الشاعر والمسرحي د. محمد فراح: نحن نحلم لأننا أحياء… ومن لا يحلم فهو ميت الشعور وبلا طموح

هو شاعر مرهف الحس ومسرحي احتفالي بامتياز. هو كذلك ناقد أدبي وفني مرموق. لا يكتفي بالكتابة والإبداع في هذه المجالات الثلاث، بل يتعداها إلى كتابة السيناريو وأناشيد الأطفال.
إلى جانب هذا وذاك، هو فاعل جمعوي وأستاذ مكون لطلبة الإجازة المهنية في المسرح..
في هذا الحوار مع الدكتور محمد فراح، سنسعى للاقتراب من مناحي إبداعاته المتعددة، ومن اهتماماته الأخرى التي قلما يتحدث عنها.
سنستدرجه أيضا ليحدثنا عن علاقته بالطفل الذي كانه.. وأشياء أخرى بطبيعة الحال، ستتكشف لنا خلال قراءتنا لهذا الحوار الشيق والممتع مع شاعر وفنان درب السلطان، كما أحب وأهوى أن أطلق عليه دوما.

بين الأدب والفن.. والحلم

> تتوزع اهتماماتك بين الشعر والمسرح ثم النقد بشقيه الأدبي والفني. حدثنا كيف دخلت غمار الشعر؟
>> في يونيو 1967 كنت أجلس أمام المذياع أبحث عن نشرات الأخبار في كل الإذاعات العالمية، لأسمع أخبار الحرب في الشرق الأوسط.. وكنت أقرأ في الجرائد الوطنية عن انتصارات وهمية، لكن سرعان ما تلاشت وتبددت الأحلام، فشعرت بنوع من الإحباط، وخيبة أمل، ومع ارتفاع ضغط الدم لم أشعر إلا وأنا أصب شحنة من الكلمات والمفردات على ورقة كانت معي وبعدها توالت الوريقات…
كانت أحداث فلسطين لصيقة بي انطلاقا من تلمذتي على أستاذ فلسطيني جليل، وفي هذا المدار كانت علاقتي به وطيدة حيث كان ينير طريقي المعتمة في حقل الإرهاصات الأولى للكتابة والتي جاءت تلبية لرغبة جامحة وجدت متنفسا، فتسربت لتطأ الأوراق والدفاتر.
وبما أن الإنسان يخضع لمبدأ التطور، كان لزاما علي أن أقوم بصقل هذه الموهبة التي تفجرت “بدون استئذان” عن طريق المطالعة الحرة، فعمدت إلى دراسة دواوين القدماء
والمحدثين من شعراء الكلاسيكية أولا، لأنتهي بشعراء الشعر الحر.
وفي رحاب الجامعة قدمت باكورة إنتاجي الأول إلى أستاذي محمد مفتاح وكان يدرسني آنذاك علم النحو، فكان مما كتبه بخط يده عن المجموعة في شكل نصائح ما يلي:
– الاهتمام باللغة متنا ونحوا.
– الاهتمام بالموسيقى (العروض التقليدي أو التفعيلة كما في الشعر والشعر الحديث).
– الاهتمام بالصور وذلك بتنمية اطلاعك وحفظك للشعر القديم والشعر الحديث.
– الابتعاد عن المباشرة المبالغ فيها، إذ الشعر كما تعلم فن من الفنون الجميلة عليك أن ترضي بواسطته إحساس القارئ أو السامع وفكره وذوقه ثم بإيديولوجيته إن أمكن ذلك.
ساعتها بدأت أراجع نفسي من جديد وانصب اهتمامي على دراسة المذاهب الأدبية، فبدأت أعي أن الكتابة ليست سهلة وإنما هي علم وموقف. علم من كونها تشتمل على قوانين معرفية محضة تتلخص في الأدوات المستعملة داخل الشكل، وموقف من كونها تعبر من ذاتك وعن الآخر داخل المضمون.
هنا بدأت أسائل نفسي، يجب أن أكتب لأكون أولا أكون، فكان ديواني الأول “السيف والأكفان البيضاء”.
في هذه التجربة كانت قصائدي ترتكز على القضايا الاجتماعية والإنسانية محليا ووطنيا
وعالميا في علاقة جدلية بين الذاتية والموضوعية، وأنهل على حد سواء من معطيات الذاكرة الجمعية، ومن مخزون التراث الشعبي الوطني والقومي والإنساني في تنوعه وتقاطعاته، ففي قصائدي أفرغ كل ذلك في بوثقة واحدة أصبغها بخيالي ذاتيا وموضوعيا في علاقة لا تنفصل مجراها ولا تتفسخ أوصالها.
أما فيما يتعلق بمكونات البنية الإيقاعية التي نسجت على منوالها فإنها تسير بأسلوب “الشعر الحر” أو على نظام “الشعر التفعيلي” بما له وما عليه، حيث وظفت لبناء مكونات البنيات الإيقاعية ما يعرف بالأنساق الشعرية “المفردة” بمصطلح العروض الخليلي، أو “الصافية” حسب تعبير نازك الملائكة أو “التشكلات وحيدة الصورة” بتعبير كمال أبو ديب، وقد وظفت في تجربتي في قصائدي الأولى سبعة من الأنساق الشعرية المعروفة بالبحور “الصافية”؛ وهي: المتقارب، والمتدارك، والكامل، والوافر، والهزج، والرمل، والرجز.

