تأملات حول الأغنية المغربية في ماضيها وحاضرها

تراجع وتيرة الإنتاج

تعرف الأغنية المغربية العصرية في وقتنا الراهن تراجعا على مستوى وتيرة الإنتاج، خاصة وأن الأسماء الرائدة والبارزة في هذا الميدان الفني تكاد تكون قد توقفت عن الإنتاج منذ عقود خلت، رغم أنها لا تزال قادرة على العطاء.
يمكن القول إن الإنتاج الغنائي لهؤلاء الرواد قد حافظ على ديمومته، بالرغم من التحولات التي طرأت على ساحتنا الفنية، وظهور أجيال جديدة سعت إلى تجاوز القالب الفني السائد الذي كرسه هؤلاء الرواد إلى حدود الثمانينيات من القرن العشرين.
هل تحققت انعطافة في الأغنية المغربية؟ يمكن الحديث عن الانعطافة دون أن يعني ذلك تحقق إضافة إبداعية ونوعية للتراكم الحاصل.
لقد راهن الجيل الجديد من المطربين المغاربة على ما تتيحه التكنولوجية الرقمية من انتشار واسع لإنتاجاتهم، إلى حد أنهم باتوا يقيسون نجاح هذه الإنتاجات بمدى ما تحققه من نسبة المشاهدة.
إلى جانب اعتمادهم على الأغنية المنفردة أو ما يسمى بالسينغل، فانتفت بذلك تقاليد كانت سائدة في الساحة الغنائية المغربية.
لقد تغيرت ظروف إنتاج الأغنية المغربية، سواء من حيث التأليف أو اللحن أو الأداء، أو حتى التوزيع، وانعكست هذه التحولات بطبيعة الحال على القيمة الإبداعية لهذا الإنتاج في حد ذاته.
ليس من التجني اعتبار أن جل ما أنتج ضمن هذا الإطار، تنتفي فيه الجودة وأنه لا يعدو أن يكون تراكما في الإنتاج، سعى أصحابه من ورائه تحقيق كسب مادي سريع وفاحش ليس إلا.
لنقارن بين الظروف التي كانت تنتج فيه الأغنية بالأمس واليوم. كانت الأغنية المغربية العصرية في إبان ازدهارها، تمر عبر عدة مسالك صعبة، قبل أن تخرج إلى الوجود في كامل زينتها إذا جاز التعبير.
كان هناك تعاون حقيقي بين الفاعلين في إبداع الأغنية: الشاعر أو كاتب الكلمات – كما درجنا على تسميته- والملحن والمطرب والعازفون، وكان إنتاج كل واحد من هؤلاء على حدة يمر عبر لجنة تحكيم، قبل التأشير على صلاحيتها. لم يكن بالإمكان بث إنتاجاتهم سواء في الإذاعة أو في التلفزيون، دون المرور عبر لجنة تحكيم تتألف من أسماء محترمة ويشهد لها بالكفاءة.
كانت الأغاني في ذلك الإبان تساهم في تهذيب الذوق الفني، وقد كتب لها الخلود، لأنها عبرت المسالك الطبيعية قبل وصولها إلى الجمهور.
فماذا عن وقتنا الراهن؟ لقد تغيرت كثيرا شروط إبداع الأغنية المغربية العصرية، عندما نبحث عن كتاب كلماتها، لا نجد لهم حضورا فعليا في التأليف الشعري، بمعنى أنهم غير متجذرين في هذه الممارسة الإبداعية، إن شعر هؤلاء راق بكل معنى الكلمة، في حين أن ما يحسب على الشعر الغنائي لجيل اليوم، لا يكاد يبتعد عن كلام الشارع والمقاهي بكل بساطة، إلا في ما ندر بطبيعة الحال.
ظاهرة الانقطاع عن الإنتاج الغنائي

