المطعم المدرسي في كوكب اليابان!

يجري تقديم وجبات الغداء المدرسي في اليابان على أنها أكثر من مجرد طعام مغذ لذيذ الطعم للأطفال، حيث أنها تهدف أيضا لتعليم عادات تناول طعام صحية، تعود بالفائدة عليهم في حياتهم المستقبلية برمتها. وقد سافر أحد المحررين من الولايات المتحدة العاملين لدى (Nippon.com) هو “مايكل شورتي”، إلى مدرسة هيراياما الابتدائية الواقعة في الطرف الغربي من طوكيو للتعرف على المزيد عن الطعام المدرسي في اليابان. وعاد ليحكي مشاهداته في الربورتاج الذي نشر ترجمته موقع “اليابان بالعربية”.

لم يكن طعام الغذاء الذي كنت أتناوله في المدرسة أثناء طفولتي ونشأتي في الولايات المتحدة سوى وجبة بسيطة تتكرر باستمرار وتنحصر غالبا في طبق يحتوي بطاطس مقلية وشريحة من اللحم الموضوع في رغيف من الخبز. وكان المذاق آنذاك جيدا، لكن ما تستعيده ذاكرتي حول الخضار لم يكن سوى صلصة الطماطم.
وعلى مدار حقبة من الزمن أو بالأحرى السنوات العشر الماضية عندما جئت الى اليابان لتدريس اللغة الانكليزية في إحدى المدارس الإعدادية والثانوية في محافظة ”ناغانو“ الواقعة شمال غرب طوكيو، وجدت وجبات الغداء المدرسي وفيرة بالتغذية ومتنوعة الجوانب وذلك مغايراً لما عرفته في طفولتي. وكانت السنوات الثلاث حيث تناولت فيها طعام الغداء في المدرسة مع طلابي بمثابة البوابة مهدت لي التعرف عن كثب على ثقافة الطعام اليابانية.
ولعل شعورا من الارتياح والغبطة يراودني الآن حيث أن كبرى بناتي أصبحت تلميذة في المرحلة الابتدائية، وأضحى الآن في وسعها تناول وجبة غداء صحية كل يوم. وأقوم أحيانا بسؤالها عما تناولته في وجبة الغداء المدرسي، سيما وأن مثل هذا الأمر لم يكن أبدا موضع محادثة واهتمام لي عندما كنت في عمرها. كما أن الوصف الذي تقدمه ابنتي عن وجبة الغداء وبما احتوت من صحون مصفوفة، تدفع بالمرء احيانا وبمخيلته للتصور بأنه يقف أمام معرض للأطعمة في أحد المطاعم الفاخرة. وتدرج الأطباق في لائحة مطبوعة تقوم بوضعها كبيرة الاختصاصين في التغذية بالمدرسة، والتي تشمل كافة المعلومات المفيدة عن الاطعمة والعادات الصحية لتناول الطعام.
كان للأحاديث مع ابنتي في هذا الصدد، والتفكير مرة أخرى بالخبرة المكتسبة في ناغانو أثر عميق في إثارة فضولي وحب اطلاعي عما يجري فعلا حول إعداد وجبات الغداء المدرسي في اليابان، وكانت تساؤلاتي تنصب بالدرجة الأولى حول مهام كبير أخصائي التغذية في المدرسة.
ولمعرفة المزيد حول هذا لموضوع، سافرت إلى بلدة ”هينو“ وهي إحدى الضواحي الواقعة غربي طوكيو، وتم ذلك برفقة عدد من الزملاء حيث كان القصد زيارة مدرسة ”هيراياما“ الابتدائية التي حصلت على اعتراف مميز نظرا لبرامج التغذية الدعاية الممتازة فيها.