> ظللت حاضرا في المشهد الشعري المغربي، إبداعا ومواكبة، لكنك انتظرت أربعة عقود لتتصالح مجددا مع النشر، إذ أصدرت في العام 2020 “كحلم يقبل الغمام”. كيف جاءت فكرة إخراجه إلى النور؟
>> إذا كان لبعض دارسي الشعر العربي موقف مناهض لاتجاه أو حركة “الشعر الحر” مثل ما فعل عباس محمود العقاد، على سبيل التمثيل لا الحصر، فإني شخصيا لست كذلك، بمعنى أنني لست من دعاة التمسك بأسلوب “الشعر التقليدي” أو “العمودي”
ولست من مناهضي أسلوب “الشعر الحر” أو “شعر التفعيلة” أو “الشعر التفعيلي” لكني مع رأي فني محض، أي أنني أقف إلى جانب الشعر، أينما وجد، قديما كان أم حديثا، وفي إحدى المناقشات بيني وبين الشاعر الدكتور محمد عرش حيث تساءل عن رأيي في قصيدة النثر، قلت له بأنني لم أدرسها بعد، ثم ما لبثت أن نشرت هذا الديوان الثاني، ولكنني كنت دائما أنشر قصائدي في الجرائد الوطنية، إلى أن جاءت سنة 2020 فطبعت “كحلم يقبل الغمام”.

> الحلم حاضر في عنواني ديوانيك “كحلم يقبل الغمام” ثم بصيغة الجمع في “أحلام في مآقي الأرق” هل من تفسير من قبلك لهذا الأمر؟
>> الحلم ربيب الإنسان الحي، فهو محفزنا نحو حياة أفضل، وبذلك تكون لحياتنا ألف معنى ومعنى. نحن نحلم لأننا أحياء.. ومن لا يحلم فهو ميت الشعور وبلا طموح. والإنسان يعيش ليحقق ما يحلم به، فإذا فقد هذا الهدف فلا معنى له في الحياة.

> قبل أن نطوي صفحة الشعر في هذا الحوار، لا يفوتني أن أعرج بك إلى “أناشيد البراعم” الصادر عن المكتبة المحمدية بالدار البيضاء سنة 2000 كيف جاءتك فكرة إبداع هذه القصائد المكونة للديوان؟
>> في الواقع هذا الديوان “أناشيد البراعم” جاء عن طريق الصدفة. كنت في إحدى الصباحات بمقهى موريطانيا أحتسي فنجان قهوتي وأدخن سيجارتي وكان قد مر على وفاة والدتي رحمها الله أربعة أيام. لم أشعر إلا وأنا أخرج من جيبي قلما وورقة طلبتها من النادل وإذا بي أخط على الورقة بداية نشيد عن الأم. وكان مطلعه على الشكل التالي:

