“اقطيب الخيزران”: مسرحية تشتغل على قصة عشق من هوارة

في عمله المسرحي الجديد “اقطيبْ الخيزران”، الصادر عن مؤسسة باحثون، والمدعم من وزراة الشباب والثقافة والاتصال في إطار دعم الإقامات الفنية لموسم 2023، والذي يقع في 100 صفحة من القطع الصغير، يمتحُ الكاتب المسرحي والسيناريست عبد الإله بنهدار من تاريخ الأدب الشفوي المغربي الهواري الأصيل، بحثا وإبداعا، مُحتفياً بما تزخر به الذاكرة الأدبية الشعبية الشفوية الهوارية من صور فنية وجمالية فيها الكثير من الفرائدَ والمنجزات الرمزية المعبّرة عن خصوصية هذه الثقافة المغربية الأصيلة المتعددة روافدها. فالكاتب يَعتبر الكتابة الإبداعية مـسؤولية فحـرص على زرع قيم الثقافة والقيم المغربية من دون أيّ ادّعاءات أو مبالغات، فهو يسلّط الضوء على هموم الكتابة وانشغالاتها، وعلى همومِ الإبداع وإشكالاته، وكيف أنّهما يحتلان مكانة في حياة صاحبهما ويرسمان قلقه ومصيره في كثير من الأحيان.
يتناول بنهدار في مسرحيته الجديدة (اقطيبْ الخيزرن) قصة عشيقين من قبيلة هوارة التي تعددت مسمياتها: (أولاد تايمة/ أولاد برحيل / أربعة وأربعين)، والتي تقع بين مدينتي تارودنت وأكادير، وفكرة هذه المسرحية مستوحاةٌ من أغنية شعبية غنتها المجموعة الغنائية “حمادة” إبان إعداد الكاتب المسرحي بحثه لنيل الإجازة في نهاية الثمانينات من القرن الماضي بجامعة القاضي عياض بمراكش، ويدور مضمون المسرحية حول العشق الذي يجمع بين هوار وابنة عمه هوارة التي منحها لقبا جديدا يليق بها وهو (الخيزران).
تتحدى الخيزران والدها الذي أجبرها على الزواج من شيخ القبيلة الرجلُ المتسلط الذي يكبرها سنا، شيخٌ له مكانته في القبيلة بسبب مركزه ومنصبه، يمور قصره بالجواري والنساء، لكن الخيزران سترفضه في البداية مُخلصة لابن عمها وعشيقها هوار، حتى أنها تشرب السم وتقتل نفسها من أجله، لكن وبطريقة عجائبية سيحييها بالقدرة الإلهية غُرابٌ يشفق على حال هوار، لتعود الحبيبة إلى حبيبها من جديد، لكن بعد أن يراها شيخ القبيلة يُغرم بها ويفرض على والدها الذي يعمل عنده في قصره أن يزوجها له، وبتذوق الخيزران نعمة القصور ستتخلى عن ابن عمها وعشيقها وتتنكر لكل تلك الوعود لتي سبق أن وعدته بها.
