التكثيف الدلالي وتعدد طبقات المعنى

“بشائِر الخرِيف
زخات المطر
بِرائِحةِ البرتقال”
استطاعت هذه الأسطر الشعرية الثلاثة المتوازية أن تنقل إلى متلقيها شعورا جميلا تمكّن من تفتيق قريحته، وتفجير دلالاته الممكنة، وذلك بفضل تكرار النسق النحوي نفسه والذي خلق توازيا تركيبيا نسقيا واضحا، قوله:
بشائر الخريف/ زخات المطر/ برائحة البرتقال. فالهايجن بتكراره ذلك التركيب إنّما حاول أن يجعل من بنية نصه نسيجا متماسكا محكم الخيوط، ومتناسب الوحدات والبنى والإيقاع والموسيقى، باعتباره عنصرا تنظيميّا من جهة، ومن جهة أخرى ليوثّق العرى الدلاليّة بينها فيهيّئ بذلك التّوازي فرصة لتنامي النّص وتناسل معانيه.
لقد أسس الهايجن نصّه وفق بنية “إيتشيبوتسو” أحادية التوليف، المؤسسة على قاعدة الفكرة الواحدة والموضوع الواحد، لذا نراه لم يعتمد الفصل بين أسطره الثلاثة.
نجح “مصطفى قلوشي” إلى حد كبير في توزيع حروفه ليصبغ نصه بإيقاع خاص، وعلى الأخص استعانته بالحروف الصائتة كقوله :(بشائر/ خريف/ زخات/ رائحة/ برتقال)، ولعلّهذا يعود إلى خصائصها الطبيعيّة التي تنماز بالوضوح السمعي، فتشدّ الانتباه إلى ما في النّص من معان تستوجب التّأمّل، لذلك نجد هذه الصّوائت تتظافر فيما بينها للتّعبير عن المعنى المستبطن الذي يروم الهايجن إلى ترسيخه.
يحضر الكيغو بنوعه المباشر (الظّاهر) في هذا الهايكو عبر ثيمة الخريف التي أضفت على النّص ارتباطا وجدانيا، وليس ارتباطا زمنيا لأجل تحديد مناخ طقسي فقط.
التّنحّي: يتبدّى تنحّي الهايجن وحياديّته تماما عن النّص، وموضوعيته في نقله المشهد، لذا نراه نجح في رصدهلظواهر طبيعيّة واستنطاقهلصمتها المثير.
يقول سمير منصور: “الهايكو يحتاج دائما لحدث نعيشه، ونلتقط من مشهده الواقعي الآني لقطة الجمال التي نبني من ألقها النّص”، وهذا بالفعل ما نقله الهايكست بكل موضوعية لقارئه؛ فصوت زخات المطر صوت شجيّ يقطع سكون الصّمت بنبراته الهادئة المتألّقةفي نوتات موسيقيّة عذبة الألحان، تطرب لها الأسماع. ومن خلال قراءتك لهذا الهايكويتبين لك ذلك الاتصال الوثيق بين الهايجن وعالم الطبيعة؛ لأن الشاعر وحده هو القادر على الإنصات لذلك الصوت المنبعث من الطبيعة الأم، والذي تكمن فيه ماهيتها، حيث يجلب ويستحضر تلك الأصداء التي تدوّي من رنين تلك الطبيعة إلى صوره الشّعريّة.
من المعروف أنّ زخات المطر الأولى عادة ما تثير رائحة التراب الندية، بيد أن الهايكست أحدث مفارقة كسرت أفق قارئه، وخيبت أفق انتظاره، فعبقت تلك القطرات برائحة زهر البرتقال، وهذا ما جعل نصه يتكئ على جماليّة اليوغن أو الغموض الشفيف، فرائحة زهر البرتقال تكون عادة في فصل الربيع، إذن فما علاقة زخات مطر الخريف برائحة البرتقال؟ اعتبارا أن المطر بشائر خير ويمن وبركة وإنتاج وفير، ممّا يجعل الهايجن بدل من أن يشم رائحة التراب مع أول تلك الزخات يشمّ عبق زهر البرتقال، وهو بذلك حدس استباقي؛ إنّه حدس تفتّح زهر البرتقال. فلعلّه لحن الشوق إلى أريج زهر البرتقال في أراضي طفولته وصباه؟؟ !!
جمالية الوابيالسابي: للمطر جمال ورونق خاص نراه في قطراته العذبة، فنستشعره برائحته الفواحة التي تشعرنا بنوع من الوحدة والعزلة كلما عانقت أولى قطراته الأرض، ولتراقص بذلك زهر البرتقال، لتشكل في الأخير سمفونية فريدة تغنيها الطبيعة.
الكارومي: (الخفة): الابتعاد عن الجزالة والثقل في الألفاظ، بالإضافة إلى السلاسة؛ أو بمعنى أقرب هو تفادي التعقيد والجدية المفرطة؛ اعتماد العفوية والبساطة، وهذا بالفعل ما جسده الهايكست في نصه.
الشيوري: هوذلك التعاطف مع الكائنات والموجودات التي تحيط بنا في هذا العالم الفسيح، من زخات المطر ورائحة البرتقال التي تمكّنت منأن تشعرنا بنوع من الحنان أو الألفة إزاءها.
تعد قصيدة الهايكو ممارسة شعرية حداثية تقوم على مبدأ الاختزال والاقتضاب الشديد من ناحية، ومن ناحية أخرى تقوم على التكثيف الدلالي وتعدد طبقات المعنى، كون النص الشّعري موشورا متعدد الأطياف والأوجه لتتعدد بذلك قراءاته وتلقيه من قِبَل المتلقين، وهذا ما حاولت السعي وراءه؛ أي بمعنى هو القبض على الجمال الكامن والمستتر في كنف النص، لا اللهاث خلف معنى ومقصدية الهايكست.

< بقلم: آمال بولحمام

Related posts

Top