اسمك أمي
نغمة الأنغام
عطفك أمي
جنة الأحلام

وأنا أفكر في إتمام النشيد والألم يعصرني، فإذا بالأخ الأستاذ عبد الحميد الغرباوي يجلس بجانبي ويسألني عن حالي بعد فقدان والدتي، لأنه يقطن بجواري في درب البلدية فقدمت له النشيد. حملق في وجهي جيدا بعدما قرأه، ثم قال لي: هل يمكن لك أن تكتب أناشيدا للأطفال؟ قلت له: أجرب. قال سأعطيك المواضيع التي تطلبها إحدى المكتبات. وعدته بأن يكون الديوان في أقرب وقت، وهكذا قامت الدار الناشرة للديوان وهي المكتبة المحمدية. ولم تكتف بطبعه فقط بل قامت بتسجيله عبر الكاسيط، من تلحين الفنان محمد بنهنديل والتوزيع الموسيقي للفنان خالد ابن الحكم وغناء المطربة الواعدة آسية بن عليوة والمجموعة، والإخراج الفني EDIMAC، والرسوم الداخلية للديوان للفنان حميد السملالي، ثم الإشراف العام طبعا للأستاذ عبد الحميد الغرباوي.

> كيف تنظر للإبداع الموجه للطفل على نذرته؟ ثم لماذا – من وجهة نظرك – يرفض مبدعون عدة الكتابة لبراعم المستقبل؟ هل هو ترفع؟ أم تهيب منهم من هذا الصنف من الأدب؟
>> ليس من السهل أن يكتب الأديب للطفل، ثم علينا أولا أن نحدد عمر هذا الطفل الذي سنكتب إليه، لأنه لابد من النظر إلى تقسيم الأعمار، فالكاتب للطفل عليه أن يحدد الفئة العمرية. هل يكتب للطفل من ثلاث إلى خمس سنوات، أم للطفل من ست سنوات إلى الحادية عشرة، إذ لكل فئة عمرية خصائص ومميزات. والكاتب الفطن هو من يأخذ بعين الاعتبار هذه التصنيفات، ثم أيضا عليه أن يتسلح بمجموعة من العلوم، كالتربية وعلم النفس وعلم الاجتماع. إذن فهو تهيب من الكتابة بكل تأكيد وليس ترفعا.

بين المسرح والنقد

> في تجربتك المسرحية، التي انطلقت خلال سبعينيات القرن الماضي، لماذا اخترت منذ البداية الانضمام بالتحديد لعبد الكريم برشيد ومصطفى رمضاني ورضوان احدادو، وبقية الاحتفاليين؟ هل جاء هذا الاختيار بعد تفكير؟ أم أن هناك صدفة لعبت دورها في توجهك هذا؟
>> والله يا أخي لقد أرجعتني أربعين سنة إلى الوراء، لما كتبت مسرحية “سنمار والنار والحصار” نشرتها جريدة العلم في ملحقها الأسبوعي، مجزأة في أربع ملاحق وكتبت فوق العنوان: احتفال مسرحي، وكان الهدف الأول عندي هو اختبار بعض النقاد من الأصدقاء. هل سينعتونني بالاحتفالي أم لا؟ هل النص لا يكون احتفاليا إلا إذا كتبنا في عنوانه احتفال مسرحي؟ فبمجرد ما نشر الفصل الأول من المسرحية حتى بدأت التساؤلات تطرح علي، وكنت أجيب هل هناك معيار تعرفون به النص الاحتفالي من غيره؟ فكانت إجابات البعض منطقية تستند على علم ومعرفة والبعض الآخر يلتزم الصمت، ولما أصدر الصديق الدكتور عبد الكريم برشيد البيان الأول لا يوجد اسمي ضمن الجماعة الاحتفالية لأنني لم أقرأ البيان ساعة كتابته، ورد علي الدكتور عبد الكريم برشيد في كتابه الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة بقوله: “وخلاصة القول في هذا الموضوع أقول لك، المسرح حفل واحتفال”.

> لماذا فكرت في إصدار نصوص مسرحية سبق وقدمت كعروض فوق الركح؟
>> أنا أومن بالقلم وبالكتابة، لأن الكتابة هي التي خلدت لنا النصوص المسرحية منذ العصر اليوناني، وما إصدارات هذه المسرحيات إلا توثيق لمرحلة من مراحل الكتابة عندي.

> كيف تقرب قراء هذا الحوار من نصيك “حرث الريح” و”الصرخة الأخيرة”؟
>> في مسرحة “حرث الريح” حاولت أن أطرح مسألة صراع الإنسان مع الزمن، إذ لكل زمانه حسب تقلبات العصر. وفي مسرحية “الصرخة الأخيرة” قمت بتعرية واقع معيش نعيشه. وقد كتبتم أنتم أستاذي دراسة لهما ونشرت في الملاحق الثقافية للجرائد المغربية.

