الشاعر المغربي نور الدين ضرار.. في المقهى

إلى عهد قريب كان المقهى فضاء للقراءة والكتابة بالنسبة لمجموعة من المبدعين في الدار البيضاء بالتحديد، المدنية “الغول” كما كان ينعتها المسرحي الراحل: الحوري الحسين.
لكن عندما تحولت المقاهي إلى فضاءات لتزجية الوقت فقط، ولجلسات النميمة ومشاهدة مباريات كرة القدم، مباراة على الأقل في كل أمسية، وجهاز تلفاز في كل ركن، إن صوبت نظرك إلى الأمام يقابلك واحد، وإن التفت يمينا أو يسارا أو خلفا، ففي كل جهة جهاز كبير الحجم يشتغل من بداية الصباح إلى حدود منتصف الليل، لكل فترة زمنية من اليوم فضائياتها المخصصة لها ببرامجها التي تلبي أذواق رواد هذا الزمن بالتحديد.
هذه من وجهة نظري الخاصة بعض من الأسباب التي دفعت قوافل كثيرة من الشعراء والقصاصين والنقاد والروائيين إلى هجرة هذه المقاهي.. قلة قليلة جدا منهم لا تزال وفية للعادة السالفة الذكر، رغم الأوضاع التي أتينا على ذكرها، أي لا تزال تقرأ وتكتب بالمقهى.
الشاعر والناقد والمترجم نور الدين ضرار واحد من هذه القلة القليلة.
علاقته بالمقهى علاقة يومية، فهو شبه مداوم على مقهى بحي السلامة مواجهة لعمالة ابن امسيك، وقريب من المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية مولاي رشيد.
في المساء، تجده هناك جالسا في ركن لا يغيره إلا لماما، بعد جلوسه بدقائق معدودة يحضر له النادل قهوته المعهودة دون أن يطلبها بلسانه أو بإشارة من يده كما يفعل الزبناء عادة، يضع النادل السائل الأسود الدافئ ثم يتبادل التحية مع نور الدين، ثم يتبادلان كذلك قفشات ضاحكة كصديقين حميمين، هذا حاله مع النادلين معا اللذين يتناوبان على تلبية رغبات الزبناء بمقهى “ماجورنيل”، بعد هذا السكيتش العفوي والارتجالي بين النادل والكاتب، يشرع هذا الأخير في احتساء جرعات من قهوته وهو يخرج من محفظته عدة العمل المتكونة من دفتر أو دفترين من الحجم المتوسط، أو مجموعة أوراق التحرير الأولي، وبعد تصحيح وتنقيح ينتقل إلى عملية الرقن اعتمادا على الحاسوب، وفي هذه المرحلة غالبا ما يستعين بخدمات رفيق دربه زمن المراهقة والشباب وما بعدهما، أي صديقه عبد الحق أزهر.
ورغم كل ما قيل عن هذا الفضاء، فيصعب حصر نور الدين ضرار في مقهى واحد ووحيد، ففي كازابلانكا لوحدها يتنقل بعدته المعهودة بين عدة مقاهي في العديد من الأحياء والدروب المختلفة، بدءا من حي السكن بالساليمة إلى مولاي رشيد، درب السلطان، الوزيس، المعاريف، حتى لاشوب الشهيرة وسط المدينة، التي يقصدها زبناء ورواد، منهم من يقضي الساعات في التفرج على المارة والمارات بشكل خاص، قرب فضائها الخارجي بشارع الأمير، هنا أيضا وفي انتظار وصول صديق أو بعض الأصدقاء، يخرج صاحبنا عدته ويشرع في عمله غير عابئ بمآرب الآخرين.
ولا يسمح المجال لذكر مقاهي أخرى في مدن أخرى يزورها تلبية لدعوة من جمعية أو هيئة ثقافية، وغالبا ما تتواصل أنشطتها بين ثلاثة أيام وأسبوع، ورغم المهام التي توكل إليه في مثل هذه المناسبات، فلابد أن يخلق “ضرار” وقتا حرا خاصا به فيتأبط أمتعته ويقصد أقرب مقهى من الفندق أو مقر الإقامة، ثم يشرع في استكمال أحد مشاريعه أو يضع اللبنات الأولى لعمل جديد.
يحدث ذلك في الرباط والقنيطرة والصويرة وأكادير، كما يحدث في بوزنيقة ومراكش وسيدي إفني، وكلميم ومدن أخرى.
