البعثات التعليمية في العهد الحسني – الحلقة 10-

لم يطرح موضوع الإصلاح في المغرب إلا بعد الاصطدام بالدول الأوروبية من خلال حدثين كان لهما أثر بالغ في نفوس المغاربة. يتجلى الأول في هزيمة المغرب أمام القوات الفرنسية في معركة إيسلي، حيث شكلت هذه الهزيمة التي لم يكن أشد المتشائمين بتوقعها، صدمة للنخبة السياسية المغربية، وطرح سؤال الذات لدى النخبة المثقفة والقادة السياسيين. ويتجلى الثاني في الهزيمة النكراء في حرب تطوان أمام إسبانيا، حيث استفحلت الأوضاع مرة أخرى، وانعكس ذلك على الأوضاع الداخلية وزادتها تأزما، وفقدت الدولة المغربية هيبتها السياسية والعسكرية في الساحة الدولية فانكسرت شوكتها. كما كشفت معركة إيسلي عن تقادم النظم السياسية والعسكرية والتعليمية المغربية التي اعتمدتها سياسة البلاد في خضم صيرورتها التاريخية، فأصبح الإصلاح ضرورة ملحة تفرضه الظرفية آنذاك، وشمل بالخصوص الجانب العسكري الذي أخذ حيزا مهما. كما أن الجانب التعليمي نال هو الآخر قسطا بعكس الأول، من خلال إرسال بعثات طلابية إلى الخارج.
شكلت البعثات التعليمية في العهد الحسني، لحظة تاريخية مهمة في التعليم العصري، وكان الهدف المقصود من إرسال البعثات توفير الكفاءات الوطنية اللازمة لتنفيذ المشاريع الإصلاحية التي برمجها السلطان في سياسته. فانكب اهتمامه على هذه البعثات لتنفيذ طموحه السياسي بعد عودتها للنهوض بالمرافق الحيوية، الشيء الذي نلمسه في التوزيع الجغرافي لطلبة البعثات، حيث تم توزيعهم على العديد من الدول الأوروبية.
سنركز في هذه الحلقات على أن نتائج البعثات لم تكن بارزة ومؤثرة في بناء دولة مغربية حديثة، كل ما سبق ذكره يجعلنا نطرح مجموعة من الإشكالات التي حاولنا الإجابة عليها بالتفصيل في الفصول الآتية:
كيف جرى انتقاء الطلبة الواقع عليهم الاختيار بغية إرسالهم للدراسة بالخارج ؟ وهل تمت دراستهم في ظروف ملائمة ؟ وإلي أي حد يمكن تفسير سيطرة العائلات الكبرى على السير العام لهذا المشروع الإصلاحي؟ وهل كان هناك تنويع في البلدان الأوروبية التي قصدها طلبة البعثات لإكمال دراستهم بها ؟ هل يمكننا الحديث عن تقييم الحصيلة إذا كانت إيجابية أم سلبية ؟ وما هي العوامل المؤثرة على المشروع الإصلاحي وساهمت في إفشاله

