باحثون يناقشون “لغة التدريس بين الفصيح والعامي”

قال سعيد بنكراد إن اللغة كينونتنا، وأنها ليست أداة نستعملها ونتخلص منها، بل هي أداتنا للذهاب إلى الآخر لإثبات وجودنا والتعرف على العالم الخارجي.

وأكد السيميائي سعيد بنكراد، في محاضرة تربوية له حول: “لغة التدريس بين الفصيح والعامي”، بقاعة المجلس الجماعي سيدي قاسم، يوم الأربعاء الماضي، (أكد) أنه لا يمكن التعامل مع اللغة بشكل نفعي، بل هي وسيلة لتوسيع ذاكرة الكون، حيث أن كل الأشياء في العالم الخارجي، تسعى إلى أن يكون لها موقعا داخل اللسان، لذلك يتم تنويع التسميات.

ومقابل هذه الإمكانيات الكبيرة والواسعة التي تزخر بها اللغة، اعتبر مؤلف كتاب: “مدارات اللغة بين الفصيح والعامي” اللهجة، في إشارة إلى الدارجة، سببا في تقليص كم مهم من المعاني والدلالات، فالقمر واحد في السماء، إلا أنه في اللغة متعدد، وكذلك الأمر مع إحالات البحر والماء والنار…

وتفاعلا مع الأسئلة الإشكالية التي طرحتها الأستاذة المتدربة إحسان أوحمو نيابة عن زملائها وزميلاتها والمتمحورة حول مشكل لغة التدريس بين الفصيح والعامية، من منطلق أن الطفل يتعرف لغة الدارجة في محيطه، لكنه مطالب لاكتساب اللغة المعيارية أو الفصحى في المدرسة والتي من مهام المدرس أن يساعده على اكتسابها، انتقد الأستاذ الباحث في السيميائيات في اللقاء الذي نظم من قبل شعبة اللغة العربية بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فرع سيدي قاسم، والجمعية الوطنية لأساتذة اللغة العربية، (انتقد) دعاة اعتماد الدارجة في التعليم، مشددا بأن التخلص من العربية والاتجاه نحو الدارجة، معناه فقدان العديد من الكلمات، إلى جانب أن هذه الدارجة لا تفكر في نفسها، مقدما نموذج ما يدور من كلمات في الأسواق من قبيل “ماطيشة، بطاطا..” التي لا يتساءل العامة من الناس عن مصدر هذه التسمية وإحالاتها.

وزاد موضحا أن التلميذ عندما يذهب إلى المدرسة، يمده الأستاذ بالعديد من الكلمات، يتعلم من خلالها كيف ينتمي إلى المجتمع ونظامه الثقافي، بل وإلى الحضارة الإنسانية التي تتوافق على نظام من الأسنن، يتم التواصل من خلالها بين الأفراد في الفضاء العام.

وأبرز سعيد بنكراد، أن الدارجة يعرفها كل الناس، ومن تم فهي ناقصة بالضرورة، والدليل هو تجربة الاندهاش والغربة التي يعرفها التلميذ بعد دخوله إلى المدرسة، لأنه في المنزل لا يتحدث إلا من خلال الروابط العائلية، على عكس المدرسة التي يأخذ منها مفاهيم تمكنه من التواصل بمستوى أعلى مع كل الناس.

وإذا كانت اللغة العربية تربي الناشئة على حس الشك والنقد، فإن الدارجة، وفق الأستاذ بنكراد، تهدف إلى تدجين العامة على الاستهلاك ولا شيء غير الاستهلاك، والدليل يتمثل في الجهات التي تقف وراء هذه الدعوة، سواء من خلال الإشراف على إخراج قاموس الدارجة وتوزيعه، أو بفتح مؤسسات تعليمية للتدريس بالدارجة، ومن ثم فإن المناطق التي تنسحب منها اللغة سيستوطنها العنف.

ونبه عالم السيميئايات، إلى أن اللغة لا تقتصر مهمتها على الوصف (التعيين والتسمية)، وإنما إنتاج المعرفة، وصياغة نظريات، وتداول مفاهيم فلسفية مجردة بين المختصين، لا دخل للعامة فيها، وهو ما لا تستطيع الدارجة أن تقوم به على الإطلاق.

وأوضح سعيد بنكراد أن الدارجة لا يمكن أن يستقيم وجودها وتكون أداة للتدريس، لا سيما وأن هناك تعدد للدوارج في منطقة واحدة (دارجة المدينة، والقرية، والهوامش..)، فبالأحرى على طول التراب الوطني.

ودعا بنكراد في الأخير إلى عدم الانسياق وراء دعاة اعتماد الدارجة في التدريس، لأن اللغة وحدها حمالة التراث، والذاكرة، وهي الأداة الوحيدة التي يعبر من خلالها الإنسان عن وجوده، ويبني حضارته، مقدما مثال تشبث المواطن الصيني والكوري والياباني بلغته وثقافته، نظير انفتاحه على لغات أخرى للتواصل مع العالم، حاثا الحاضرين على ضرورة التحدث بلغات أخرى، لاكتشاف معارف وأشياء جديدة في مختلف المجالات.