> أغنيت الخزانة المغربية مؤخرا بكتابين مرتبطين بالنقد الأدبي. وهما “الأدب وجمالية التلقي” ثم “جمالية المعنى الشعري – قراءة في الشعر المغربي المعاصر”، وكلاهما رأيا النور عن إديسون بلوس بالدار البيضاء. قربنا من هذين الإصدارين الهامين.
>> بالنسبة للكتاب الأول، عرفت بأن النقاد قد دأبوا على تقسيم تاريخ نظرية الأدب إلى ثلاث مراحل أساسية: الاهتمام بالمبدع أو المؤلف، فالعناية الخاصة بالنص الأدبي، لينتقل الاهتمام بعد ذلك وبشكل لافت للنظر إلى القارئ في السنوات الأخيرة، لذلك يمكن القول إن المتلقي أو القارئ على امتداد تاريخ نظرية الأدب كان هو العنصر الأقل امتيازا على الرغم من أهمية وروده، إذ بدونه لن تكون هناك نصوص أدبية بالمرة، كما أن ممارسة فعل القراءة هو الذي يجعل منها إجراءات دلالية مجسدة – على حد تعبير تيري إيجلتون – ومن ثمة لا يمكن تفسير اشتغال أي نص أدبي إلا إذا أخذ بعين الاعتبار الدور الذي يلعبه القارئ على مستوى فهمه وتأويله وتحقيقه.
أما بخصوص الكتاب الثاني أخبرك بأنه كانت رغبتي، منذ وقت مبكر، أن أقوم بقراءة في مجموعة من الدواوين المغربية ودراسة المنجز الشعري لبعض الشعراء المغاربة المعاصرين.. ولا أخفيك أنني شعرت، وأنا أقرأ هذه الدواوين وأصغي إلى نصوصها، أن لدي سلطة مكنتني من إعادة خلق هذه النصوص وإعادة إنتاج معانيها الممتدة واللامتناهية، يدعمني في ذلك استجابتي لها، ومعرفتي بآليات اشتغالها، فرسمت داخلها عوالمي المحكومة بأحاسيسي الشخصية ومكتسباتي الفكرية والنقدية، مراعيا في ذلك مظاهر الاختلاف والتحول في الرؤية الشعرية لكل شاعر على حدة.

> ألا ترى معي أن التلقي والقراءة يكملان بعضهما البعض في ارتباطهما بالخطاب المسرحي؟
>> للوقوف على طبيعة الخطاب المسرحي وما يطرحه من مسائل على مستوى التلقي باعتباره خطابا تواصليا لابد من رصد الخصائص والسمات التي تميز مختلف عناصره ومكوناته، ومن خلال ضبط المستويات والأبعاد التي تكشف عن خصوصيته التواصلية، لذلك فمن المفترض في الخطاب المسرحي أن يحققها بحكم العناصر البانية والمؤسسة له، على مستوى الإرسال أو التلقي.
وإذا كانت التجارب المسرحية الغربية قد تناولت مفهوم التلقي وحظي باهتمامها الكبير فإن النقاد والدارسين المسرحيين منذ أرسطو إلى الآن لا يولون اهتماما بعملية قراءة الخطاب المسرحي ومسألة تلقيه.. لذا كان من الطبيعي الإشارة إلى أبرز وأهم النماذج والتصورات المسرحية الغربية في مجال قراءة الخطاب المسرحي وإلى أهم آلياتها النظرية والتطبيقية. لذا خصصت الحديث عن طبيعة الخطاب المسرحي العربي المحكوم بنوعين من الممارسة: ممارسة الكتابة الإبداعية والممارسة النقدية.
> حدثنا عن النوع الأول.
>> بخصوص الممارسة الأولى وقفت على بعض المظاهر التأسيسية والتأصيلية
والتجريبية وفرادتها الفكرية والإبداعية والثقافية.

> والنوع الثاني؟
>> الممارسة الثانية وقفت فيها على إشكالية التلقي في المسرح العربي، من خلال الإشارة إلى مفهوم الجمهور المسرحي لدى بعض التجارب المسرحية العربية التي حرصت على صياغة أشكال وقوالب فنية قادرة على تفعيل مشاركة المتلقي العربي، وإقباله على الأعمال المسرحية المقدمة له.