وشخصيا استمتعت بمرافقته أكثر من مرة إلى مقهى بضواحي مدينة المحمدية، مقهى من طراز خاص من حيث هندسته ومن حيث موقعه، يشتغل لمدة أربعة أو خمسة أشهر في السنة، هادئ جدا والبحر على مرمى البصر منه، طاولات قليلة متفرقة هنا وهناك وزبناء قليلون أيضا يحتسون شايا أو قهوة وهم يتأملون البحر ولا يتحدثون بين بعضهم البعض إلا لماما، وحده صوت الموج يصدح في الفضاء، وكاتبنا كان قد وضع فوق طاولته دفترا من الحجم المتوسط وقلما أزرق اللون، ثم معجما ثقيل الوزن وكبير الحجم وطبعته قديمة ونادرة جدا. انغمس الكاتب والمترجم في عالمه ولم ينتبه لي عندما انسللت من جواره وكذلك فعل أزهر وذهبنا سوية نتمشى جنب الشط.
لكن السؤال هو:
ما نوع العمل الذي ينجزه أو يقوم به نور الدين ضرار بالمقهى؟
من خلال مجالستي له في العديد من المرات، أراه إما يترجم صفحات من رواية عالمية أو دراسة فنية حول أحد رواد الأغنية المغربية أو حول الصانعات التقليديات أو رواية تاريخية للأطفال والفتيان، وقد يرتبط أمر الترجمة بنفحات من الهايكو الياباني، وفي فترات أخرى تجده يراجع مجموعة شعرية أو قصصية أو نصا روائيا، يكون قد تسلم هذه المواد الأدبية من أصحابها مباشرة ويقوم بهذه الخدمة بصدر رحب، خدمة للأدب ولحاملي مشعله في القادم من الأيام، وأحيانا يتسلم المواد من إحدى دور النشر قصد المراجعة والتنقيح والمصادقة.
لاحظوا أنني لم أدرج إبداع الشعر ضمن ما ينجزه الأستاذ نور الدين ضرار بالمقهى، لأنني مثلكم لا أعرف أين ومتى تسعفه القصيدة؟
في الليل يريـح الكاتب العين والبدن ويتوقف عن القراءة وعن الكتابة، ويفضل أن يستمع للمذياع أو يشاهد فيلما على الشاشة، وقد يرتدي جبة أخرى ويقصد مقهى الدرب القديم، وهناك يجالس أصدقاء الطفولة والعديد منهم توقف مسارهم الدراسي مبكرا، وهم يمتهنون حرفا تقليدية أو أشغال حرة ومنهم من لا شغل له، ومنهم كذلك من يعاني خللا عقليا بسبب قلة الشيء وحشو السجائر التي يدخنون بأشياء غير خافية على شخصيات هذا المقهى، شخصيات كأنها خارجة من روايات شكري وزفزاف وصنع الله إبراهيم، لكن “ضرار” يصافحها في الواقع ويجالسها ويشاركها الحكي والضحك ولعبة “الرامي” أيضا.
كل المقاهي التي يشتغل بها صباحا ومساء وأينما وجدت وكيفما كانت، يخدعها لطقوسه الخاصة به، عكس مقهى الدرب ليلا، فينغمس طواعية في أجوائه وينتشي ويسكر بطقوسه.
سي نور الدين القلب الكبير، يسارع إلى تهنئة الأصدقاء والصديقات عند صدور جديد أعمالهم، أو عنـد نجـاح أحـد أنشطتهـم، وكطفل يحز فـي نفسه أحيانا عندما لا يبادلونه حبا بحب وتهنئـة بتهنئتيـن.. وقد يطول الانتظار لكنهم في النهاية يتصلون، يباركون ويهنؤونه على الأداء الرائع أو على الهدف الجميل الذي سجله الأخ الأصغر نبيل في مرمى الخصم.
ما أقساها مقارنة بين لعبة تزداد شعبية ساعة بساعة، مع فن أدبي ولد نخبويا ويزداد اغترابا يوما بعد يوم.
سي نور الدين انتسب إلى الصحافة ذات زمن، لكنها لم تبتلعه كما فعلت بمجموعة من الأدباء الأصفياء الذين عجنتهم وحولتهم من مبدعين مهووسين بالشعر والقصة.. إلى مجرد محرري مقالات، وإن خسرته الصحافة فقد ربحته الترجمة وأدب الطفل والشعر والهايكو كذلك.
وسي نور الدين هو كذلك كاتب كلمات وملحن، له ألبومات جاهزة، هو من كتب كلمات أغانيها ووضع لها اللحن أيضا، فهو عازف ماهر على آلـة العـود، ويؤدي بحس فني جميل أغاني من الربيرطوا المغربي والشرقي.
ولحسن حظنا مرة أخرى أن تيار الأغنية المغربية الكلاسيكية، لم يجرفه، لأنه اختار بالمقابل الانضمام للأوركسترا العصريـة لمقهـى موريطانيا بحـي الأحبـاس، بقيادة المايسترو سيدي محمد عرش.

> بقلم: عبد الحق السلموتي

Related posts

Top