السياسة اللغوية بالمغرب

من جهته، استهل حفيظ اسماعيلي علوي في مداخلة له بعنوان: “السياسة اللغوية بالمغرب وإشكال اختيار لغة التدريس”، بتعريف السياسة اللغوية بوصفها نشاطا ممنهجا، تمارسه الحكومات لتنظيم الشأن اللغوي، وتضع من خلاله الضوابط والتوجهات العامة، التي تحدد ميادين استعمال اللغة الوطنية واللغات الأجنبية.

ولتحديد التوجهات الكبرى للسياسة اللغوية بالمغرب، وتشخيص واقع اللغة العربية، استند حفيظ اسماعيلي إلى الفصل الخامس من الدستور المغربي الذي ينص على أن “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها. تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء”.

وأشار اسماعيلي إلى أن الوضع اللغوي بالمغرب يعيش مفارقة غريبة بين ما يدعو إليه منطوق النص الدستوري، وما هو سائد فعلا في الواقع اللغوي من أوضاع لغوية تهيمن عليها الفرنسية، في مخالفة صريحة للنص الدستوري المتوافق على مقتضياته، لذا، استخلص أن رسمية اللغة العربية رمزية لا قيمة لها، ما دامت الممارسة الفعلية، تدفع بها يوميا إلى التخلي عن مواقعها داخل الفضاء اللغوي بالمغرب، لتحتله في أغلب الأحيان الدراجة أو الفرنسية.

وأكد على أن قضية اختيار لغة التدريس تشكل موضوعا إشكاليا في التخطيط اللغوي بالمغرب، وذهب إلى أن اختيار لغة التدريس في كل بلد تتجاذبه مرجعيتان، تتمثل الأولى في المرجعية الثقافية والتاريخية والجغرافية للبلد، وتتحدد الثانية في الآفاق الاقتصادية والسياسية التي تتيحها اللغة.  

ومن هذا المنطلق، دافع حفيظ اسماعيلي على اعتماد اللغة العربية لغة للتدريس في جميع الأسلاك الدراسية، في انتظار تأهيل اللغة الأمازيغية تأهيلا كاملا، ذلك أن التدريس باللغة العربية مسألة مصيرية، تتعدى منطق السوق اللغوية إلى وجود المجتمع من عدمه، فهوية المجتمع تتحقق من خلال لغته، فداخلها يتبلور كل ما يجمع بين أفراد المجتمع، من تمثلات عن الحياة والموت وطريقة التفكير والعيش، فلا شيء يجسد انتماء الفرد إلى الوطن أكثر من اللغة.

ردة الفصحى وأزمة الوجود

من جانبه، برهن عبد الجبار البودالي في مداخلته الموسومة بـ: “أنا لغتي.. ردة الفصحى وأزمة الوجود”، على أن اللغة ليست معادلا للهوية على الإطلاق، مشددا بأن الهوية الأولى هي الدين، وأن مصدر الدين الوحي، وأن مفتاح الوحي اللسان العربي المبين، مشددا بأن فساد الملكة سيفضي إلى انغلاق الوحي عن الفهم.

ومن هذا المنطلق، دعا عبد الجبار البودالي إلى صيانة بنيان الوجود من التصدع، بإعادة الاعتبار للسان العربي الفصيح في الواقع، في التعليم والإعلام والإدارة والاقتصاد.

وفي مداخلة أخرى، بعنوان: “الازدواجية اللغوية وتكوين ملكة العربية .. حول أطروحة الاتصال بين العربية المعيار والعامية” للحسن الحسناوي، وقف مطولا عند مفهومي الازدواجية اللغوية وملكة العربية، مع عرض مفصل لموقفين متقابلين حول العلاقة الإشكالية بين العربية المعيار والعامية.

وأوضح الحسن الحسناوي أن الموقف الأول يفترض انفصال الفصحى عن العامية، وينطلق هذا التصور من منطلقات إيديولوجية مكشوفة، تطالب بإحلال العامية مركز الصدارة في الثقافة والتعليم والاقتصاد.

أما الموقف الثاني، فيؤكد حسب الحسناوي، على اتصال الفصحى بالعامية، ويذهب إلى أن العربية المعاصرة تتمفصل داخلها عدة مستويات لغوية، تتحدد عادة بالازدواجية اللغوية أو ثلاثية لغوية بين اللغة المعيار (الفصحى)، واللغة الدارجة (الشفهية)، واللغة الوسيطة (المستعملة بين المثقفين وفي الإعلام والمدرسة).

ودافع الحسن الحسناوي على اتصال العامية بالفصحى، واستدل بعدد من الأمثلة اللسانية لكلمات فصيحة الأصل من العامية، مثل “بريوة”، “شاف”، “عفس”، “استاهل”…

يذكر أن المنظمين الذين سهروا على تنسيق هذا اللقاء العلمي، سواء أعضاء الجمعية الوطنية لأساتذة اللغة العربية أو أساتذة اللغة العربية وطلبتهم بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فرع سيدي قاسم، قد كرموا الأستاذ سعيد بنكراد في الأخير عبر منحه ذرعا تذكاريا نظير تأطيره العلمي للندوة التي عرفت حضورا واسعا لمختلف المكونات الثقافية والمعرفية، من داخل مدينة سيدي قاسم أو خارجها، والتي رحب بها في البداية عضو الجمعية الوطنية لأساتذة اللغة العربية ادريس عزابي.

يوسف الخيدر

Related posts

Top