> ما هي وجهة نظرك في النقد الأدبي والنقد المسرحي؟ وهل يكملان بعضهما البعض؟ أم أن لكل واحد منهما أسسه وقواعده الخاصة؟
>> الآن بدأت تتبلور بعض الدعوات والمناهج النقدية التي تشير إلى ضرورة التخلص من سلطة اللغة، وتلح على ضرورة الابتعاد عن مفهوم أدبية المسرح، وإحداث طلاق نهائي بين ظاهرة المسرح والأدب. بناء عليه فعوض أن ينصب النقد المسرحي على النص الأدبي المسرحي وحده، بدأ يهتم بمكونات العرض المسرحي ككل، لأن هذا النقد بدأ يعي ويدرك خصائص الفن المسرحي واستقلاله النسبي عن فن الأدب، كما بدأ يهتم بالإخراج والعرض باعتبارهما السبيل الأساس في خروج النص إلى حيز الوجود، لذلك بدأت بعض الدراسات النقدية المسرحية تصرح بضرورة البحث عن صيغ جديدة، تتماشى وتلك التطورات التي أصبح يعرفها النقد الحديث، بمعنى أن الأسئلة التي تطرح في مجال النقد المسرحي أصبحت حاليا تتجه نحو التخصيص، أي نحو البحث عما يميز شكل الخطاب المسرحي عن غيره من أشكال الخطاب الأدبي.

أسئلة الكتابة والنقد وأسئلة الواقع

> ما الذي حذا بك لأن تجمع في مؤلف واحد بين الكتابة المسرحية كفن، والمتابعة النقدية كعلم أو منهج؟ ثم ما الرسالة التي تتوخى إيصالها إلى القارئ عبر كتابك “المسرح المغربي بين أسئلة الكتابة الإبداعية والممارسة النقدية؟ الصادر سنة 2000 عن منشورات دار الثقافة.
>> لقد استهدف هذا الكتاب محاولة رصد الممارسة النقدية المسرحية من خلال نموذجين هما: “من قضايا المسرح المغربي” لعبد الرحمان بنزيدان و”ظلال النص” لمحمد بهجاجي، وذلك على أساس أن هذين النموذجين على الرغم من تباعدهما الزمني، وعلى الرغم من اختلافهما على مستوى الطرح والتناول قد قاما بإضافة لبنات جديدة في بناء صرح الظاهرة المسرحية المغربية، وذلك من خلال الإحاطة بمجموعة من القضايا النظرية والتطبيقية التي تلامس هذه الظاهرة. إن الفارق الزمني الذي يفصل بين هذين النموذجين النقديين (78) – (91) كان عاملا من العوامل المقصودة في عملية الاختيار، وذلك لأن الخطاب النقدي في المغرب، في هذه الفترة التاريخية الفاصلة بينهما سيعرف تراكما كميا وتحولا كيفيا على مستوى المناهج، وعلى مستوى نماذج التحليل، كما أن الخطاب النقدي المسرحي سيعرف بدوره مناهج متنوعة ومختلفة: انطباعية، تاريخية، اجتماعية، نفسية، بنيوية، سيميائية ولسانية.

> هل هذه العملية مقصودة في الاختيار؟
>> إن اختياري لهذين النموذجين النقديين هي عملية مقصودة بالفعل لأنهما نموذجان مسكونان بنوعين من الأسئلة: أسئلة الكتابة النقدية وأسئلة الواقع، ولأنهما يعتبران العمل المسرحي عملا مفتوحا وقابلا لاحتضان أكثر من قراءة، ثم لأنهما يختلفان كل الاختلاف من حيث منطلقاتهما النظرية وتصوراتهما لمفهوم الممارسة النقدية ولمفهوم قراءتهما للأعمال المسرحية المغربية. إن المسألة النقدية المطروحة في هذا الكتاب لا تحمل أجوبة باتة ونهائية، ذلك لأننا كلما اطمأننا إلى إيجاد أجوبة معينة إلا وطرحت إزاءها تساؤلات جديدة مؤرقة، وكلما اعتقدنا أن بعض الحلول قد أصبحت في متناولنا إلا ونأت عنا، تلك هي طبيعة المعرفة العلمية التي لا تنفك تدعونا إلى البحث الدؤوب والمستمر والشوق الملتهب إلى معانقة الحقيقة.

