اجتهادات محكمة النقض المغربية – الحلقة 6-

دأبت محكمة النقض المغربية، باعتبارها أعلى محكمة قضائية، مع افتتاح كل سنة قضائية، عن الإعلان عن اجتهادات جديدة.
وفي هذا الإطار، أصدرت محكمة النقض في السنوات الأخيرة، مجموعة من القرارات، تخص مواضيع مرتبطة بضمانات المحاكمة العادلة والحق في الدفاع وحماية المال العام، وحماية الحق في الصحة والتعليم وضمان الأمن الأسري وحماية المصلحة الفضلى للطفل؛ ناهيك عن تكريس الأمن التعاقدي والتجاري والعقاري وإيجاد التوازن في علاقات الشغل وقضايا التأمين، وضبط مفاهيم هامة كحماية المستهلك وملك الدولة.
.وفي إطار التمييز بين الحق في ممارسة الحريات العامة وبين واجب الانضباط لشروط العمل، أيدت محكمة النقض قرار محكمة الموضوع التي اعتبرت مغادرة الأجيرة لعملها بعدما تم منعها من الدخول بسبب ارتدائها سترة للوجه داخل المؤسسة، ما يحول دون التحقق من هويتها ويخالف النظام الداخلي، مغادرة تلقائية وليس فيه أي تمييز أو خرق لحق دستوري.
وحماية للمال العام وضمانا للمساواة في مجال الصفقات العمومية، فقد اعتبرت محكمة النقض، أن آجال تنفيذ الصفقات، تشكل عنصرا أساسيا من العناصر المحددة لعروض المتنافسين في ولوج الطلبات العمومية أثناء إعداد تعهداتهم، وان عدم تنفيذها يمس بالأسس التي قامت عليها المنافسة.  وفي نفس السياق وضمانا لحقوق المقاولات التي تتعامل مع المؤسسات من خلال الصفقات العمومية، فقد أيدت محكمة النقض الاتجاه الذي أعطى للمقاولة الحق في تسلم مستحقاتها من الوكالة صاحبة المشروع والتي لا تنكر تسلمها الأشغال موضوع النزاع واستفادتها منها، مستندة في ذلك على نظرية الإثراء بلا سبب.
 وبنفس المقاربة الحمائية للمال العام، فقد اعتبرت محكمة النقض، أن رسوم المحافظة العقارية، رسوم شبه ضريبية لا إعفاء منها، إلا بنص القانون وأن إعفاء المكتب الوطني للسكك الحديدية من أداء الرسوم المتعلقة بالتقييدات، التي تجرى على الصك العقاري قياساعلى المادة 23 من قانون المالية لسنة 2005، يبقى غير مرتكز على أساس قانوني سليم. وتعميما للفائدة، سنعمل طيلة شهر رمضان الأبرك، على نشر يوميا أحد الإجتهادات القضائية لمحكمة النقض سواء في المادة الجنائية أو المدنية أو الإدارية بالإضافة لاجتهادات أخرى تخص بعض محاكم الاستئناف.

