تقديم
رواية الفسيفسائي ملحمة مورية قديمة، تتناول الكتابة استطرادا وقفزا في بوليفونية عجيبة مثل الفسيفساء (الموزاييك) أو الزليج المغربي، مواضيع تحتاج منا كتبا لدهق نقاش قضاياها؛ الشرق والغرب، أمريكا والمغرب، الرومان والأمازيغ الموريين، التعذيب والمعتقلات، التعليم بالعالم القروي، الاحتلال والتبعية، المرأة والقهر الاجتماعي والجنسي والنفسي، المسلطين عليها عبر التاريخ، غياب الحب عند المرأة، قضية الكتابة، الرواية هائلة بمرجعية كبيرة في علم نفس الجريمة، بذكاء واحترافية ولعب وتاريخ وتخييل ذاتي واستفادة من كل التقنيات العالمية من سينما وصورة وتشكيل وشاعرية قصوى في اللغة.
تقنية التقعير
تخلخل رواية الفسيفسائي مفهوم الكتابة، وتفككه أمام قارئ ضمني مفترض. هكذا غدت الرواية مختبرا تجريبيا جماليا وتقنيا، عبر تقنية التقعير la mise en abyme، حيث تتكلم الرواية عن نفسها وطقوسها ومشاكل كتابتها، إنها الرواية حين تسكن إلى المضاعفة والتناسخ الرهيب الذي تكون فيه المرايا شاهدة على تكرير حدث بطرق مختلفة، ومنه فهي أشبه بالدمى الروسية.
التقعير عملية كتابة داخل كتابة، ومنظور داخل منظور، كلما فتحت الغلاف وكبرّت الرواية بدت لك نسخة رواية أخرى لها داخلها، وهكذا دواليك، الرواية ستتحدث عن نفسها، تتأمل في نفسها وتنير عتمة ليلها، وتكسر حدودها وتطرح علاقتها بالمؤسسة الأدبية والناشرين.
آليات التقعير في الرواية بنظري أربعة: الميتاسرد، ثم الجينية والحلم والسرد الفسيفسائي؛ هذه التقنيات تجعلنا نطل على الكتابة من بئر عميق بحثا عن البذرة الكونية التي تخصب خيال عيسى ناصري، مجموعة من العلامات التي تفتح لنا مسالك وعرة نحو باطن الوعي وفعل الخلق السردي، إنه قعر الهاوية حيث نسخة باطنية مشابهة للعمل، ومنطقة مخفية (مخطوطات ومسودات).
الميتا سرد
ما يسميه حميد لحمداني في كتاباته “بالميتا حكي أو الميتا نص” وينظّر له أحمد خريس كتاب العوالم الميتا قصية بالميتا قص المعبر عن الفاعلية النقدية وعوالم دمى البابوشكا الصينية أو الماتريوشكا الروسية، إنه ناجم عن محاولة للتنظير من داخل الأدب، فعيسى يعلم القارئ كتابة الرواية وألاعيبها، من خلال بطل واحد يجمع مخطوطات الروايات الثلاث، وهو كاتب رواية الفسيفسائي عصام الشبيهي، كما أن كل الشخصيات في الروايات الثلاث ما هي إلا تجسيد له (أيدمون، جواد، التهامي)، روايات بنهايات واخزة حزينة (خصي، قتل، سرقة، اعتقال..)، إننا نتحدث عن إطار روائي بوليسي دون أن تكونه الرواية، فلولا المستهل من صفحتين عن المحقق مراد الشرادي القارئ الذي اشترى رواية الفسيفسائي المكونة من 453 ص، ثم النهاية من 7 صفحات حين أنهى هذا المحقق قراءته وأتم جمع خيوط الجريمة التي وقعت قبل عامين سنة 1995، مع فهم حذق أن الكاتب عصام الشبيهي مجرم قاتل، هذا كله لن يصنف الرواية في الاتجاه البوليسي، بل تنتمي إلى الحداثة والميتا سرد الذي يتجسد تقعيرا في روايات داخل رواية إطار( جريمة)، وكلما فتحنا مخطوطا ألفينا داخله رواية أخرى.