نظام مرن

على الرغم من ان فترة ركوب القطار لا تتجاو 40 دقيقة من محطة شينجوكو إلى مدرسة هيراياما الابتدائية، فرؤية الحقول المزروعة بالخضار المنتشرة هنا وهناك حيث لا تبعد كثيرا عن سلة جبال ”تاما (Tama)” التي تحد الجانب الغربي في طوكيو تسر الأبصار.
وبعد دخولنا مبنى المدرسة الجديد كان في استقبالنا مديرة المدرسة الآنسة ”توشيكو كاواغوتشي“ التي شرحت لنا أثناء تبادل أطراف الحديث تاريخ المدرسة الذي يرجع إلى عصرا ميجي (1878ـ1913)، ثم قادتنا بعدئذ الى مكان يقع خارج مطبخ المدرسة حيث يجري فيه إعداد الطعام الغذاء منذ الساعة الثامنة صباحا.
كان التلامذة يلقون نظرة عما ستألو إليه وجبة اليوم، من خلال تحديقهم في التحضيرات الجارية في المطبخ.
ويسهل الحاجز الزجاجي الذي يفصل المطبخ عن الممر الى القاعة في الخارج للتلامذة المارين إلقاء نظرة مفصلة وشاملة على غذاء اليوم، بحيث يرون بأم أعينهم كيفية الإعداد لكل طبق. ويبدو أن هذا الغداء يشمل اليوم طبقا من الرز الممزوج بالخضار”غوماكوغوهان“. وكذلك سمك التون المقلي مع صلصة حلوة وحادة المذاق في نفس الوقت بسبب بعض التوابل، إضافة الى حساء شوربة نقية، وطبق جانبي من أوراق خضروات، يجري تقديمه عادة ممزوجا بالطحينة (صلصة السمسم)، وأخيرا وليس آخرا زجاجة صغيرة مليئة باللبن أو الحليب مع كل وجبة غذاء في المدرسة. وهنالك لائحة الأطعمة التي تعتبر نموذجا جيدا في محاولة المدرسة تعريف تلامذتها بأكبر عدد ممكن من الأطباق اليابانية التقليدية.
وكان هنالك بعض الوقت للتحدث مع كبيرة اخصائيي التغذية ”يووشيه كاو اغاوتشي“ (Kawaguchi Yoshie) وذلك بعد الانتهاء من تقشير الخضار وتجزئتها، حيث انضم لندوة الحديث بعدئذ أربعة رجال عملوا معها في المطبخ لتحضير وجبات الغداء المدرسي… والواقع أن الجميع ينهمكون كل يوم في العمل بغية تحضير وجبات لنحو 500 شخص ونيف ثم يقومون بعد ذلك بالتنظيف ويتبادلون فيما بينهم عن الأعمال الواجب إنجازها في اليوم التالي.
وكان أول سؤال توجهت به الى يووشيه حول أنواع التعليمات والمتطلبات الواجب اتباعها عند تحديد الوجبات المدرسية؟ وأجابتني بأن المجلس التربوي قد وضع خطوطا عريضة وعامة لذلك تتلخص في ضرورة احتواء كل وجبة غذائية على650 وحدة حرارية. والأمر الثاني هو أنه حسب تعليمات مدينة هينو، فيجب ألا يتجاوز سعر الوجبة الغذائية 282 ينا يابانيا كحد اقصى. وأردفت كاوغوتشي بالقول بأن مهامها تنحصر بتحقيق ما يجب أن يدرج في قائمة الطعام وبحيث لا يتم الاكتفاء بما وضع من أهداف فحسب بل يجب أن تكون الأطعمة وفيرة التغذية بشكل مناسب من ناحية، وتحظى برضا ومذاق التلامذة من ناحية أخرى.
يتم إدراج معلومات عن محتويات وجبة الغداء المدرسي من السعرات حرارية (كالوري) وكمية البروتين في لائحة يحصل عليها كل تلميذ وتغطي أسبوعين من الزمن. إضافة الى توجيهات حول عادات تناول الطعام بشكل صحي وغيرها من الإرشادات والنصائح الصحية. ويتوجب على كاواغوتشي تقديم تقرير الى المجلس التربوي بحيث يتضمن كل التفاصيل عن الوجبات التي يجري إعدادها.
يجري التحقق بدقة من درجة حرارة سمك التونة القلي بغية التأكد من أن طبخها جرى بصورة مناسبة. وتشمل التعليمات الصارمة أيضا الأمور المتعلقة بالنظافة والرعاية وكان في وسعي رؤية أقنعة العاملين وملابسهم في المطبخ، إضافة الى حقيقة الأمر القاضية بمنع أي شخص ليس له علاقة من دخول المطبخ. كما تجري جولات تفتيشية بشكل دوري أيضا في كافة المرافق الملحقة بالمطبخ في المدارس بهدف التأكد من الالتزام بالمعايير الصحية وبأن كل الخضار تم طهيها كليا بغية القضاء على جرثومة(EColi) أو جرثومة الأمعاء الغليظة.
وكان لوقع الاستماع إلى شرح كاواغوتشي حول نظام الغذاء الدولي أكبر الأثر في نفسي حيث تتوفر للمدارس درجة عالية من الانضباط في اتباع أفضل السبل لتغيير برامج الغداء المدرسي. كما وجد التزام بوجود التغذية الوفيرة كما هو مقرر من جانب ومن خلال اتباع كافة التعليمات المتعلقة بالصحة والنظافة من جانب آخر. كما أن وجود حرية لاختيار مواد الطبخ من سلع ونحوها تمتد لتشمل التوابل أيضاً. فمدرسة ”هيراياما“ قررت الحصول على 25٪ من خضرواتها من المزارعين المحليين حيث أن مثل هذا الأمر يضمن وجود خضار طازجة، اضافة لتقرير العلاقة بين المدرسة والمجتمع المحلي/ البيئة المحلية.
وقد يشوب الأمر بعض التعقيد لاسيما لدى تلامذة المدارس الابتدائية وذلك عندما يتعلق لموضوع بالخضروات. فالجزر والفليفلة الخضراء تحديدا لا يلقيان اقبالا وحماسا، وقد تلخص أحد أساليب التغلب على هذه المعضلة في تقطيع تلك الخضار الى أجزاء دقيقة جدا بحيث يمكن تمريرها في الأطباق دون لفت الانتباه الى ذلك. وقد لاقى هذا الأسلوب نجاحا مرموقا في طبق يعرف (بيلاف -تشاهان- قوس القزح)؛ وكان هذا الطبق أكثر الأطباق شعبية ولاقى إقبالا عليه من تلامذة مدرسة هيراياما، على الرغم من احتوائه على الفليفلة الخضراء والجزر.
أما أكثر الأطباق المفضلة لدى التلامذة فهو حسب رأي الإدارة في المطبخ فيما يعرف ”الكاري الياباني مع الأرز“، لكن هنالك اختلاف بعض الشيء في المذاق والنكهة. وقيل لي أن ذلك الاختلاف يرجع الى الشخص المكلف بالإشراف على تحضير الطبق الغذائي لذلك اليوم. فلكل شخص من هؤلاء الرجال الأربعة أسلوبه الخاص وطريقته المميزة في الاعداد لذلك الطبق، وبالتالي فإن التوابل المستعملة في الصلصات تعتمد على الخضار النوفرة في ذلك الفصل من العام الدراسي.
ولعل هذا المزيج من اللمسات المنزلية الخلاقة تحدد فعلا طبيعة أطباق المدارس اليابانية وذلك بعيداً عن مفهوم الانتاج بالجملة.

