة وذكاء قارئها، وهي بذلك تدق ناقوس الخطر وتنبه لمسار ومآل الأوضاع.
نتساءل مرة أخرى: هل كاتب هذه الرواية ــ ونحن في عصر الحرية المزعومة في هذا العالم العربي عموما والمغرب جزء من هذه العالم ــ هل كاتب رواية ولي الله، قد نجا من الرقابة الذاتية والبوح بكل حرية عما كان ويكون وسيكون في هذا الواقع الذي هو عنصر فعال فيه بكونه قاضيا ومثقفا فاعلا ومنفعلا بقضايا مجتمعه وأمته؟ أشك في ذلك، فالمتابعات القضائية والقانونية وأبواب السجن المشرعة في وجه كل ما تعتبره السلطة تجاوزا، شاهرة سيف القانون الذي يتابع به الإعلامي والمثقف في البلاد العربية من البحر إلى البحر يحول دون ذلك، وبما أن الواقع معتم فلا بد للكاتب أن يجد له مخرجا ومنفذا يساعده على أن يهرب بجلده سالما غانما، وكمثال على ذلك من حقنا أن نتساءل: ألم يحرف الكاتب وبنباهة اسم الحاج أحمد الشرفاوي أحد أبطال هذه الرواية لتفادي كل المطبات المحتملة خصوصا أنه قلم لامع في البلاد بل ويتحمل أخطر مسؤولية مرموقة فيه ألا وهي مسؤولية القضاء، ألا يمكن أن يكون الحاج أحمد الشريفاوي نسبة إلى الشريف بدل الحاج أحمد الشرفاوي. لماذا جعل الأستاذ النسبة إلى كلمة الشريف على هذه الصياغة، وبدل الحاج أحمد الشريفي جعلها الشرفاوي؟ لماذا هاذ التلاعب بالحروف وصياغة النسبة من الاسم بهذه الطريقة الملتوية؟ وهل الرواية والإبداع عبر مسارهما التاريخي إلا لعب والتواء؟ لكن في هذا اللعب وهذا الالتواء إبداع جميل. نحن نعرف بأن كل من يتعامل مع كلمة أو مفردة الشريف في المغرب سواء في الواقع أو الخيال يجب أن يتعامل معها بالهيبة والجلال والطاعة وأن يكتب عنها بحروف مرصعة من ذهب وأضعف الإيمان أن يتجنب الكتابة عنها فيريح ويستريح.
وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن الكاتب أنهى رواية “ولي الله” نهاية سعيدة بموت الحاج أحمد الشرفاوي الأب وتوبة ماجدة الأم وعودة ندى إلى طريق الجادة والصواب، بعد أن طلقت من عزيز وارتباطها بحبيب القلب القديم وصديق أخيها الوفي الشاعر رضى، وأنجبا معا بنتا سمياها أمل. وأملي كل أملي أن تقرأوا هذه الرواية لأنها فعلا تكشف بعض عيوبنا المعاصرة، بل وعيوب العرب الذين يخفون عيوبهم بما هو ديني ليغرقوا في وحل ما هو دنيوي.
بقلم: عبد الإله بنهدار