أوراق من الذاكرة السياسية للمناضل المحجوب الكواري -الحلقة 3

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، قهروا القمع والمعتقلات منذ ستينيات القرن الماضي، واستماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل. ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة. في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها. لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على المحجوب الكواري، عضو مجلس رئاسة حزب التقدم والاشتراكية، كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى أكثر من عقدين من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازال قائدا سياسيا تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات. يفتح لنا صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها…. المحجوب الكواري شخصية بارزة في حزب عريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد، قبل أن يحمل، أخيرا، اسم حزب التقدم والاشتراكية. المحجوب الكواري، المراكشي، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون. من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

في خلية مراكش للحزب الشيوعي المغربي

رصاصة من جندي الاستعمار الفرنسي تخترق رأس زوجة أخي

نشاطي دخل فرع مراكش للشبيبة الاستقلالية جعلني أقرب إلى الأحدات التي كانت تموج بها البلاد لدرجة أنني تابعت واقعة استهداف الملك المزيف محمد بنعرفة من صومعة المسجد القريب من حينا، وأصبحت على علم بكل المناورات التي كانت وراء تنصيبه على عرش المغرب.
من أعلى الصومعة كنت أشاهد جمعا غفيرا من الناس وأسمع أصواتا تزمجر بعد محاولة اغتيال محمد بنعرفة في 11 شتنبر 1953، أي بعد أقل من شهر على توليه الحكم، على يد علال بن عبد الله الذي لقي مصرعه في الحادث ذاته على أيدي حرس السلطان. ولم تكن هذه هي المحاولة الأخيرة لاغتيال بن عرفة ولكنه نجا من جميع محاولات الاغتيال. لم يكن بنعرفة شخصية نكرة. فهو ينتمي إلى الأسرة العلوية الحاكمة، و نجل مولاي عرفة ابن السلطان محمد بن عبد الرحمن بن هشام، كما أنه ابن عم للسلاطين عبد العزيز وعبد الحفيظ ويوسف.
بدأت، رغم صغر سني آنذاك، أتابع أخبار الحركة الوطنية التي كانت تطالب بالإصلاح ثم الاستقلال. وهي حركة ستحضى بدعم السلطان محمد بن يوسف، ما عدل بالصدام بين بن يوسف والإقامة العامة الفرنسية لتقرر الأخيرة نفيه وأسرته إلى جزيرة كوريسكا في 20 غشت 1953 وبعد ذلك نقل إلى مدغشقر.
ونصبت الإقامة العامة بتوجيه من باشا مراكش التهامي الكلاوي أحد أفراد الأسرة العلوية وهو محمد بن عرفة الذي كان يبلغ من العمر حينئذ 67 عاما. لكن كثيرين أطلقوا على بن عرفة لقب سلطان الفرنسيين، وكانت فترة حكمه القصيرة، التي امتدت عامين، مضطربة للغاية شهدت تفجير سيارة في السوق الرئيسية في الدار البيضاء وتصاعد وتيرة الأعمال المسلحة لدرجة استهداف باشا مراكش بأحد مساجد المدينة ، كما تعرض المقيم العام الفرنسي أوغسطين غيوم هو الآخر لمحاولة اغتيال
وفي منتصف 1954 عينت فرنسا مقيما عاما جديدا هو فرانسيس لاكوست، الذي لم يمر عام حتى حل محله غيربرت غرادفال الذي تعرض لهجوم لدى وصوله المغرب عام 1955.
ومع تصاعد الأعمال المسلحة فتحت فرنسا باب الحوار مع محمد بن يوسف وأقطاب الحركة الوطنية لاحتواء الوضع وانتهت المفاوضات بتنازل بن عرفة عن العرش وذهابه إلى طنجة التي كانت تحت إدارة دولية.