التعليم أثناء تناول طعام الغداء

تركز الآنسة كاواغوتشي وزملاؤها العاملين معها بأن أسلوب الغداء المدرسي في اليابان هو أكثر من مجرد تقديم وجبة غذائية صحية للتلميذ كل يوم، فبرامج الغداء المدرسي تشكل بدورها جزء متكاملا لعادات التغذية والأكل الصحي بين الطلبة وتحافظ أيضا على بعض المفاهيم الرائعة لثقافة الطهي اليابانية. وقد تكون الحاجة لتشجيع الاطفال على تناول وجبات غذائية متوازنة بشكل جيد أصبحت الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى في اليابان سيما بعد الانتشار الكثيف لمطاعم الوجبات السريعة ومخازن الخدمات الجارية (بقاليات) في العديد من الاماكن، وحيث أن الواقع يشير الى أن اليابان على وشك مجابهة ما يعرف بالظاهرة المرضية وهي بدانة الاطفال، الأمر الذي يكتسح في هذه الآونة العديد من الدول المتقدمة اقتصاديا. ويجب التوجه بالشكر هنا الى الغداء المدرسي الصحي، الذي يشكل بدوره نسبة ثلث الوجبات التي يتناولها التلاميذ.
وثمة جهد آخر يسير في مدرسة هيراياما الابتدائية وتتلخص في ادراج وجبات يابانية كثيرة يشكل الرز في الجانب الرئيسي في قوائم الطعام. ولا ينحصر الأمر في كون هذه الوجبات الغذائية صحية فحسب، بل يتعدى ذلك لجعلها تحافظ أيضا على جانب قيم من ثقافة الأطعمة اليابانية. وكانت هذه الاطباق تقدم بشكل منتظم عند الأجيال السابقة في المنازل لكنها تحظى لتلامذة وطلبة هذه الايام بقدر من الأهمية بحيث تحتل الاولويات عند التطرق الى الوجبات التقليدية.
أعطاني الحديث مع كاواغوتشي حدسا صادقا وعميقا وتفهما أيضا لدور كبراء أخصائي التغذية في اليابان بإثارة أمواج إيجابية تشمل المجتمع برمته، وذلك من خلال تعزيز العادات الصحية للأكل والحفاظ على المفاهيم القيمة لثقافة الطعام في البلاد.

