اللقاءات عن بعد: رؤية عن قرب

وأنا أبحر هذا الصباح كما العادة في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، أثار انتباهي إعلان عن تنظيم ندوة دولية عن بعد تتناول موضوعا من مواضيع الساعة؛ فقد غدت الندوات واللقاءات مثل صيحات الموضة لكل فصل تشكيلاته؛ استبد بي الفضول فوجدت نفسي أفتح الإعلان، مستطلعة محاور الندوة، والمشاركين فيها والجهة المنظمة؛ لأفاجأ أن رئيس اللجنة المنظمة لا علاقة له بالتخصص، والأمر نفسه ينطبق على جميع المشاركين؛ لكن خيبتي كانت كبيرة وممتدة لما اكتشفت أن حضور هذه الفعالية الثقافية الكبرى بحسب منظميها ليست مجانية، بل يشترط دفع رسوم التسجيل…. تساءلت في غمرة خيبتي عن الجشع الذي أصبح يغزو حياتنا من قبل بعض الانتهازيين الذين يستغلون الطلبة في غمرة هذه الطفرة الوبائية وحالة اللاستقرار التي يمر بها العالم؟
فعلا كان لوباء كوفيد 19 أثر حاسم في تقييد العالم، وشل حركته في جل المجالات الاقتصادية والتعليمية والثقافية، ونظرا لصعوبة واستحالة اللقاء المباشر لما يشكله من خطورة على الفرد وعلى المجتمع، كان خيار اللقاء عن بعد وسيلة مرحلية ومؤقتة لتجاوز الأزمة التي فرضتها الظرفية بدء من تفشي وانتشار الوباء وإلى الآن.. بهدف تحقيق السلامة الصحية للأفراد والمجتمعات.
في ظل هذه الظروف الاستثنائية تم الاعتماد رسميا على التعليم عن بعد، كما نظمت الملتقيات والمهرجانات والندوات العلمية الوطنية والدولية، وما فرقه وباء كوفيد 19 جمعته التكنولوجيا الحديثة، وانخرط الجميع في هذه التجربة، وأسهم في إنجاحها، وذلك رغم كل الإخفاقات التي كانت تعتريها من الناحية التقنية. ونظرا للجدية التي كانت تطبعها، وبسبب الإقبال منقطع النظير الذي حظيت به باعتبارها تجربة جديدة، وبصفتها الوسيلة الوحيدة الممكنة التي مدت جسور التواصل الثقافي بين الشرق والغرب، ناهيك عن استقطابها لكل مكونات المجتمع، انتابنا شعور عارم بأننا أمام صحوة ثقافية أسعدتنا وابتهجنا لها.
لكن مع طول المدة، وانطلاق الموسم الجامعي والدراسي الجديد بدأنا نستشعر نوعا من النفور المتزايد من تلك الملتقيات التي فقدت طعمها نظرا لكثرتها، وهيمنتها على مواقع التواصل الاجتماعي، فبمجرد أن نقلب صفحات الفيس بوك أو أي وسيلة تواصل أخرى حتى تتهاطل علينا المئات من اللقاءات التي تتطرق إلى مختلف الحقول المعرفية. ولم تعد مثل هذه اللقاءات حكرا على المواضيع الثقافية التي يسهر على تنظيمها متخصصون ذوو تجربة سابقة في هذا المجال، بل أضحى الكل ينظم اللقاءات العلمية والمهرجانات التشكيلية والقراءات الشعرية…، نظرا لسهولة التنظيم ولمجانيته، فمن المعلوم أن المنظم للنشاط عن بعد لا يحتاج في مثل هذه الحالات إلى طلب قاعة للعرض، وهو معفي من توفير وجبات الغذاء للضيوف، وحجز غرف للمبيت. ولا يضطر أن يطرق ذليلا أبواب المؤسسات العمومية والخاصة أملا في الحصول على دعم مادي أو لوجيستيكي. إنه معفى من كل هذه الإكراهات. ومن جرب تنظيم الندوات الحضورية ما قبل كورونا يعرف أن هذه التحركات الماراطونية كثيرا ما تنتهي بخفي حنين، فيضطر المنظم، حفاظا على ماء الوجه، أن يغطي جزء من النفقات من ماله الخاص.
والغريب أن بعض منظمي مثل هذه اللقاءات عن بعد، ولاستقطاب أكبر عدد من المتابعين تبنوا فكرة توزيع شهادات الحضور. ويحق لنا أن نتساءل ها هنا عن جدوى ومشروعية تلك الشهادات؟ وهل لها فعلا قيمة معينة ضمن دفتر تتبع التكوينات التكميلية الإجبارية الخاص بالطلبة الدكاترة؟ ونحن نعلم أن رئيس اللجنة المنظمة للمؤتمرات الحضورية لا يوقع على شهادة الحضور إلا بعد أن يتأكد من متابعتهم لأشغال الندوة التي تستغرق أحيانا يومين أو ثلاثة. لنكن صرحاء مع أنفسنا، ولنقل الحقيقة كما هي دون أي رتوشات إضافية، ولنتساءل بصوت مرتفع: عن أي حضور نتحدث؟ فهناك من يتابع المحاضرة أو النشاط العلمي وهو في السوق أو في المتجر يجر عربة التسوق، ويقارن بين أثمان السلع والمنتجات. وهناك من يتابع المحاضرة، وهو يقود السيارة في غفلة عن شرطي المرور. وهناك من يطل على المحاضر، وهو يتناول وجبة الغذاء أو العشاء، وقد يغيب فترة من الزمن لكي يقضي بعض الأغراض أو الحوائج. ولخطأ خارج عن الإرادة، أو ناتج عن السهو يحدث أحيانا أن نرى في الشاشة حضرة المتابع، وهو غارق في النوم داخل غرفته، وقد نسي الكاميرا مفتوحة…. فعن أي شهادات للحضور نتحدث؟
