الصحافة ما بين محنة أوريد ومستقبل مجاهد

في مقال بعنوان “محنة الصحافة” دبجه حسن أوريد، تعليقا منه على بيان لصحافيين وكتاب مغاربة دعوا فيه مؤخرا بالخصوص إلى الالتزام بضوابط أخلاقية مهنة الصحافة”، سلط فيه الضوء على جانب من وضعية الصحافة المغربية في نهاية التسعينات من القرن الماضى، التي عرفت – في نظره – “طفرة نوعية” خلال هذه المرحلة.
وفي هذا السياق اعتبر أوريد صاحب رواية “ربيع قرطبة” بأن أسبوعية  “لوجرنال” الصادرة باللغة الفرنسية “تمثل أبرز تجربة للصحافة المستقلة”، وذلك لـ “جرأتها في طرح قضايا كانت من الطابوهات، عن أوضاع حقوق الإنسان، وما يعرف بسنوات الرصاص وفسح المجال لمن كانوا منبوذين للحديث”.

هل يمكن لمجتمع حديث أن يعيش بدون صحافة؟

كما طرح مؤرخ المملكة المغربية السابق في مقاله الذي نشرته إحدى الجرائد العربية الصادرة بلندن، عدة أسئلة، منها هل يمكن لمجتمع حديث أن يعيش بدون صحافة؟ وهل يمكن لدولة ترنو إلى أن تكون حديثة أن تعيش من غير صحافة حرة؟ وهل تستقيم الصحافة الحرة بدون أخلاقيات؟
هي أسئلة، وإن كان من المهم طرحها في هذا التوقيت بالذات، فإنه يتعين أن ينظر إليها من جهة أن تقييد حرية الصحافة بالشرط الأخلاقي، لا يمكن أن يكون إلا في إطار القانون، شريطة أن تكون هذه القيود ضرورية لإعمال مبادئ الحرية والديمقراطية والشفافية والحكامة، وضمان الحماية والكرامة الإنسانية عموما، كما تنص على ذلك الأعراف والمواثيق الدولية ومنها منظمة اليونيسكو، وهو ما يعنى أنه لا يجب اللجوء الى خطاب أخلاقيات الصحافة واستخدامه، كحق يراد به باطل كما يقال.

وضع الصحافة والصحافيين لا يحتمل الاستمرار فيما هو عليه

فـ “الصحافة المستقلة” – كما جاء في مقال أوريد والي جهة مكناس تافيلالت السابق، رغم أن “الاستقلالية” لازالت تعريفا ومفهوما في حاجة إلى تمحيص وتدقيق علمي، وهذه قصة أخرى – ارتبطت “فورتها” بالتحولات وسياقات الفترة الممتدة ما بين 1990- 1998 التي اعتبرها البعض بأنها “قوسا فتح وسرعان ما أغلق”، أو كانت “دورة انفتاح” قصيرة، عرفها المشهد السياسي مقارنة مع “دورة التشدد والإنغلاق” التي عادة ما تكون طويلة، حسب ما تحدث عنه محمد الساسي الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، ببراعة الباحث، في ندوة فكرية نظمها مؤخرا المركز المغاربي للدراسات والأبحاث في الإعلام والاتصال بالرباط.
بيد أن مقالة حسن أوريد الناطق الرسمي باسم القصر الملكي السابق، يمكن أن تشكل، في ظل النقص الملحوظ في مجال الكتابة التاريخية حول الصحافة والإعلام وإبدالاتها، وجهة نظر حول تاريخ الوقائع الصحافية في المغرب الحديث وجانبا من الذاكرة الوطنية الإعلامية. إن أهم القضايا التي حدت من سيادة حرية الصحافة خلال أواسط التسعينات – حسب التقرير السنوي الصادر عن النقابة الوطنية للصحافة المغربية حول “أوضاع الصحافة والصحافيين 1996 – 1997” – تتمثل في “تحكم السلطات العمومية في الاستثمارات الإعلامية الكبرى، وضيق هامش الاستقلالية في وسائل الإعلام، ومظاهر الرقابة الذاتية وغياب التكوين..”
غير أنه لا يمكن فهم وسائل الإعلام فهما شموليا، دون الإلمام بمؤسسات المجتمع ونظمه المختلفة، باعتبارها جزء من البناء الاجتماعي، وتطور هذه المؤسسات، يعد نتيجة لعمليات التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. كما ينبغى ألا يغرب عن البال، أن الكتابة الصحفية حول الذاكرة السياسية الوطنية، التي لم تكن حكرا منبر إعلامي دون الآخر، بل كانت مساهمة صحافية جماعية، انتعشت بشكل ملحوظ، واتسمت المواد المنشورة بالصحف، بجرعة كبيرة من الجرأة والإبداع في تناول قضايا كانت إلى حين في خانة المحرمات.