العديد من الفنانين الفاعلين في حقل الأغنية المغربية، لم يضيفوا إلى ذخيرتنا الغنائية أي عمل آخر، رغم مرور ما لا يقل عن عقدين من الزمن، وهي بلا شك فترة لا يستهان بها، وأبعد من أن تكون مجرد وقفة تأمل ومراجعة للذات وما إلى ذلك من التبريرات التي يطلقها عادة بعض المبدعين حينما يريدون إعطاء تفسير لغيابهم عن الساحة الفنية.
وإذا استثنينا نسبة قليلة من هؤلاء الفنانين العازفين عن الإنتاج الذين عبروا صراحة عن اعتزالهم الفن، واتخاذ قرار لا رجعة فيه لعدم العودة إلى هذه الساحة التي صارت تعج بالمتطفلين، كما هو الحال بالنسبة للفنان عبد الهادي بلخياط الذي تفرغ لإلقاء الدروس الدينية، وغيره من الفنانين الذين كان انقطاعهم عن الغناء لسبب أو لآخر، ومن قبل رأينا كيف أن الزواج وضع حدا لموهبة غنائية نادرة، تتمثل في المطربة عزيزة جلال، التي بالرغم من ذلك لا يزال صوتها الطروب يملأ وجودنا، من خلال ما دأبت على بثه إذاعاتنا الوطنية وبعض القنوات الفضائية، وقد عادت أخيرا إلى الساحة الغنائية لكن مم خلال استعادتها لذخيرتها الغنائية.
إذا استثنينا هذه القلة من الفنانين التي كانت صريحة في اعتزالها الغناء؛ فإن هناك فئة من الفنانين، كانت في كل مرة تتراجع عن قرارها الاعتزال، ولعل ذلك راجع إلى رغبتها في لفت الانتباه فقط إلى كون ظروف الإبداع في الساحة الغنائية لم تعد تشجع على الاستمرار، رغبة منها في دفع المسؤولين والغيورين على الأغنية المغربية إلى تغيير الوضع نحو الأفضل. لكن بما أن الوضع ظل يراوح مكانه فإن هذه الفئة المترددة، ظلت تتأرجح بين الانعزال والاستمرار.
لكن هناك فئة أخرى من الفنانين التي لم تعبر صراحة عن اعتزالها الفن، وإن كانت قد توقفت عن الإبداع الغنائي منذ مدة ليست بالقليلة، ولا علاقة لهذه المدة بمراجعة الذات أو ما شابه ذلك.
ومنهم من استمر حضورهم، لكن ليس من خلال إبداع وأداء أعمال جديدة، بل عبر العودة إلى ربتوارنا الغنائي وتقديمه في حلة جديدة، كما فعلت المطربة لطيفة رأفت التي كرست الفترة الأخيرة من نشاطها، لأداء أغاني المطربين الرواد: خفة الرجل للمرحوم إسماعيل أحمد وغيره.
هذا الاختيار ينم عن أن صاحبة أغنية “مغيارة” لم تعد تؤمن بقيمة وجودة ما يتم إبداعه في وقتنا الراهن، وبالتالي لجأت إلى القديم لإعادة عرضه في مختلف المحافل والمهرجانات، من أجل الحفاظ على استمرارية حضورها في ساحتنا الفنية.
وهناك بعض الفنانين الذين يحملون قناعة بأن ما يقومون به ربما يتنافى مع العقيدة، وأن ما يرغمهم على الاستمرار في نشاطهم الفني، هو عدم وجود بديل يؤمن عيشهم، ولذلك ما أن يتوفر حتى يسارعوا إلى الإعلان عن اعتزالهم، وأول عمل يقومون به بعد ذلك هو السفر لأداء مناسك العمرة، وهذا يدعو إلى الاستغراب، كيف أمكن لمبدع أن يراكم عدة إنتاجات فنية على مدى طويل وهو غير مقتنع بهذا الفن في حد ذاته، وينظر إليه في آخر المطاف باعتباره شيئا مدنسا ويضع مسافة بعيد عنه.
مطربون يحرقون المراحل ويحققون الانتشار