الموضوع: جرائم الخيانة الزوجية

اعتماد الدليل العلمي المتمثل في الخبرة الجينية لإثبات جرائم الخيانة الزوجية

أصدرت محكمة النقض بالمغرب مؤخرا قرارا، قضى باعتماد الدليل العلمي المتمثل في الخبرة الجينية لإثبات جرائم الخيانة الزوجية، وذلك زيادة على وسائل الإثبات المحددة حصراً بمقتضى الفصل 493 من القانون الجنائي.
القرار يعتبر تحوّلا غير مسبوق في تاريخ اجتهاد محكمة النقض في تأويل النص الجنائي الذي يعاقب على العلاقات الجنسية الرضائية خارج إطار مؤسسة الزواج. وقد سبق تقديمه ضمن الاجتهادات القضائية “المبدئية” بمناسبة افتتاح السنة القضائية.
ملخص القضية
تعود فصول القضية إلى شكاية تقدمت بها فتاة إلى مصالح الدرك تعرض فيها بأن جارها استغلّ غياب أفراد أسرتها عن المنزل وتهجّم عليها وقام باغتصابها بالقوة تحت التهديد بالقتل، وأنه ظل يعدها بالزواج مند حوالي أربع سنوات، وأنه طيلة المدة المذكورة كان يدخل عليها ويمارس معها الجنس كزوج مع زوجته، وأنها حينما اكتشفت بأنها حامل، أخبرته بذلك، فطلب منها التزام الصمت وعدم إخبار عائلتها، لكنه سرعان ما اختفى عن الأنظار وغيّر رقم هاتفه. وعند الاستماع إلى المشتكى به، تمسّك بالإنكار نافيا أيّ علاقة له بالمشتكية، ومؤكّدا بأنه لم يسبق له أن مارس الجنس معها.
قرّرت النيابة العامة اجراء تحقيق في القضية وأحالت المشتكى به على قاضي التحقيق، الذي أمر بإجراء خبرة جينية، خلصت نتائجها الى أن الحمل يعود إلى المشتكى به، فأصدر قرارا بإحالة المتهم على المحكمة من أجل الاغتصاب.
أثناء المحاكمة، أنكر المتّهم واقعة الاغتصاب، فقرّرت المحكمة إدانته من أجل ما نسب إليه بعد إعادة تكييف الفعل من اغتصاب إلى فساد، فتم الطعن في الحكم بالاستئناف وقررت غرفة الجنايات الاستئنافية إلغاء الحكم الابتدائي فيما قضى به من إعادة التكييف، وإدانة المتهم من أجل الاغتصاب.
وعند الطعن بالنقض في الحكم من طرف المتهم، صدر قرار محكمة النقض والذي اعتبر أن غرفة الجنايات الاستئنافية ألغت القرار الابتدائي الذي أدان المتهم من أجل الفساد، وقضت بإدانته من أجل الاغتصاب استنادا على نتائج الخبرة الجينية المنجزة من طرف الدرك الملكي والتي تمّ التوصل من خلالها الى أن المتهم هو الأب البيولوجي لابن المشتكية، خلافا لإنكاره المتواتر واعتمادا على تصريحات المشتكية التي انتصبت كطرف مدني. والحال أن ما انتهت اليه نتائج الخبرة ولئن أثبتت العلاقة الجنسية فإنها لا تعتبر حجة على أن المتهم استعمل العنف لإجبار المشتكية على ممارسة الجنس معه، والمحكمة لم تبرر عنصر انعدام الرضا، مما تكون معه قد خرقت مقتضيات الفصل 486 من القانون الجنائي وعلّلت قرارها تعليلا ناقصا يوازي انعدامه، فقررت تبعا لذلك نقض القرار الاستئنافي، وإحالة القضية من جديد على أنظار غرفة الجنايات الاستئنافية للبت فيها من طرف هيئة أخرى.
عند إحالة الملف على أنظار غرفة الجنايات لتنظر فيها من جديد بعد النقض، اعتبرت المحكمة أن الخبرة الجينية تثبت العلاقة الجنسية بين المتهم والمشتكية وقضت بإدانته من أجل الفساد.
موقف محكمة النقض
قضت محكمة النقض بتأييد القرار فيما قضى به من إدانة المتهم معتمدة على العلل التالية:
 الخبرة الجينية هي دليل وحجة علمية لا يتسرب الشك إلى مدى قوتها الثبوتية؛
نتائج الخبرة الجينية قرينة قوية وكافية على وجود علاقة جنسية بين الطاعن والضحية، نتجت عنها ولادة، يمكن من خلالها نسبة واقعة العلاقة الجنسية إلى الطاعن.
محكمة الموضوع باعتمادها تقرير الخبرة الجينية، تكون قد مارست السلطة المخولة لها قانوناً في تفسير وتأويل النص القانوني في ضوء المستجدات والاكتشافات العلمية الحديثة، التي أصبح معها الدليل العلمي وسيلة إثبات قطعية، وآلية من آليات تفسير وتأويل النص القانوني، لا يمكن للمنطق السليم أن يتغاضى عنه متى كان حاسماً.
تعليق على قرار محكمة النقض بعد النقض
يعتبر القرار الذي نشرته المفكرة القانونية تحوّلا فيما استقر عليه احتهاد محكمة النقض بالمغرب، في إثبات جرائم الفساد والخيانة الزوجية، حيث سبق لنفس المحكمة أن اعتبرت أن جريمة الخيانة الزوجية أو الفساد “لا تثبت إلا بإحدى وسائل الاثبات المحددة حصرا في الفصل 493 من القانون الجنائي وهي: محضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي، وبالتالي لا تكوّن المحكمة الزجرية قناعتها في ثبوت الجريمة على وسيلة إثبات أخرى غيرها حتى ولو كانت خبرة جينية قطعية في موضوع النسب”.
توسّع القرار في تفسير مقتضيات الفصل 493 من القانون الجنائي رغم ما يفرضه مبدأ الشرعية الجنائية من تفسير ضيّق للنص، حيث أضاف وسيلة جديدة لإثبات الخيانة الزوجية أو الفساد (العلاقات الجنسية خارج الزواج) تتمثل في الخبرة الجينية. وهو ما يفتح المجال لإمكانية إضافة وسائل أخرى وبنفس المنطق كاستعمال الصور الفوتوغرافية أو التسجيلات الصوتية والمرئية، بل وحتى استعمال شهادة الشهود، ويعيد هذا القرار إلى الواجهة قرارا مماثلا اعتبر اعتراف متهمة بتبادل “قبلة:مع شريكها، خيانة زوجية.
رغم هذه الانتقادات، من المأمول أن يفتح صدور هذا القرار المجال لاعتماد نتائج الخبرة الجينية كمصدر موثوق ليس فقط في مجال التجريم، وإنما أيضا في مجال إثبات نسب الطفل المزداد خارج إطار مؤسسة الزواج خاصة وأن القرار اعتبر الخبرة الجينية دليلا وحجة علمية لا يتسرب الشك إلى مدى قوتها الثبوتية، وهو مبرر كذلك لحماية المصلحة الفضلى للطفل وحقه في الهوية.

> إعداد: حسن عربي

Related posts

Top