حفريات الصحافة في الماضى وسعت قاعدة القراء وأحدثت تحولا في التفكير والبحث

وتميزت فترة التسعينات، بتنافس كبير بين المنابر الصحافية، على تقليب صفحات الماضي، بالتركيز على أحداث بعينها خاصة في سنوات الرصاص. وبالمقابل حظيت حفريات الصحافة باهتمام متزايد من لدن الطبقة السياسية، وفئات واسعة من الرأي العام، ومكن الأداء المهني المتميز للعديد من الصحافيين، من إحداث تحول في التفكير والبحث، وهو ما ساهم في توسيع قاعدة القراء.
فعلى سبيل المثال، تعدت مبيعات إحدى أعداد جريدة واحدة هي “الاتحاد الاشتراكي” التي خلفت “المحرر” المصادرة، 150 ألف، خلال مواكبتها لحرب الخليج سنة 1991 وقضية العميد تابث وهو الرقم القياسي الذى ظل صامدا، إلى غاية 2007 حينما حققت جريدة “المساء” رقم مبيعات بلغ 200 ألف نسخة، حسب تصريح آنذاك للرئيس المدير العام لشركة التوزيع المغربية (سابريس) محمد عبد الرحمان برادة .
وساهمت التحولات التي كانت تعتمل في تلك المرحلة على المستوى الوطني والمستوى الدولي، في هذه الدينامية الإعلامية، وتعزز المشهد الصحفي والإعلامي بالتحاق جيل جديد من الصحافيين الشباب بالإعلام العمومي والخاص، مما أدى إلي توسع كبير في العرض الصحفي، الذي لم يعد كما كان في السابق حكرا على الصحافة الحزبية. وهو ما خلق واقعا جديدا، تخلخلت معه يقينيات سادت ردحا من الزمن حول دور الصحافة وأحداث من الماضي التي نفض عنها الغبار في ملفات خاصة نشرتها الصحافة.

التحاق أجيال جديدة بالاعلام العمومي والخاص خلق
دينامية في المشهد الصحفي

وترافقت هذه الدينامية مع الجدل الواسع الذي اندلع على صفحات الجرائد حول وظائف الصحافة، والكتابة الصحفية عن أحداث الماضي الذى عادة ما اعتبر اختصاصا للمؤرخين الذين لبس بعضهم جبة الصحافي خلال تلك الفترة. وإذا كانت الصحافة تعتبر من جهة أخرى فن الممكن، فإنها مع ذلك مهنة تتطلب قدرا كبيرا من التكيف مع شروط الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، شريطة ألا يصبح هذا التكيف خضوعا لما يتعارض مع حقائق الأشياء، ومع أخلاقيات المهنة.
وإن كان للسياق السياسي دور مؤثر وحاسم في بروز الصحافة الخاصة التي استفادت من التجربة الطويلة التي راكمتها نظيرتها الحزبية، فإن المتغيرات السياسية والاجتماعية والحقوقية والإعلامية، ساهمت بدورها في نزوع ملحوظ نحو استقلالية العمل المدني الجمعوي، الحقوقي والثقافي والنسائي وأيضا الصحافي، الذي عرف “تحولا نوعيا وعميقا”.

وظائف الصحافة.. الأخلاقيات والحرية وجهان لعملة واحدة

وإن شكلت هذه التحولات خلال التسعينات، مدخلا للشروع في سلسلة من الإصلاحات خاصة في الميدانين السياسي والحقوقي، إلا أنها أدت في ذات الوقت إلى إعادة النظر بشكل جذري في علاقة الدولة بالمجتمع ومؤسساته، خاصة وأن غالبية مؤشرات عقد التسعينات – حسب البعض – لم ترق إلى مستوى تغيير البنيات الاجتماعية التقليدية التي ظلت تتحكم فيها سلوكيات وتوازنات الفاعلين.
وفضلا عما تعانيه الصحافة في الزمن الراهن، من صعوبات جمة، ساهمت في انحسار دورها وتواثر حالات من التضييق على الصحافة والهشاشة التي تعاني منها المقاولة الصحافية والوضعية الاجتماعية للصحافيين، كلها عوامل ساهمت في تراجع منسوب الاستقلالية والمصداقية، فإن هناك تحديات من نوع آخر تواجهها الصحافة في مقدمتها “تغول” الشركات العملاقة وإحكام قبضتها على شبكة الإنتريت .

