الانتخابات المهنية…

انطلق المسلسل الانتخابي لهذا العام ببلادنا بإجراء اقتراع مندوبي الأجراء وممثلي الموظفين في اللجان الثنائية، وهو الاستحقاق الذي شهدته قطاعات الوظيفة العمومية ومقاولات القطاع الخصوصي، ويتيح التمثيل المهني للموظفين والمستخدمين اعتمادا على صناديق الاقتراع، وذلك بما يرسخ الديمقراطية التشاركية، ويطور العلاقات المهنية وفق ما ينص عليه القانون، وضمن ما يتيحه دستور المملكة للمنظمات النقابية، باعتبارها ممثلة للشغيلة وشريكا اجتماعيا، ثم أيضا كمصدر للتمثيل لاحقا داخل مجلس المستشارين، وفي مؤسسات استشارية وطنية كذلك.
وبحسب المؤشرات العامة الأولى التي ظهرت لحد الآن، فإن الاقتراع المهني لهذه السنة كرس، بشكل عام، القوة التمثيلية للمركزيات النقابية التاريخية والرئيسية في البلاد، وبرزت، بالتالي، أربع أو خمس مركزيات معروفة في المراتب الأولى في أغلب القطاعات.
وإلى جانب هذه النتيجة العامة الغالبة، فقد حظيت ببعض التمثيلية في قطاعات معينة نقابات حديثة أو قطاعية أو صغيرة، لكن دون أن تصل إلى اكتساب مقومات النقابة الأكثر تمثيلية، علاوة على تراجع واضح وكبير لمركزية نقابية كانت قد حققت نتائج إيجابية في السنوات الأخيرة، كما فاز لا منتمون نقابيا بالتمثيلية في بعض القطاعات، من دون أن يكون هذا الفوز اكتساحا كبيرا أو سيطرة أو أن يستطيع إزاحة تمثيلية المركزيات النقابية الكبرى.
ويكشف هذا المؤشر الكبير على ضرورة تمتين التأطير النقابي وتقوية النقابات الحقيقية، وأيضا على أهمية السعي والاجتهاد لصياغة المداخل الملائمة لوحدة العمل النقابي وتأهيل الممارسة النقابية الوطنية.
من جهة ثانية، عرفت انتخابات ممثلي الموظفين ومندوبي الأجراء إقبالا مهما على التصويت من لدن فئات الناخبين المعنيين، ورغم أن الأمر يتعلق بانتخابات قطاعية ومهنية فقط، وهي ترتبط بالترافع حول المشاكل الفردية المباشرة للمستخدمين وتنظيم العلاقات المهنية الداخلية، فالأمر، مع ذلك، يؤكد أهمية تمثيلية القرب، وأنه متى أحس الناس أن التصويت والتمثيلية يستطيعان إحداث الأثر المباشر على حياتهم ومصلحتهم، فهم يقبلون على المشاركة، كما أن الدرس الأساس هنا هو أن المشاركة المكثفة في التصويت والإقبال على صناديق الاقتراع هو الذي بإمكانه تغيير موازين القوى الانتخابية، وتغيير خريطة القوى والهيئات الفائزة.
ربما تكون بعض القطاعات قد منحت تصويتها لغير المنتمين لأي من النقابات، أو فازت بالأصوات نقابات قطاعية جديدة أسمت نفسها «مستقلة»، ولكن الواضح أن أحزابا عرفت بمواردها المالية الضخمة وسيطرتها على أعيان مختلف الاستحقاقات الانتخابية العامة في المناطق، لم تنجح في جعل كيانات نقابية تابعة لها تفوز بهذه الاستحقاقات المهنية، أي أن تمتلك الحضور والمصداقية في الميدان…
وبقدر ما يعني هذا أن التمثيلية النقابية تكتسب بالعمل الميداني اليومي وبالمصداقية التاريخية، وهو ما جعل المركزيات النقابية التاريخية تستمر فعلا حاضرة وتحوز شرعية التمثيل، فهذا الدرس ينطبق أيضا على الأحزاب، ذلك أنه برغم كل أشكال النفخ، وبرغم كامل التبخيس والضرب والاستهداف، ففي نهاية الأمر لن يصح إلا الصحيح، ولن تستطيع الكيانات الحزبية المفتعلة والمختلقة امتلاك أي مصداقية حقيقية، وفقط القوى السياسية الجادة والحقيقية ذات الرؤية والأفق، هي التي تستطيع خوض التحديات المطروحة على بلادنا وشعبنا.
تطرح الانتخابات المهنية إذن مسؤولية تثمين أدوار النقابات ودعمها لتكون شريكا اجتماعيا حقيقيا، ومؤطرا وممثلا حقيقيا للقوى المنتجة في البلاد، كما تفرض على القيادات النقابية نفسها تجاوز أنانيتها التنظيمية والسعي للاجتهاد من أجل تقوية الوحدة والتعاون، وتأهيل الممارسة النقابية بشكل عام، كما يمنحنا هذا الاستحقاق درس التمعن في المصداقية التمثيلية، وهي التي لا يمكن الأمر بها أو اكتسابها بالأموال والنفخ، ولكنها ترتبط بالعمل والشرعية، وأيضا بامتلاك الرؤية والأفق والتجربة.

<محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top