من المعتاد أن يبدأ أي مطرب مساره الفني بتقليد ومحاكاة الأصوات الغنائية السائدة والتي ذاع صيتها.
أغلب مطربينا ومطرباتنا الرواد، قلدوا الأصوات المشرقية، على اعتبار أنها كانت النماذج والقدوات آنذاك، وكانت الأغنية المغربية العصرية تبحث عن نفسها؛ فعلى سبيل المثال كانت أول أغنية أدتها عزيزة جلال أمام الجمهور هي لأسمهان، وبالضبط أغنية “ليالي الأنس”؛ فلكي يبرز المطرب كان لا بد له – وأعتقد أن الأمر لا يزال على ما هو عليه- أن يختار أفضل الأصوات وأكثرها تميزا ويحاول أن يتحداها ويظهر بالتالي قدراته ومؤهلاته الفنية.
العديد من المطربين المغاربة، الرواد بصفة خاصة، قلدوا عمالقة الطرب في مصر: محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ.. وغيرهم.
حتى الملحنين في إبان بحث الأغنية المغربية عن ذاتها، بدأوا بمحاكاة الإيقاعات الموسيقية المشرقية، والإبداع على منوالها، كما هو حال أحمد البيضاوي، وعبد الوهاب أكومي صاحب الأغنية التي في البال “بريء والله بريء”، وغيرهما من الملحنين، لا بل العديد منهم كانوا قد هاجروا بالفعل إلى القاهرة ودرسوا هناك قواعد اللحن، وعادوا محملين بثقافتهم التي تركت بصماتها على ما خلفوه من إبداعات شخصية، غير أن الإصرار على إبداع أغنية مغربية لها هويتها وخصوصيتها، دفعت بعضهم إلى البحث في تراثنا الغنائي الأصيل، والاشتغال عليه واتخاذه مرجعا أساسيا لتوليد إيقاعات موسيقية ذات طابع عصري، وبالتالي عند سماعها يصير من السهل تحديد انتمائها إلى التربة المغربية.
عندما كان رواد الأغنية المغربية في بداية الاستقلال يحيون حفلات غنائية خارج الوطن، في بعض البلدان العربية، كان مواطنوها يبدون رغبتهم في سماع أغنية ذات هوية مغربية، وليس ما يحيلهم على رواد الأغنية المشرقية، ومن الطرائف بهذا الصدد التي كانت قد وقعت للمرحوم أحمد البيضاوي، أنه حين شرع في أداء إحدى أغانيه أمام جمهور تونس في السنوات الأولى من الاستقلال، طالبوه بأن يؤدي أغنية “للا فاطمة”، التي لم تكن من إبداعه؛ فهي كما هو معروف من أغاني حميد الزهير، لكن بالنظر إلى أن هذه الأغنية ذات خصوصية مغربية، كان ميل هذا الجمهور إليها أقوى.
حتى داخل الوطن، لا يتردد الجمهور في نبذ لون غنائي ما والمطالبة بعرض آخر،
الكثير من الأصوات الغنائية المغربية إذن بدأت مسارها الفني بأداء أغاني الغير، فالجيل الأول بدأ بمحاكاة المشارقة، والأجيال التي أتت في ما بعد قامت بتقليد جيل الرواد، من المعلوم أن المطربة لطيفة رأفت، كان مثلها الأعلى في الطرب – إذا جاز القول- هو نعمية سميح، حيث بدأت مسارها الفني بأداء أغاني هذه الفنانة بالذات، كما أن نعيمة نفسها أدت في البداية عملا غنائيا لمطرب آخر، هو ناظم الغزالي، ولا تزال إلى يوم الناس هذا تقدم خلال عروضها الفنية، بعض أغانيه، من قبيل: عيرتني بالشيب.
ومن بين المطربات المغربيات اللواتي بدأن بمحاكاة الغير: حياة الإدريسي، غير أن هذه الفنانة بالرغم من أدائها في ما بعد لأغاني خاصة بها، ظل الجمهور يطالبها في مختلف الحفلات بأداء أغاني أم كلثوم، من قبيل: أنت عمري. ولعل ذلك راجع إلى أن ممارستها للمحاكاة، كانت أقوى تأثيرا من إنتاجاتها الغنائية الخاصة.
وفي المسابقات التي تنظم لفائدة الأصوات الغنائية الجديدة، عادة ما تكون مشاركاتهم عبارة عن محاكاة أغاني مطربين آخرين.
غير أنه بات من الملاحظ خلال العقد الأخير بالخصوص، ظهور مطربين دون المرور من عملية المحاكاة التي تعد محكا حقيقيا للتأكد من الموهبة الغنائية الناشئة، ومما ساعد في ذلك، سهولة الانتشار التي باتت تتيحها الوسائط التكنولوجية الرقمية.
ولعل هذا يعتبر مظهرا من مظاهر الخلل الذي بات يعتور الأغنية المغربية المعاصرة.

بقلم: عبد العالي بركات

Related posts

Top