> أود أن تحدثنا عن تجربة فريدة في مسارك الفني تعود للعام 1973 عندما قمت بإعداد مسرحية “لمعلم علي” عن رواية بنفس العنوان للأديب الراحل عبد الكريم غلاب، حيث قامت بإخراجها المخرجة فريدة بورقية، التي كانت فيما أعتقد حديثة العودة من الاتحاد السوفياتي. كيف تم التفكير في هذا التعاون الفني بينك وبين فريدة بورقية؟
>> عندما أغلقت الكلية أبوابها طيلة السنة الجامعية 1973 وكلما توجهنا إليها إلا ونفاجئ بمجموعة من رجال الأمن، خصوصا من قوات التدخل السريع الذين يمنعوننا من الولوج إليها أدركنا ساعتها أنها سنة بيضاء ولاشك، في تلك الفترة كنت أقضي وقتي بمكتبة دار الشباب بوشنتوف، إلى أن أقبلت المخرجة فريدة بورقية وقدمها إلي مدير الدار بأنها تنوي تهيئ عرض مسرحي يكون بمثابة بحث تنال به شهادة الإخراج من إحدى جامعات الاتحاد السوفياتي، فاخترت لها رواية “لمعلم علي” للأستاذ المرحوم عبد الكريم غلاب. أخذنا والدها المرحوم عبد السلام بورقية على متن سيارته إلى الرباط، حيث مقر جريدة العلم ونحن في الطريق عرفني والدها فقال لها أنا مطمئن لكما لأن الرفيق فراح هو مناضل في صفوف حزبنا، وتم الاتفاق مع الأستاذ عبد الكريم غلاب على أن أعيد كتابتها مسرحيا وتقوم فريدة بإخراجها للعرض، وللأسف لا أتوفر الآن على نسخة المسرحية وأذكر أنني قد سلمتها للزجال الباتولي ولم يرجعها إلي.
وبما أنني كنت أترأس الفرقة المسرحية “الرواد” وهي فرقة تابعة لمجلس دار الشباب عكفنا على التداريب المكثفة، وتم عرضها يوم الجمعة 3 أبريل 1973 في الساعة السادسة والنصف مساء بحضور عدد من المهتمين والصحفيين وموظفي السفارة الروسية، الذين حضروا من أجل كتابة تقرير حول العرض المسرحي، وكان عليها أن تجمع قصاصات الجرائد لتعود بها من جديد إلى الجامعة السوفياتية، وتتسلم آنذاك دبلوم الإخراج المسرحي. أذكر من الذين شخصوا معي العرض المسرحي الحاج نور الدين امهيمر وحسن رشيق وعبد الحق خياط وعبد الحي بنصالح ومحمد بهجاجي وسليم السعودي وعبد الرزاق مجيد.

> أصدرت لك الهيئة العربية للمسرح ضمن سلسلة دراسات نقدية مستهل سنة 2023 بمناسبة مهرجان المسرح العربي كتابا بعنوان: “دراسات نقدية في المسرح المغربي” حدثنا عن الأشواط التي مر منها هذا الكتاب قبل وصوله إلى يد القارئ المغربي والعربي عموما.
>> يقول الشاعر محمد الحلوي في مطلع إحدى قصائده الغنائية:

هي في الغيب فكرة ورجاء
كتبتها كما تريد السماء.

يعود الفضل في طبع ونشر هذا الكتاب إلى الصديق الأستاذ حسن النفالي. كنت قد استشرته في طبع أحد كتبي عن طريق الهيأة العربية للمسرح فأرشدني على اسم المسؤول عن طبع الكتب ومرت بعض أسابيع فقط، فأخبرني بأن الهيئة ستقدم على طبع مجموعة من الكتب المسرحية للكتاب المغاربة وذلك بمناسبة مهرجان المسرح العربي، والذي سيقام بمدينة الدار البيضاء في دورته الثالثة عشرة. طبعا أرسلت له الكتاب بعد أن اطلع عليه خليلي الأستاذ محمد بهجاجي، وأغتنم هذه الفرصة لأتقدم بالشكر ثانية للأخ الأستاذ حسن النفالي والأستاذ السي محمد بهجاجي والأستاذ غنام غنام وجميع أعضاء الهيئة العربية للمسرح. الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات النقدية تستهدف البحث في ثلاثة جوانب من جوانب الخطاب المسرحي وهي: التلقي المسرحي، والتحليل الدراماتورجي، وتوظيف التراث.. وهي عبارة عن قضايا أثارت ومازالت تثير الأسئلة والأجوبة، وتطرح بخصوصها الآراء والتصورات النقدية التي تحيل على مرجعيات كثيرة ومختلفة، لذا فإن السمة المشتركة بين هذه المقالات النقدية هو المتلقي، حيث حاولت من خلالها التأكيد على أن الخطاب المسرحي بكل مكوناته ومستوياته وأبعاده، لا يمكن أن يتحقق ويدرك في غياب المتلقي/ المشاهد/ القارئ الذي يقوم بإخراجه من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل.