الكتابة والنقد الجيني
إنه نقد يمارسه الكاتب عن نفسه، مراقبا سيرة الكتابة، خاصة جواد حين يراقب مسودة روايته بعين نقدية فاحصة ص 221، تصويبا وتشطيبا وتنقيحا، كما أنه ميزة تقعيرية نبحث بها عن بذرة الخيال وعن عيسى، إذ إنه حاضر بقوة في جواد الأطلسي بحذافيره وكتابته وظروفه وكونه معلما، بل حتى في شخصية ناصر العيسى وسيرته المنطبقة مع عيسى ناصري.
النقد الجيني مارسه تهامي على المخطوطات الثلاث تعديلا وترتيبا هندسيا في ذهنه قبل أن يكون على الورق، ص 445، يقول السارد تهامي: “قبل أن أدمج المخطوطات الثلاث في أرضية روايتي الجامعة، بدأت أرسم تخطيطا هندسيا في ذهني للشكل الروائي الذي أريد توليفه… وعندما استوت اللوحة الفسيفسائية نثرت قصاصات الصحف بين تلافيف الرواية. ثم بحثت عن اقتباسات مناسبة رصعت بها مداخل المخطوطات الثلاث، زيادة على ذلك طفق الفسيفسائي الذي يسكنني يملأ الفراغات بين القطع والحبر” .
الحلم على الهاوية
بدت الأحلام في رواية “الفسيفسائي” تقطيعا للسرد بكثافة عالية وتكرار مريب يدمغ الذاكرة بدفقة شعرية هذيانية اختلاطية بتعبير إبراهيم أزوغ في شعرية الأحلام في الرواية العربية، كما يقوم بوظيفة ارتدادية إلى الأحداث الماضية كما هو الحال عند جواد وأيدمون مع امرأة الفسيفساء، هي وظيفة دلالية تبرز هيمنة الموضوع على الحالم، التحليل النفسي قد يكون مدخلا آخر لفهم دوافع القتل، من خلال حلم تهامي بطفله يقتله، وكذا في جريمته وأمراضه النفسية عامة.
السرد الفسيفسائي
هل يعلم القارئ أن هذا السرد نمط من أنماط السرد الحديثة وطريقة لتقعير الكتابة؟
ينماز السرد الفسيفسائي “بالتشظي، والتداخل، والتناقض، والتشابك”. إن رواية الفسيفسائي متشابكة من حيث العناصر، دامجة الرواية في نص جامع مع الشعر والقصة القصيرة، والأنواع الأخرى، يقوم بالتقاطع والاستطراد والحلم. سرد نابع من الموزاييك الإغريقي والروماني، والبيزنطي، ولا نريد تعريفا لهذا الفن فقد أوغل السارد في ذلك من خلال شخصياته، لينتقل الفن من التكعيب على لوحات الأرض إلى لوحات السرد، فتكون الرواية لوحة متراصة مثل لعبة بوزل، هذا السرد نوع من التقعير الكتابي؛ لأنه يتخلق من كولاج وترتيق وجمع اللوحات والقطع المتناثرة وهي على شكل مخطوطات متفرقة..
على سبيل الختم
تقعير الكتاب بدا واضحا من خلال تقنيات الميتا سرد والحلم والجينية والسرد الفسيفسائي، أمور ناتجة عن رؤيا ووعي قبليين، راهن من خلالهما الكاتب على الكتابة والتجريب والتشظي والفوضى المنظمة، وتعدد المستويات والموضوعات، منتصرا للحياة والالتباس مع باخوس؛ ما يجعل أي قراءة تيماتية منا لن تكون على الدرجة الصفر؛ لذا فضلنا الاشتغال على البناء وهاجس الكتابة.
محمد العمراني