الخطأ في الحساب وليس في السياسة

في ما يتعلق بالأحوال السياسية الداخلية لعدد من الدول العربية، صار من الصعب الإجابة على سؤال من نوع “أين يكمن الخطأ؟” بل إن طرح ذلك السؤال قد يُعتبر نوعا من السذاجة وقلة العقل.
في مواجهة الفوضى التي تعيشها تلك الدول على المستويات كافة ومن بينها المستوى السياسي فإن البحث عن خطأ ما هو خطأ في حد ذاته. وقد يكون خطأ السؤال أسوأ من الخطأ الذي يتعذر العثور عليه.
أعتقد أن المتاهة التي نسجت دروبها عبر عقود من الزمن صارت هي القدر الوحيد الذي يتحكم بمصائر كل شيء. ما على الشعوب سوى أن تجلس على العتبة في انتظار أن يطلق القدر صيحته فتقع الأشياء في المكان الذي يجب أن تقع عليه.
أما الشعب الذي هو مصدر كل السلطات كما تنصّ فقرة في دساتير تلك الدول فيكفيه أن يلعب دور المتفرج اللاهي بالأخبار عن حقيقة ما يجري من حوله، حتى وإن كان ذلك الذي يجري يخترع له مصيرا لا يليق به.
صار مصطلح “شعب” مجازيا بطريقة معيبة. أتذكر أن إبراهيم الجعفري الذي سبق له أن تزعم حزب الدعوة العراقي خاطب الشعب العراقي باعتباره رئيسا للوزراء يوم كان العراق محتلاّ بشكل رسمي بعبارة “يا شعبي” فأثارت تلك العبارة الدهشة والاستغراب. تساءل البعض يومها “أي شعب يقصد هذا التابع لسلطة الاحتلال؟”.
بالتأكيد لم يكن شعبه موجودا على أرض العراق المحتل. لا بد أن الرجل كان عارفا أن الشعب الذي يُفترض أنه يخاطبه كان ضائعا بين زمنين، ليس من اليسير عليه أن يتحلى بصفات الشعب فيهما. يمكنه أن يكون حشودا بشرية لكي نتفادى استعمال مفردة “قطيع”.
العبودية بغض النظر عن مصدرها تشبه إلى حد كبير الوضع الذي يصنعه الاحتلال. في خضم العبودية يبدو من غير المستحب كما يقول فقهاء الدين البحث عن خطأ يكون هو المشجب. شيء من ذلك القبيل يقع في كل لحظة من زمننا العربي.
في لبنان مثلا هناك رئيس وزراء مكلف عاجز عن تشكيل حكومته، لا لشيء إلا لأن حزبا مسلحا استولى على لبنان وهيمن على الحياة السياسية فيه وصار لزاما أن يكون هناك لبنانان. الأول هو الذي يستبيحه حزب الله والثاني هو الذي يتمكن فيه سعد الحريري من تشكيل حكومته. وحتى لو توصلنا خياليا إلى تلك الصيغة، فمَن من اللبنانين يحكم الآخر ويسوقه إعلاميا ليكون خبرا يلهي اللبنانيين عن البحث عن الحقيقة؟
لنضرب مثلا آخر. العراق دولة ثرية على مستوى الموارد المالية غير أن نصف شعبه يعيش عند مستوى خط الفقر أو تحته. ماذا عن النصف الثاني؟ ألا يحتاج ذلك النصف المستفيد من انهيار العدالة الاجتماعية إلى مدارس وجامعات ومستشفيات وطرق معبدة ومواصلات عامة ومياه صالحة للشرب وكهرباء وقنوات صرف صحي ومحاكم ومراكز شرطة تحفظ الأمن وحدائق وساحات عامة وسواها من المنشآت الخدمية التي يحتاجها كل مجتمع حي؟
كل ذلك لا أثر له في العراق. فهل يُعقل أن نصف الشعب العراقي استسلم لغباء فكرة النهب الذي صار مشروعا بحكم قوانين أصدرها فاسدون؟ في كل مظهر من مظاهره يبدو العراق دولة فقيرة يتسلى شعبها بالضحك لكي لا يدخل نفسه في متاهة الخطأ الذي لا يمكن العثور عليه.
لبنان هو في خياله لبنانان. أما العراق فإنه في واقعه عراقان. كل واحد منهما هو عدو الآخر، غير أنهما لا يستغنيان عن بعضهما. لا يمكن التعرف على طرف من غير حضور الطرف الثاني. فلا الحريري قادر على إعلان طلاقه مع لبنان حزب الله ولا حزب الله قادر على الاستغناء عن الحريري. لتبقى الثيران تدور في ساقية لا ماء فيها.
ذلك في الحالة اللبنانية، أما في الحالة العراقية فإن الأمور تبدو أكثر مأساوية. وهو ما يليق بأرض السواد. أخبرني صديقي الآثاري فوزي رشيد ذات مرة بأن تسمية أرض السواد لا علاقة لها بكثافة المناطق الخضراء في العراق كما يُشاع بل هي عبارة أطلقت لوصف العراق بعد أن لبس السومريون الثياب السوداء حزنا على سقوط دولهم وانهيار إمبراطوريتهم.
اليوم يتمسك نصفا الشعب العراقي، بعضهما بالبعض الآخر لكي لا يصدق أحد ما أخبرني به صديقي الآثاري. فالعراقي لا يحزن لسقوط دولته. لديه من أسباب الحزن ما يمكن أن يشكل حاجزا بينه وبين الدولة التي هي اختراع دنيوي مؤقت. أعتقد أن سبب عدم قيام القطيعة بين النصفين هو إيمانهما المشترك بأن الحل يكمن في الآخرة. بعد كل هذا. هل هناك مَن يفكر في الخطأ الذي لا وجود له.

> فاروق يوسف كاتب عراقي

Related posts

Top