وقد شملت تركيبة هذه البعثة خمسة طلبة وسبعة صناع، فالطلبة هم : السيد محمد بن عبد الرحمان العلج ،والسيد عبد الله بن العربي الودي ،والسيد صالح التدلاوي ،والسيد علال بن محمد البخاري ،والسيد محمد بن سعيد القرقوري الفاسي، والصناع هم : محمد بن عبد الرحمان التطواني ،ومحمد بن
أحمد الأصيلي، والعربي بن عبد السلام الجديدي ،ومحمد بن الهواري المسفيوي ،وعمر بن محمد المسفيوي ،ومحمد بن عبد الرحمان المسفيوي.
أما عن سير مراحل التكوين فقد تبين بعد تلقي أفراد البعثة تدريبات ميدانية، ضرورة مواكبتها بتلقينهم بعض المواد الضرورية كالحساب والهندسة فضلا عن اللغة الفرنسية لتسهيل عملية التواصل بين المؤطرين والمتدربين.
وهكذا أصبح الطلبة يتلقوا دروسا نظرية في الصباح، وأخرى عملية في المساء طيلة أيام الأسبوع عدا يومي الجمعة والأحد. وقد شمل البرنامج النظري عدة مواد علمية كالهندسة التطبيقية والرياضيات والفيزياء والكيمياء وفروع الجغرافية ،إضافة إلى تعليمهم كيفية استعمال مختلف آلات البصر بينما انصب التكوين العملي على تمرينهم إلى جانب الجنود الفرنسيين على بناء الخنادق والتحصينات وطرق حفر الألغام وإقامة الخيام وتحضير آلات الحصار وغيرها من الحركات العسكرية.
ويستخلص من التقارير التقويمية التي كان بعثها مؤطر هذه البعثة ريونديل Riondel إلى الوزير الفرنسي بالمغرب، أن سوء اختيار بعض عناصرها، وخاصة الصناع جعلهم غير مؤهلين لاستيعاب ما كانوا يدرسونه، ما جعله يطالب -دون جدوى- بتعويض هؤلاء الطلبة بطلبة أكثر قابلية للتعلم.
وقد كان من المقرر أن تعود البعثة إلى المغرب في خريف 1884، غير أنه بإيعاز من وزير فرنسا فضل السلطان الحسن الأول تمديد فترة التدريب حتى يحصل الطلبة على تكوين تام، ومع حلول سنة 1888، تم استقبال أفراد البعثة من طرف النائب السلطاني محمد بركاش الذي عبر لممثل فرنسا عن إعجابه بمستواهم الفكري.
وتفيد بعض المصادر أنه بعد عودة هذه البعثة، تم الاتفاق بين المسؤولين المغاربة والوزير الفرنسي على تعويضها ببعثة أخرى مكونة من خمسة عشر طالبا ،كان من المتوقع أن تقصد فرساي لدراسة الهندسة والتخصص في فنون المدفعية ،وفعلا تبادلت بشأن تهييء أعضاء هذه البعثة، مراسلة بين الوزير الفرنسي) فيرو Feraud( وإيركمان Erkman الذي كان قد التحق بوطنه، وأبدى هذا الأخير موافقته على تولي مهمة إعداد الطلبة شريطة أن يقع اختيارهم من أسر مرموقة، وبديهي أن هذا المشروع لم ير النور لأسباب لا تزال مجهولة. ولعل التراجع كان من قبل الحكومة الفرنسية وحدها.
كانت إيطاليا إحدى الدول الرئيسية التي استضافت معاهدها وأكاديمياتها العسكرية مجموعة من الشبان المغاربة للدراسة فيها، وقد ارتبط إرسال بعضهم بمحاولة السلطان الحسن الأول إنشاء صناعة حربية محلية، وذلك بهدف الاستغناء عن شراء الأسلحة من أوروبا، حيث كانت تكلف المخزن أموال باهضة، فضلا عن عدم جودة أغلبها واستغناء الأوروبيين عنها، وفي هذا الإطار تم الاتفاق بين المخزن وسفير إيطاليا سنة 1887 على تكليف بعثة إيطالية من خبراء متخصصين بتأسيس معمل لصناعة الأسلحة بفاس.
وقد اقتضى تشغيل هذا المعمل إرسال بعض المغاربة إلى إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية، بقصد اكتسابهم خبرة تقنية في هذا الميدان، تؤهلهم للعمل في هذا المعمل بعد عودتهم.
استقبلت إيطاليا عدة أفواج من الطلبة أظنها -لاضطراب المصادر- خمسة ،حيث تركب الفوج الأول من ثلاثة هم : المختار بن الطاهر الرغاي البخاري، وعبد السلام بن الجيلالي عينوش ومحمد بن أحمد بناني الفاسي. وقد التحقوا بأكاديمية مودينا العسكرية وأقاموا هنا سبعة أعوام ابتداء من سنة 1293هـ/1876م. ولما رجعوا أواخر سنة 1882 اقترح سكوفاصو على الوزير محمد بن العربي الجامعي أن ينتظموا في الأسلاك المخزنية ليتولوا تدريب الجنود.
على أن أهم هذه البعثات، كانت قد أرسلت سنة 1306هـ/1888م مركبة من أربعة وعشرين طالبا تم اختيارهم من طرف السفير الإيطالي جنتيلي Gentilé من مدن مختلفة كفاس وطنجة وسلا والرباط والعرائش، وهؤلاء هم:
أحمد الجبلي العيدوني، محمد الحريري، علي السوسي، الحسين الزعري ،محمد الوزاع، محمد التدلاوي، محمد طجة، محمد بن سالم، محمد الشرقاوي البهالي، محمد ولد الباشا التهامي امبيركو، فضول بن صالح، مصطفى الأودي، محمد البرجالي، محمد بن إسماعيل، أحمد حرضان، العربي حركات، عبد الله التيال، محمد القجيري، مصطفى لحلو، محمد القباج.
> بقلم: يونس برحمة

Related posts

Top