> ما الذي رغبت في إضافته عبر هذا الإصدار بشأن النقد المسرحي المغربي؟
>> نعم سيدي، إذا كان هاجس النقد المسرحي هو البحث عن قراءة ملائمة لطبيعة النص الدرامي، يكون فيها الناقد قارئا مبدعا، وليس مجرد قارئ شارح أو مفسر لهذا النص، فإن هذا النقد قد وجد ضالته في التحليل الدراماتورجي، باعتباره مقاربة من المقاربات القرائية التي تروم رصد خاصية التمسرح في النصوص الدرامية، من خلال تقديم الناقد/ القارئ لمجموعة من التصورات الفنية والفكرية والتقنية والجمالية على مستوى العرض المسرحي المتخيل، على أساس أن النص الدرامي هو عمل فني يتضمن خصائص إبداعية، تؤهله لأن يتحول إلى ممارسة ركحية، لذلك فإن أهمية التحليل الدراماتورجي تكمن أساسا في جعل النقد المسرحي، يرصد العلاقة التي يتم بموجبها الانتقال من الكتابة النصية إلى الكتابة الركحية، وما يتطلبه هذا الانتقال من شروط فنية وتقنية، ومحاولة ربط هذه الشروط بالمتلقي.

من ذكريات الطفولة

> هل يمكن أن تحدثنا عن أبرز ذكرياتك المرتبطة بالطفولة؟ ثم كيف هي علاقتك بالطفل الذي كنته ذات زمن؟
>> من بين ما أذكر أنه في ليلة ليلاء، كنا في ضيافة ابنة عمة والدي وكانت تسكن داخل مقبرة اليهود لأن زوجها كان حارسا بها. لن أنسى أبدا ذلك المشهد الدامي حين اقتحم علينا بعض الجنود من قوات الاحتلال الغرفة مدججين بالبنادق، فاعتقلوا والدي وثلاثة من أعمامي بتهمة قتلهم لأحد الأطباء الفرنسيين، ثم فروا على حد زعمهم داخل المقبرة متخذين من زيارة الأقارب ذريعة لإبعاد الشبهة عنهم. لم نعرف النوم تلك الليلة حيث مكثت مع والدتي قرب مخفر الشرطة ننتظر إلى الصباح من غير جدوى.. في طفولتي المبكرة كنت أرتاد وبكثرة احتفالية “لحلايقي” اليومية أمام ساحة الجزارين بدرب البلدية، ومن هناك أخذت أبجديات الحكي والسرد والإيقاع وصنعة الخيال من لدن فناني الشعب الفطريين “لحلايقية”، البهجة وألعابه السحرية وحلقة “البوكس” المعروفة “بالدبيز” حيث أصبحت من رواد حلقة الملاكمة بل من أبطالها المشهورين. كنت أحيانا غالبا منتصرا وأحيانا مغلوبا منهزما.
مازلت أذكر أنني خرجت من المدرسة قاصدا محل والدي فلم أجده، فقمت بفتح خزانة بالمحل أضع فيها غذائي الذي تهيئه لي والدتي، وبعدما تناولت طعام الغذاء أحسست بالعطش، فتحت إحدى الثلاجات المعروضة للبيع ولسوء حظي لم أجد بها قنينة الماء البارد الذي كنت مولع بشربه، فوضعت لساني ألعق كثلة ثلجية مجمدة بالداخل، فإذا به يلتصق ولا أستطيع الصراخ لأن فمي بداخل الثلاجة ولا يمكنني فتحه. بقيت على تلك الحالة زهاء خمسة دقائق، فإذا بحارس المحل يدخل فجأة، حيث أزال التيار الكهربائي وأنقذني من موت محقق.

> الدكتور محمد فراح، هل من كلمة أخيرة؟
>> شكرا لجريدتنا الغراء “بيان اليوم”، التي منحتني فرصة التواصل الأدبي والفني، مع قرائها الأعزاء عبر هذا الحوار الشيق.

Top