لقد وَجدت بعض المراكز في مثل هذه اللقاءات عن بعد وسيلة مجانية لترويج اسمها على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح البعض نجوما يتحدثون في كل المواضيع، وفي كل التخصصات، هل ناقشت فعلا تلك المؤتمرات إشكاليات كبرى، وحاولت الإجابة عن أسئلة عالقة؟ وهل خرجت بتوصيات مهمة أم ظلت عند حدود التعريف بالظاهرة؟ في نظري المتواضع نحن في حاجة إلى إعادة النظر في هذه الظاهرة، وأن نتعامل معها بجدية كبيرة وإلا أصبحنا كمن يدق الماء في المهراز يوهم الناس بالقرع دون وجود أي نتيجة يجنيها. في النهاية هي فرقعات صوتية لا غير.
لكن ما يدهشنا أكثر، ويحز في أنفسنا، هو ما أصبحنا نراه على بعض مواقع التواصل الاجتماعي من إعلانات عن بعض المؤتمرات والندوات الوطنية أو الدولية عن بعد؛ والتي تنظمها بعض المراكز والجمعيات الخاصة، وتضع من شروط حضورها رسوما نقدية بموجبها يحصل الحضور على شهادات المشاركة، فعلا إنها نوع من التجارة المقنعة بقناع خدمة الطالب والعلم. هذا ناهيك عن النشاط الكبير الذي عرفته بعض الأكاديميات والجامعات الخاصة التي تدرس عن بعد، والتي قلصت سنوات الدراسة بها وصارت تمنح شهادات الإجازة في تخصصات مختلفة، موهمة المستفيدين منها أن شهاداتها أصبحت تعادل شهادات الجامعات العمومية مادامت هي الأخرى تبنت خيار التدريس عن بعد؛ إنه العبث بعينه. لو بذلنا بعض الجهد في التنقيب، وبحثنا عن هذه الجامعات والأكاديميات الخاصة، لاكتشفنا أنها في غالب الأحيان عبارة عن غرفة يتيمة في شقة يتناوب بعض الأساتذة، وهم في أغلب الأحيان غير متخصصين، على تقديم محاضرات في مداخل بعض المواد؛ ثم تجرى الامتحانات بصيغة شفوية، وبعدها يصبح الطالب بقدرة مقتنصي مثل هذه الفرص، يحمل في جيبه شهادة الإجازة في تخصص معين؛ هذه الشهادة لا تؤهله لأي شيء؛ كل ما في الأمر أن هذه الأكاديميات استنزفت ماله؛ ولا أراه يختلف عن الشخص الذي يضع إلى جانب اسمه صفة دكتور؛ ولما تسأله بحسن نية، ما هو تخصصك؟ يجيبك بزهر واستعلاء: إنها دكتوراه فخرية حصلت عليها من مركز بدولة كذا. إنه لعمري أقصى درجات الاستهتار الذي أتاحه تغول تكنولوجيا الإعلام والتواصل.
فلو كانت المؤتمرات عن بعد مؤثرة وذات جدوى لكان التعليم عن بعد
(Distance Learning)خيارا دائما، ولاعتمدته وزارات التعليم العالي في الدول العربية والغربية نظرا لسهولته ومجانيته. فالتعليم عن بعد الذي يتشدق به الكثيرون ظهر منذ عقود من الزمن في الجامعات الغربية. وعلى الرغم من تطور تكنولوجيا الإعلام والتواصل التي يسرت سبل توظيفه، إلا أنه لم يرتق أبدا إلى المستوى الذي يحظى به التعليم الحضوري، وظل استعماله محدودا أو تكميليا. ويتجلى هذا الأمر بوضوح عندما نعلم برفض أغلب الجامعات في مباريات التوظيف لمثل هذه الشهادات التي تمنح عن بعد. وما ينطبق على التعليم عن بعد يسري على الملتقيات والندوات واللقاءات.
جملة القول. لسنا ضد اللقاءات عن بعد، ولا ندعو إطلاقا إلى هجرتها، لكن يجب ألا نعطيها أكثر من قيمتها، فهي لا تقوم، مهما تفننا في تجويدها، مقام اللقاء الحضوري التفاعلي، وما نخشاه أن تترسخ هذه الظاهرة في مرحلة ما بعد كوفيد 19 فنحرم من اللقاءات المباشرة، ومن الاطلاع على المستجدات العلمية في عين المكان، مثلما حرمنا الكتاب الإلكتروني الجاف من متعة الكتاب الورقي الذي كانت تربطنا معه علاقة روحية. وكل لقاء عن بعد وأنتم بألف خير.

< بقلم: دة. كريمة نور عيساوي 

* أستاذة تاريخ الأديان كلية أصول الدين/
جامعة عبد المالك السعدي/ تطوان

Related posts

Top