الحماية الصحية للقضاة بين واقع الحال وآفاق تحسين المآل

عاد موضوع الحماية الصحية للقضاة الى الواجهة خلال الآونة الأخيرة، مع تزايد عدد الوفيات المسجلة في صفوف القضاة، وإصابة عدد منهم بأمراض مزمنة، وهو ما يسائل واقع الحماية الصحية المخولة لهذه الفئات، ونطاق الخدمات الاجتماعية المقدمة إليهم.

واقع الحماية الصحية للقضاة من خلال تقارير الجمعيات المهنية

إذا حاولنا التأريخ لهذا الموضوع، يمكن القول أن الملف الاجتماعي كان من بين أهم المواضيع التي شغلت اهتمام الجمعيات المهنية منذ تاريخ تأسيس أول جمعية للقضاة، وهي رابطة القضاة سنوات قليلة بعد حصول المغرب على استقلاله، إذ نجد ضمن الملتمسات التي رفعتها الرابطة في جموعها العامة المنعقدة بعدد من جهات المملكة ملتمسا يخص التأمين الصحي للقضاة، وبعد أزيد من خمسين سنة على تجربة رابطة القضاة، تجدد هذا المطلب من خلال توصيات نادي قضاة المغرب حيث رصدت الجمعية عدة معطيات مقلقة حول هذا الموضوع، من خلال عملها الميداني.

مؤشرات مقلقة حول الحماية الصحية للقضاة

سبق لجمعية نادي قضاة المغرب، أن رصدت في بياناتها عدة معطيات مقلقة حول واقع الحماية الصحية للقضاة، يمكن إجمالها فيما يلي:

– تردي الوضع الصحي للعديد من القضاة نتيجة ظروف العمل وضعف نظام التغطية الصحية، استنادا إلى المعطيات التي تم التوصل بها من خلال التواصل مع بعض الحالات المعنية، ورصد النادي للظاهرة منذ خمس سنوات.

– إصابة مجموعة من القضاة بأمراض مستعصية ومزمنة، من فئات عمرية مختلفة، وقد ربطت “بعض التقارير الطبية الأولية هذه الحالات بطبيعة العمل وبقلة الموارد البشرية وأحيانا سوء توزيعها”.

– عدم شمولية نظام التغطية الصحية، إذ أن عددا من الأدوية والتحاليل الطبية التي تتطلبها معالجة بعض الأمراض باهظة الثمن، وأغلبها يتم جلبها من الخارج، إلا أن نظام التغطية الصحية، سواء الأساسي منه أو حتى نظام التأمين التكميلي، لا يغطيها كلها، فضلا عن بطء المسطرة في الجانب المغطى.

ضغوطات العمل تزيد من تردي الأوضاع الصحية

تقدر تقارير رسمية حجم الخصاص الموجود داخل الجهاز القضائي على مستوى الموارد البشرية بأرقام مقلقة، فبحسب تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2019 الصادر في ديسمبر 2020، يبلـغ عـدد قضـاة النيابـة العامـة حوالي 1000 قاض، وهو ما يعادل نســبة ٪25,5مــن مجمــوع قضــاة المملكــة، وإذا استحضرنا العــدد الإجمالــي لســكان البلاد، والمقدر بـ  35.861.738نســمة فــإن معــدل قضــاة النيابــة العامــة هــو 3 قضــاة لــكل  100.000نســمة، وهو معـدل ضعيف جدا إذا مـا قـورن بالمعـدلات الأوروبيـة والتـي تعـادل النسـبة فيهـا  11قاضيـا لــكل  100.000مواطــن.

وبحسب كلمة الرئيس الأول لمحكمة النقض بمناسبة افتتاح السنة القضائية، فإن قضاة الحكم العاملين بمختلف الدوائر الإستئنافية البالغ عددهم (2839) من مجموع (4299) أصدروا سنة 2020 (2610331) حكما، بمتوسط محكوم وصل بالنسبة لكل قاض إلى (919) حكما، أما على مستوى محكمة النقض، فقد تم تسجيل (31448) قضية سنة 2020 كما بلغ عدد المحكوم منها(40561) أي بزيادة قدرها (9113) قضية.