التعاون في المطبخ

مع اقتراب بدء وقت الطبخ الفعلي، توجب علي إفساح المجال لكاواغوتشي والآخرين للعودة إلى المطبخ ثانية.. وتمكنت من رؤيتهم وهم يؤدون أعمالهم ولكن من وراء الحاجز الزجاجي. وكان لكل شخص مهمة مختلفة حيث يسهل للجميع الاستفادة من الأوعية والطناجر والحلل المستخدمة لغايات متعددة في الطبخ. وكانت أصعب مهمة في ذلك اليوم هي قلي سمك التونة، وهذا لا يتطلب درجة حرارة عالية فقط بل يشمل أيضا التحكم بدقة في درجة الحرارة الداخلية لسمكة عبر وضع ميزان حرارة لضمان سلامة الطعام.
وبالرغم من وفرة كل شئ في المطبخ، فإن التعامل بشكل أساسي لا يختلف كثيرا عن الطبخ في المنزل… حيث تستخدم نفس الأنواع من توابل وخضار متوفرة في ذلك الفصل من العام. وبعكس المطبخ المنزلي، فإن النسب والكميات الكبرى الواجب التعامل معها بمطبخ المدرسة تفرض على الطباخين القيام بجهد وفير في وضع القدور الكبيرة وتحريك لمحتوياتها، وهذا ما يذكر بفيلم سينمائى عرض في ثمانينات القرن الماضي تحت عنوان: “عزيزتي.. لقد قلصت الأطفال” (Honey, I Shrank the Kids).
ولا يتطلب تحضير الغداء المدرسي قوى عضلية فحسب، بل يتعدى ذلك ليكون العمل كخلية للنحل. ولعل أكثر ما يترك انطباعا كبيرا هو رؤية الكفاءة العالية ومدى التعاون البناء المشترك بنيهم، حيث يتجلى ذلك بوضوح عند الوصول لمرحلة توزيع الأطعمة في الأطباق، وهذه المهمة تتطلب حنكة معينة ودراية جيدة نظراً لاختلاف حجم كل صف من ناحية اضافة الى ضرورة توفير كميات طعام أكبر لأولئك الطلبة المتقدمين في السن على نظائرهم من التلامذة الأقل عمرا من ناحية ثانية. حيث يقوم المسؤولون من الرجال بتوزيع كل ملعقة من الأطعمة وبمهارة لوضعها في أطباق وصحون متنوعة، وينتهون من هذه الأعمال قبل وصول التلامذة ببضع دقائق لينقلوا وجبات الغداء الى صفوفهم حيث يتناولون بها وعلى مقاعدهم طعام الغداء المدرسي.

الطعام المتبقي

هنالك نظام قائم يضمن توزيع طعام الغداء، ففي كل يوم يجري تحديد للصفوف وما يخصص لها بشكل دوري لتبادل المهام التي تتلخص في نقل الأطعمة من المطبخ إلى الصفوف المدرسية، ثم يقوم بعدئذ نحو ستة طلبة من كل صف بوضع الوجبات في أطباق زملائهم من التلامذة في كل صف، وهذا النظام يسري في كل أنحاء اليابان حيث لا يتميز فقط بفعاليته بل يعتبر أسلوبا جيدا لتعزيز الشعور بالمسؤولية بين أوساط التلامذة.
توجهت مباشرة الى قاعة الصف الأول الابتدائي لإلقاء نظرة عن كثب على آلية عمل النظام، وقد بدا الطلبة المسؤولين وهم يرتدون القبعات البيضاء والمعاطف البيضاء بشكل يدعو للإعجاب وهم منهمكين في توزيع الحساء والرز وسمك التونة والطبق الجانبي. وبدا أيضا أنهم قد اكتسبوا خبرة ومهارة خلال الأشهر المتعاقبة في تأدية هذه المهام أي منذ التحاقهم بمدرسة في مطلع العام الدراسي في مطلع الشهر الرابع وهذا ما جعل في وسعهم معالجة كل أمر والتعامل معه على أفضل وجه.
وجدير بالذكر أن أكثر المهام التي تطلبت ذلك اليوم مهارة وحيلة كان نقل الحساء بملاعق كبيرة في الوعاء الكبير الى فناجين وأكواب الحساء لكل تلميذ. ولم يخل الأمر من تساقط بعض قطرات الحساء هنا وهناك، إلا أن تلك الإجراءات نفذت كليا بشكل آمن وسليم، ويقف مدرس الصف الأول الاستاذ ”كنجي تاكاغي“ (Takagi Kenji) على مقربة من تلامذته ليقدم لهم يد المساعدة عند الضرورة وهو يرتدي ثوبا عليه رسم ”لميكي ماوس“، وقد سمعت آنذاك صوتاً خافتا لتلميذة تطلب من زملائها في الصف إعطاء المدرس نصيبا أوفر من الأطعمة.
وعندما يجلس كافة التلاميذ على مقاعدهم استعدادا لتناول طعام الغداء المدعي. يضمون أياديهم مع انحناءة لطيفة ويهتفون بصوت واحد عبارة (ايتا داكي ماس) أي مع العرفان بالجميل لتناول الطعام، وذلك في إشارة ببدء وقت المضغ وتذوق لقم الطعام.. وهنا اكتفيت بهذا القدر من الاطلاع وعدت أدراجي متوجها إلى الطوابق العليا لزيارة الصفوف التي يتواجد بها التلامذة الاكبر سنا.