إحكام الشركات الكبرى قبضتها على الإنتريت وسؤال مستقبل الصحافة

وهذا على ما يبدو ما دفع يونس مجاهد رئيس المجلس الوطني للصحافة إلى التساؤل في ندوة “أخلاقيات الصحافة في الزمن الرقمي” التي نظمها كرسي العربي المساري لأخلاقيات الصحافة والإعلام، مؤخرا، عن كيف نعالج الإشكالات التي تطرحها التكنولوجيات الجديدة، وسائل التواصل الاجتماعي في ظل الذكاء الاصطناعي، وتأثيرات هذه الشبكات على الرأي العام وهي تحديات تطرح علامات استفهام ليس فقط حول العمل المهني ولكن حول مستقبل الصحافة برمتها حسب مجاهد الذي عبر عن اعتقاده الراسخ بأن الصحافة الحرة والديمقراطية تعد ضرورة مجتمعية على الرغم من تحولات الزمن الرقمي.
ولاحظ مجاهد رئيس الفيدرالية الدولية للصحفيين، أن جائحة كوفيد 19، قد جعلت ما يسمى في أدبيات الإعلام بالصحافة التقليدية (الصحافة المكتوبة – الإذاعة – التلفزيون) تستعيد زمام المبادرة باسترجاع القراء والجمهور مشددا من جهة أخرى على ضرورة الانكباب على التأصيل العلمي لتاريخ الصحافة وايلاء الاهتمام للأرشيف وذاكرة الصحافة خاصة للنقابة الوطنية للصحافة المغربية التي راكمت، منذ تأسيسها سنة 1963، تجربة جديرة بالتأمل والبحث العلمي. وقال في هذا الصدد “إن شعبا بلا تاريخ ولا ذاكرة، لا مستقبل له”.
أما عبد الجبار الراشيدي الباحث في الإعلام والاتصال، فأثار في الندوة ذاتها المنظمة بمناسبة مرور خمس سنوات على رحيل العربي المساري الذي يعد أب أخلاقيات الصحافة بالمغرب، موضوع آداب المهنة بالمواقع الإلكترونية ملاحظا وجود عددا من الاختلالات في الممارسة الصحفية كـ “الاعتداء على حقوق المؤلف، وقرصنة المواد الإعلامية والصور والفيديوهات، والسب والشتم، وفبركة المحتوى والصور..”.
أما منى المساري، كريمة الراحل العربي المساري، فقالت إن معادلة الحرية والمسؤولية شكلت أحد الهواجس التي كانت تؤرق والدها، الذي ظل قيد حياته يدافع عن معادلة الحرية والمسؤولية، طيلة مساره الإعلامي ويؤكد دائما على ضرورة توسيع هامش الحريات العامة ببلادنا وخاصة حرية الصحافة والإعلام مع التقيد بالضوابط المهنية وبأخلاقيات الصحافة. ولقد انشغل المساري (1936- 2015) عندما كان كاتبا عاما للنقابة الوطنية للصحافة بموضوع أخلاقيات مهنة الصحافة مثل انشغاله بحرية الصحافة، وبحث رفقة الصحافيين في النقابة عن كيفية تنفيذ مقتضيات ميثاق الشرف، لأنه كان يدرك خطورة عدم التقيد ببعض المبادئ المؤطرة للأخلاقيات، ليس فقط على الصحافي بل على مهنة الصحافة، باعتبارها سلطة رابعة، أو صاحبة الجلالة كما يسميها البعض تقول المتدخلة.

أخلاقيات الصحافة في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي

كما اهتم الفقيد بشكل كبير بأخلاقيات المهنة، حيث كان يرصد جميع القصاصات والمواد الإعلامية المنشورة في الصحف والتي تتضمن خروقات لأخلاقيات المهنة، وكان يضمنها في التقرير السنوي الذي تصدره النقابة الوطنية للصحافة المغربية. وبهذا الصدد، قالت منى “كان والدي رحمه الله دائما يذكر، خصوصا في السنوات الأخيرة من حياته، أن أخلاقية المهنة المقننة من طرف الحكومة أو أطراف خارجية لا يكون قبولها بديهيا من طرف الصحافيين. بينما إذا كانت معرفة ومقننة من طرف أهل المهنة يكون قبولها والتشبع بها أكبر”.
وعندما تولى مهام وزير الاتصال (ما بين 1998 و2000) بادر المساري الذي كان سفيرا للمغرب بالبرازيل، إلى تنظيم عدة لقاءات من أجل صياغة ميثاق لأخلاقيات المهنة، لكن هذا المشروع لم يكتمل للحساسية التي كانت لدى الصحافيين تجاه تدخل الحكومة في مجال أخلاقيات الصحافة، تذكر منى التي عبرت عن الأسف “كيف أن النقاش حول أخلاقيات المهنة لم يتم حسمه بعد، بالرغم من المجهودات التي بذلت في هذا الصدد، ويزداد هذا الموضوع تعقيدا مع التطور الذي عرفته تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وبروز الإعلام الرقمي والصحافة الإلكترونية”.
وبصفة عامة فإن تعزيز الالتزام بقواعد أخلاقيات المهنة وتكريسها في السلوك اليومي للمهنيين، وتفعيلها داخل مختلف المقاولات الإعلامية، رهين بالحفاظ على شرف المهنة وكرامة الصحفيين وحمايتهم أثناء تأدية واجبهم المهني والدفاع عن حق الجمهور في إعلام نزيه.

< بقلم: جمال المحافظ

Related posts

Top