تؤكد هذه الأرقام الارتفاع المهول في عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم، وعدد القضايا المحكومة بالنظر الى عدد القضاة، علما بأن مخرجات دراسة حديثة حول “تصورات حول العدد المفترض للقضاة على المديين المتوسط والقصير من أجل قضاء ناجع داخل آجال معقولة”، قدمت خلال الحوار الوطني حول الإصلاح العميق لمنظومة العدالة،  أوصت بضرورة الرفع من عدد الموارد البشرية القضائية بتوظيف ما بين 200 و250 ملحقا قضائيا كل سنة للوصول الى المعدل الدولي، وهو رقم تؤكد المؤشرات الميدانية أنه ما يزال بعيدا عن المنال خاصة مع ضعف أعداد المناصب الشاغرة المعلن عنها في مباريات توظيف القضاة، واستحضار أعدد القضاة المحالين على التقاعد.

ماذا تعلمنا التجارب الدولية

إذا كانت مدونات الأخلاقيات في العالم تؤكد على أهمية قيمة الاجتهاد، كواجب ملقى على القضاة، فإن التعليق على أهم وثيقة دولية في مجال الأخلاقيات القضائية وهي وثيقة بنغالور تشير إلى ضرورة التوفيق بين واجب الاجتهاد وحق القضاة في الراحة بما يسمح لهم بأداء التزاماتهم العائلية، وتطوير مهاراتهم ومعارفهم، وهكذا جاء في التعليقات على وثيقة بنغالور: “يجِب الاعتراف بمسؤولية القاضي تجاه عائلته، إذ يجب أن يحصل على وقت كاف يسمح له بالحفاظ على صحته البدنية والذهنية، وبفرص معقولة لتطوير مهاراته ومعلوماته الضرورية لأدائه مهامه القضائية بكفاءة”.

وتضيف نفس الوثيقة أنه: “صار هناك الآن اعتراف متزايد بضغوط المنصب القضائي، وأحياناً، يتم توفير مراكز للاستشارة والعلاج للقضاة الذين يعانون من الضغوط العصبية، وفي الماضي، كان القُضاة وممارسو القانون يجنحون إلى تجاهل أو التقليل من أهمية مثل هذه الاعتبارات. وحديثاً، أدت البحوث التجريبية والحالات الشهيرة لانهيارات عصبية أصابت بعض القضاة إلى لفت انتباه الرأي العام لمثل هذه الأمور”.

توصيات مستعجلة بإحداث لجنة للشؤون الاجتماعية

أخيرا لا بد من التفكير مليا في تخفيف الأعباء الملقاة على السيدات والسادة القضاة، وذلك من خلال تحسين ظروف الاشتغال وتوفير الموارد البشرية والمالية الكافية لأداء السلطة القضائية لمهامها، واحترام عدد معين من القضايا لكل قاض بحسب أفضل التجارب الدولية في المجال، وإعادة النظر في النصوص القانونية المؤطرة للحماية الصحية للقضاة، وفي انتظار ذلك يمكن اقتراح خلق لجنة للشؤون الاجتماعية داخل المجلس الأعلى للسلطة القضائية تكون من مهامها تتبع الحالات الطارئة لاتخاذ كل الإجراءات الممكنة للتكفل بها، والتنسيق مع المتدخلين؛ وذلك في أفق إعادة فتح ملف التغطية الاجتماعية للقضاة وسلة الخدمات التي تقدمها مؤسسة الأعمال الاجتماعية.

بقلم: ذ .عبد اللطيف طهار

عضو نادي قضاة المغرب بالناظور

Related posts

Top