صف الطبق النظيف

انتهى بي الطاف بلقاء الأستاذ ”هيده اومي ايتشي نوسه“ (Ichinose Hideomi)، وهو مدرس الصف الخامس الابتدائي، يتمتع بشكل رياضي ويحمل مشاعر تربوية مفعمة وقلبية فياضة تجاه طلابه. قال لي بعد الفراغ من تناول كافة الأطعمة من الأطباق مما جعلها تبدو وكأنها نظيفة، بأنه يركز دوما على أهمية عدم إبقاء أي لقمة متبقية في أي طبق أو صحن من الغذاء المدرسي. كما نوه أيضا إلى تشجيعه الدائم على الالتزام بآداب المائدة وتناول الطعام والجلوس مواجها لمائدة الطعام، إضافة إلى الإمساك الصحيح بالعصي الخشبية (اوهاشي) لتناول الطعام وكذلك آخذ لقمة أو بضع مضغات من كل صحن بالتناوب عوضا عن الأكل دفعة واحدة بشكل متتال من طبق واحد بغية جعله نظيفا.
وقد لاحظت. بعد تقديم الطعام، أن بعض التلامذة يتبارون فيما بينهم حول التهام البقية المتبقية من الأطعمة، ويتسابقون على الأولوية بسرعة من خلال مباراة (جان كن)، أي الصخرة- الورقة- المقص، وتمثيل ذلك على قبضة اليد وبغية تحديد (من يحصل على ماذا) ولعل ما أذكره ببعض الامتعاض الآن ومستعيدا ثانية ذاكرتي البعيدة متمنيا لو كان فطوري على هذا النحو الجميل من التسابق للانتقاء واختيار ما تبقى من الأطعمة.
وبالمقابل، سألت الاستاذ ايتشي نوسه عن كيفية تأكده من أن تلامذته لم يهدروا ما تبقى من الأطعمة، فأجابني وهو نصف مازح بأنه هو الذي أخذ بزمام المبادرة من أكل الكثير هو بنفسه. وبالتدريج أخذ تلامذته بالاستجابة لتحديه من خلال ما يعرف بمعارك (جان كن) آنفة الذكر حول تناول ما تبقى من الأطعمة والتي كنت أحد الشهود على ذلك. ولعل الأستاذ ايتشي نوسه فخور بسجل تلامذته بنظافة الصحون بعد الأكل أي عدم ترك أي شيئ مما تبقى من المأكولات وعلى مدى أشهرعدة متعاقبة.
وفي تلك اللحظة تدخلت عصافير معدتى لتسألني عن السبب وراء عدم إشباعها، ولذا تركت الأستاذ على مضض وهو يتلذذ بغذائه ويعود مسرورا الى مكتب المدير.
فتحت باب غرفة المكتب وشعرت بالارتياح لرؤية وجبة الغداء المدرسي موضوعة على الطاولة في المكان المخصص لي، وكان ذلك الانتظار مفيدا حقيقة فقد تسري في مخيلة بعض الأذهان بأن التلامذة هم من قاموا بتحضير هذه الوجبات ذات الطعم اللذيذ والذي يعتبر ممتازا لأولئك المتقدمين في السن. فطعم التونة لذيذ، والخضار مطهية بشكل يبعث على البهجة. والحساء طيب زكي الرائحة.
وعندما غادرت بعدئذ عائدا إلى منزلي بعد تناول ذلك الغذاء الشهي لم تراودني سوى حسرة واحدة وهي عدم تمكني من العودة ثانية إلى المدرسة في ذلك الأسبوع لتذوق طبق كاريه الممزوج بخضرة الصيف والمدرج في لائحة الطعام، ولعل الأسوأ من ذلك هو عدم استعداد المدرسة لإرسال الوجبات الى خارج أسوارها!

Related posts

Top