الإدارة القضائية في التنظيم القضائي الجديد (1/2)

صادق مجلس المستشارين أخيرا على مشروع قانون التنظيم القضائي الجديد رقم 35.15، بعدما ظل الأخير لسنوات طوال مجمدا ضمن رفوف لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان التابعة للمجلس ذاته. وتأتي هذه المصادقة في سياق تنزيل واستكمال مسلسل إصلاح منظومة العدالة، الذي عرفه المغرب ونتج عنه إخراج مجموعة من القوانين إلى حيز الوجود في مقدمتها القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والنظام الأساسي الخاص بالقضاة، والقانون رقم 33.17 الذي بموجبه تم نقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى رئيس النيابة العامة، وأخيرا النظام الأساسي الخاص بموظفي المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي تم نشره بالجريدة الرسمية عدد 6694 بتاريخ 12 ذو العقدة 1439 الموافق ل26/07/2018، فيما تظل مجموعة من القوانين ذات الصلة لم ترى النور بعد، كالقانون الجنائي والمسطرة الجنائية والمسطرة المدنية، والقوانين المنظمة لمختلف المهن القضائية التي تنشط في قطاع العدل.

تأتي هذه المصادقة أيضا، في ظل العديد من التجاذبات واختلاف الرؤى بين مختلف الفاعلين في منظومة العدل، خاصة بين الجمعيات المهنية للقضاة والنقابات الممثلة للموظفين، على اعتبار رغبة كل طرف من هؤلاء المتدخلين، أن يحمل هذا القانون مقتضيات تعكس طموحاته وتطلعاته بما يعتبره أن من شأنه المساعدة في تجويد وتحسين العمل القضائي والرقي به، وتجاوز سلبيات قانون التنظيم القضائي الحالي. وهو ما يفسر أن الصيغة التي تم بها المصادقة على هذا القانون من قبل مجلس المستشارين ليست هي نفسها التي أحيل عليها من قبل مجلس النواب، إذ أدخلت عليه الكثير من التعديلات من طرف الفرق البرلمانية محاولة منها خلق نوع من التوازن بين مطالب الجمعيات القضائية ومطالب النقابات القطاعية.
وهكذا فإن قانون التنظيم القضائي باعتباره اللبنة الأساسية والعمود الفقري لعمل المحاكم، لأنه يتناول المبادئ العامة للتنظيم القضائي وتحديد حقوق وواجبات المتقاضين من جهة، وأيضا تحديده لهياكل وقواعد سير المحاكم من جهة ثانية، فقد عملت وزارة العدل على القيام بمراجعة شاملة له، محاولة أن تجمع فيه النصوص القانونية المتفرقة في قوانين مستقلة كقانون قضاء القرب، وقانوني المحاكم الإدارية والمحاكم التجارية وبعض المقتضيات المنصوص عليها في قانوني المسطرة الجنائية والمسطرة المدنية، ولهذا فإن القانون الجديد للتنظيم القضائي شكل قطيعة مع قانون التنظيم القضائي لسنة 1974 وإن احتفظ ببعض المقتضيات القانونية التي سبق لهذا الأخير تقريرها، لذلك يمكن القول أن المشرع أسس لمدونة قانونية للتنظيم القضائي.
إن قانون التنظيم القضائي الجديد رقم 35.15 الذي يرتقب صدوره في الأيام المقبلة بعد استيفاء الإجراءات الإدارية بهذا الخصوص، حمل العديد من المستجدات والمقتضيات القانونية همت أساسا الجانبين القضائي والإداري، إذ لأول مرة يفصل المشرع بين ما هو قضائي وما هو إداري، انسجاما مع مبدأ الفصل بين السلطة القضائية والسلطة التنظيمية، وسوف نحاول الاقتصار في هذا البحث على المستجدات التي عرفها الجانب الإداري على أن تكون المستجدات التي همت الجانب القضائي موضوع بحث مستقل.
إن من بين أهم المستجدات الإدارية التي حملها القانون المذكور ما يتعلق بإحداث منصب الكاتب العام للمحكمة، وتوحيد كتابة الضبط، والتنصيص لأول مرة على التفتيـــش الاداري والمالي للمحاكم.
– إحداث منصب الكاتب العام للمحكمة
شكل إحداث منصب الكاتب العام للمحكمة إحدى أهم نقط التنظيم القضائي الجديد إذ عرف سجالا ونقاشا واسعا بين الجمعيات القضائية والنقابات القطاعية سواء فيما يتعلق بالجهة التي يتبع إليها من جهة، أو فيما يتعلق بالاختصاصات التي سيمارسها من جهة أخرى، غير أنه في الأخير تم الحسم فيه لصالح كتابة الضبط.
واعتبارا لأن منصب الكاتب العام سيسند لأطر كتابة الضبط حسب قانون التنظيم القضائي الجديد، فإن هذا يعني أنه تم الارتقاء بكتابة الضبط وذلك على خلاف ما كان عليه الوضع في قانون التنظيم القضائي لسنة 1974، وهكذا فإن المشرع استعمل لأول مرة مصطلح الإدارة القضائية في قانون التنظيم القضائي الجديد والذي تم الإشارة إليه في المادة 25 والفصل الرابع من الباب الثالث بمناسبة الحديث عن التنظيم الإداري لمحكمة النقض ومصالح الإدارة القضائية بها، وهو مفهوم جديد لم يكن موجود من قبل، ويحمل الكثير من الدلالات والمعاني أهمها تغيير النظرة النمطية التي كرست على هذا الجهاز من جهة، تم التأكيد على دوره في مجال التدبير الإداري للمحاكم من جهة أخرى، كإدارة فاعلة حقيقية قائمة الذات، وبأن عمل هذا الجهاز لا يقتصر فقط على تنفيذ الإجراءات القضائية، وإنما يتولى تدبيرها أيضا بما يحمل مفهوم الإدارة من مفاهيم مرتبطة أساسا بالتبسيط، والتجويد، والسرعة والنجاعة الإدارية، واقتصاد الوقت.