عمالقة الأدب الروسي انطوان تشيخوف وماكسيم غوركي

استمر الغليان في المغرب وسقط العديد من المواطنين العزل منهم زوجة أخ المحجوب الكواري التي أصابتها رصاصة جندي سينغالي على مستوى الرأس حين كانت تتابع من أعلى سطح المنزل مظاهرة نظمها المغاربة تعبيرا عن رفضهم للاستعمار. كانت تطلق الزغاريد تعبيرا عن مشاركتها لنضالاتهم، وتحفيزا لهم على مواصلة المواجهة.
هذا الحادث أثر في المحجوب الكواري على المستوى النفسي والمادي في آن واحد، خاصة وأنه جاء بعد وفاة والده الذي كان صديقه المقرب وأكثر الناس تفهما له، والأكثر سخاء في تلبية حاجياته المادية.
لم يستسلم الصغير المحجوب للحزن، ولم تدفعه ظروفه إلى اليأس، وإنما مضى في طريقه كما استطاع أن يمضي، محاولا الخير لنفسه وللناس ما أُتيح له أن يحاول من الخير، وعاضا على نواجد الدرس والتحصيل فتمكن من قهر هذه المحن وانتصر عليها.
وهكذا، بدأ يشق طريقه التعليمي يثانوية محمد الخامس باب أغمات، بمدينة مراكش، متسلحاً بالعزيمة والبصيرة.
يقول المحجوب الكواري عن هذه الثانوية:» بدأت هذه المدرسة، سنة 1933، كمؤسسة للتعليم الإعدادي الأصيل قبل أن يتم بناء أقسام جديدة بها ويتقرر اتخاذها ثانوية تأهيلية. حضر حفل افتتاحها الملك محمد الخامس رحمه الله سنة 1937. تخرجت منها نخب مراكشية عديدة، وليس فقط من مراكش بل درست فيها الأفواج الطلابية القادمة من أحواز هذه الأخيرة ومن الجنوب المغربي بصفة عامة. كان أطر هذه الثانوية فرنسيون يدرسون الفرنسية والمواد العلمية أما اللغة العربية والتربية الإسلامية فاستقدم لتدريسها أساتذة من سوريا والعراق إضافة قلة قليلة من المغاربة. وكانت فرنسا قد عززت المغرب بخيرة الاساتذة كاستثمار في بلد استعمرته وكانت تنوي البقاء فيه. لكن هيهات. فقد ضم طاقم الثانوية وطنيين أحرار كانوا يناضلون من أجل جلاء المستعمر، وذلك يوميا بالكلمة الهادفة وبالوعي. كان أبرز هؤلاء المناضلين على الإطلاق عبد الله الستوكي أحد قياديي الحزب الشيوعي المغربي الذي أرسله الحزب إلى موسكو من أجل التكوين.
حول هذه الشخصية يقول المحجوب الكواري: « تعرفت على سي الستوكي حين كنت في مستوى أولى باكالوريا. ولعل أجمل ما أعجبني في شخصيته هو حثه التلاميذ على القراء الواعية. في أغلب لقاءاتنا معه كنا نفتح نقاشات طوال حول ما قرأناه عن الرأسمال ولينين وماركس وحول إنتاجات عمالقة الأدب الروسي كنيكولاي غوغول وفيويدور دوستويفسكي وليو تولستوي وأنطوان تشيخوف وتولستوي، وماكسيم غوركي وغيرهم . كان الرجل متفوقا على الأساتذة الفرنسيين أنفسهم بثانوية محمد الخامس بمراكش، وذلك بأسلوبه الرفيع وبمجموعة من الخصال كالترفع، والشرف، والكفاءة، والصرامة والمثابرة، والإمكانيات الثقافية النادرة. كانت أسعد أوقاتي حين يبدأ النقاش مع سي الستوكي رحمه الله لأنني وجدت نفسي في أفكاره واقتنعت بكل ما قرأته. كنت في الواقع وسط خلية مراكش للحزب الشيوعي المغربي، كنت سعيدا ومرتاحا لذلك.

< مصطفى السالكي

Related posts

Top