يفسح هذا النص المسرحي للقارىء أن يتلصص على تفاصيل من الحياة البدوية الأصيلة التي تحولت إلى حياة مادية خالية من قيم الإخلاص والوفاء، لأن المال والجاه والسلطة ينتصرون على كل ما هو حب وعشق حقيقي، كما يقول الباحث والمسرحي عبد المجيد فنيش في تقديمه لهذا العمل المسرحي قائلا: “يواصل المؤلف الدرامي عبد الاله بنهدار تجواله في دروب الموروث الشعبي المغربي، الذي جعل منه مادته الخام لجلِّ نصوصه المسرحية، التي تحولت إلى أعمال درامية وقعها عدد من رموز الدراما المغربية من جيلين. وهكذا يُغني بنهدار، نحته في صخور القصّة الشعبية، بنص جديد / قديم، اختار له من العناوين أبلغها، وهو “قطيب الخيزران”، هذا النص الذي انطلق الاشتغال عليه منذ زهاء ثلاثة عقود، حيث تعددت صياغاته، إلى أن جاء موعد الوقوف عند الصيغة التي ارتضاها، وهي التي بين أيدينا اللحظة، وأمام أبصارنا ووجداننا. ولأن الكاتب المسرحي والسيناريست عبد الاله بنهدار مسكون بوقع بهجة المدن مراكش، ومُطوق بمفعولها في وجدانه، فإنه ارتأى في محطته هاته، أن يعود إلى بعض مميزاتها الفنية لينهل من معينها فينال مشربه في هذا النص، ومن هذا النص. الأمر يتعلق هنا بفن وأدب “الهوّاريات” الذي طبعته المراكشيات (المرّاكشيون أيضا)، بخصوصية باذخة في الجمع بين الزجل وبين المتن الموسيقي، إلى جانب الحركية المثيرة (الرقص وأحيانا الحركات البهلوانية). وإن لقاءً من هذا النوع لـ “عبد الإله بنهدار” مع عالم الزّجل المقرون ببنية موسيقية خاصة، ما هو إلاّ محطة جديدة لاختيارات المؤلف التي رسمت هويته التراثية، كيف لا، وهو نفسه من نبش في “عيوط الشاوية”، هذا اللون الذي لن يقوم إلا بوجود الانصهار السحري بين المتن الشعري والمنظومة الموسيقية والإيقاعية”.
إن ذكريات الطفولة البريئة التي تظلّ متأجّجة في نفوس العاشقين وهي تمنحهم طاقة إيجابية للعيش في أحلام وردية تنسيهم مشاكل الحياة ومكائد الزمن، هو ما تستحضره هذه المسرحية الغنية بتفاصيل وحكايات عن الصراع بين القيم الإنسانية النبيلة ودور المال والجاه والسلطة في تحويل تلك القيم إلى سلعة تُباع وتُشترى.
يعمل الكاتب المسرحي والسيناريست والباحث المغربي عبد الإله بنهدار جاهدا على تكريس مفهوم الأدب الشعبي بمداه الأوسع، مركّزا على مفاتيح لولوج هذا العالم من خلال أعمال مسرحية تراثية مختلفة، (قايد لقياد، الروكي، الباهية والصدر الأعظم، باحماد، عيوط الشاوية، جنان لقبطان، البعد الخامس، وأعمال أخرى لم يكتب لها الطبع والنشر حتى الآن).
لقد جاءت كلمة التقديم لهذا العمل المسرحي بقلم د. بوجمعة العوفي كما يلي: “لقد استطاع عبد الإله بنهدار أن يؤسس لاسمه ولتجربته متعددة الأضلاع في الكتابة للنقد المسرحي والسينمائي والأدبي، ثم في الاقتباس المسرحي من نصوص روائية مغربية وعربية (مسرحية “امرأة النسيان” عن رواية محمد برادة “امرأة النسيان”، ومسرحية “البعد الخامس” عن رواية “أعشَقُني” للكاتبة الأردنية من أصل فلسطيني سناء شعلان، بالكثير من الجدية والتجديد والتميز. الشيء الذي جعله واحدا من المساهمين الأساسيين في إغناء التجربة الدرامية المغربية بالكثير من النصوص التي فتحت هذه التجربة على مستويات أخرى من التجديد في الرؤية الفنية والثيمات والمقاربات التعبيرية والجمالية المتعددة. لا يؤكّد عبد الإله بنهدار في أعماله المسرحية المنشورة على تقوية مهمّة القراءة التي تبدو اليوم معقّدة في زمن يقوّي عزلتها، فحسب، ولكنه يؤكد أيضا على منح المتلقي فرصة مشاهدة أحداث مسرحياته تتراقص في مخيلة القارىء ليكون أفق انتظار القارىء على هذه الأعمال قبل أن يراها عرضاً مسرحيا قائم الذات، يتدخل فيه ممارسون محترفون آخرون من (مخرج وسينوغراف وملابس وموسيقى وإضاءة…. إلخ)، كل ذلك من أجل أن يكسبَ النص المسرحي إيقاعا آخر جديدا بعد تحول النص المكتوب لغويا إلى نص مرئي جماليا، نص يمتح من إيقاعات النص المكتوب والمقروء في آن.

Top