وبالرجوع إلى القانون الجديد للتنظيم القضائي كما صادق عليه مجلس المستشارين، يلاحظ أن المشرع المغربي وفي إطار استحضاره لمبدأ الفصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، أفرد فصلا كاملا من الباب الثاني تحت مسمى منظومة التدبير، تأكيدا منه على أن العمل الإداري منفصل عن العمل القضائي، ولهذه الغاية جعل من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل تتولى الإشراف الإداري والمالي على المحاكم عبر مسؤوليها الإداريين الممثلين في الكتاب العامون للمحاكم.
ويعتبر الكاتب العام للمحكمة بصريح المادة 23 رئيسا تسلسليا أعلى لموظفي كتابة الضبط ورؤساء المصالح بالمحاكم، حيث يخضعون مباشرة لسلطته سواء فيما يتعلق بمراقبتهم، أو تقييم أدائهم، أو تنظيم عملية الرخص الإدارية المتعلقة بهم، وبصفة عامة تدبير الوضعية الفردية لجميع موظفي كتابة الضبط، وهذا على خلاف ما هو عليه الوضع حاليا حيث رؤساء المحاكم هم الذين يتولون ممارسة هذه الاختصاصات بشكل فعلي .الأمر الذي يمكن معه القول إن المشرع وبشكل صريح جرد المسؤولين القضائيين من سلطتهم على موظفي المحاكم وأسندها للكتاب العامين.
وبتنصيص المشرع على هذا المقتضى القانوني، فإنه يكون بذلك قد أزاح عبئا ثقيلا على رؤساء المحاكم أو المسؤولين القضائيين، خاصة أن مهام التدبير والتسيير تعوق بشكل كبير اضطلاع المسؤول القضائي بالدور القضائي المنوط به، كما أن الواقع العملي بين أن هاته المهام تشكل نسبة 70 بالمائة من العمل اليومي لرؤساء المحاكم، وبالتالي تحول دون الارتقاء بالمرفق القضائي وتجويده إذ يظل المسؤول القضائي منشغلا في إيجاد حلول لمشاكل الموظفين وفي مراقبة مدى تجهيز المحاكم بالوسائل اللوجيستكية من مكاتب ووسائل العمل المختلفة وأحيانا أخرى حتى في مراقبة بعض الإصلاحات التي تخضع إليها بنايات المحاكم .الأمر الذي وبلا شك يؤثر سلبا على سير المرفق القضائي ويجعل رؤساء المحاكم بعيدين كل البعد عن الدور المحوري الذي يجب أن يضطلعوا به داخل مرفق القضاء والمتمثل في القيام بالوظيفة القضائية والعمل على تجويد عمل القضاة.
كما أنه بهذا التنصيص، يكون المشرع قد أقر بشكل واضح وجلي مبدأ استقلالية الإدارة القضائية عن السلطة القضائية، خاصة أن المادة المذكورة خضعت لتعديلات جوهرية في منطوقها، فبعدما كان مجلس النواب قد صادق على جعل الكاتب العام للمحكمة، يخضع إداريا لسلطة ومراقبة وزير العدل، ويمارس مهامه تحت السلطة المباشرة للمسؤولين القضائيين بالمحكمة بمقتضى المادة 21 قبل التعديل من قبل مجلس المستشارين، فإن هذا الأخير حذف بشكل كلي هاته الفقرة الأخيرة وعوضها بعبارة يمارس مهامه تحت إشراف المسؤولين القضائيين في منطوق المادة 23 والشيء نفسه فعله في المادة 19 عندما عوض مصطلح السلطة الوارد فيها بمصطلح الإشراف.
ويمكن تفسير موقف المشرع هذا، بالإبقاء على خاصية الإشراف سواء على موظفي كتابة الضبط بمنطوق المادة 19 أو على الكاتب العام بمنطوق المادة 23، باستحضاره مسألة أن المحكمة تشكل وحدة متكاملة غير قابلة للتجزيء من جهة ومن منطلق أيضا أن الفصل الكلي بين ما هو قضائي وما هو إداري في غاية الصعوبة من جهة ثانية، وأن الأمر يتطلب التشاور والتعاون والتنسيق بين مختلف الفاعلين في المحكمة.
وعلى هذا الأساس فإن مفهوم الإشراف الذي أشارت إليه الفقرة الأخيرة من المادة 23 والمادة 19، يبقى منحصرا فقط في السير العام للمحكمة وأداء نشاطها بشكل منتظم ومطرد دون القول بتبعية الكاتب العام للمحكمة للمسؤول القضائي أو تلقي تعليمات منه، لأن هذا الدور يبقى منوطا أو من اختصاص سلطة التسمية وهي وزير العدل. وهذا على خلاف مصطلح السلطة الذي أوردته المادة 21 قبل التعديل والذي كان يتيح أو يسمح للمسؤول القضائي بإعطاء أوامره وتعليماته للكاتب العام بل والحلول محله لممارسة اختصاصاته واقتراح وضع حد لمهامه عند كل إخلال ينسب إليه وهو ما لا يمكن تصوره بتاتا في حالة الإشراف الذي يبقى أساسه العام تجويد عمل المحاكم وممارسة كل مسؤول قضائي أو إداري لسلطته في حدود اختصاصه.

*باحث في الشؤون القانونية والإدارية

<بقلم: سعيد بولهنا *

Related posts

Top