حول مسرحية «باقي الخير الگدام» لمحمد بن إدريس الكاتي

انخرط محمد بن إدريس الكاتي منذ أواخر الستينيات في جمعية (شبيبة الحمراء)، وهي من الجمعيات العريقة بمدينة مراكش. ثم انتقل في بداية السبعينيات إلى مدينة الدار البيضاء حيث ساهم في تأسيس جمعية (السلام البرنوصي)، وبها أخرج مسرحية “أعلاش وكيفاش”، ومسرحية “الگفة”. ثم عاد إلى مراكش مجدداً سنة 1975، حيث التحق بجمعية (الضياء) الناشئة آنذاك، وأخرج معها مسرحية “القطار”، وهي تأليف جماعي. والتحق مرة أخرى بـ (شبيبة الحمراء)، وأخرج لها مسرحية “الأرض” التي تركت أصداء واسعة في أوج حركة مسرح الهواة التليدة. وبعد سنوات من الاعتقال، عاد الكاتب إلى جمعيته الأولى، وقام بإخراج مسرحية “بين البارح واليوم” سنة 1980. وبعد توقف طويل عن الممارسة المسرحية، استهوته الكتابة المسرحية من جديد، لأن عشق المسرح داء ليس له شفاء، فطلع علينا بإصداره هذا، والذي نحاول الاحتفاء به في هذا المقام..

يطالعنا نص مسرحية “باقي الخير الكدام” للكاتب والمخرج المسرحي محمد بن إدريس الكاتي، الصادر في 2011، بعنوانه المشاكس الذي قد يحتمل استشراف أفق مشرق، مثلما يحتمل المراوحة في أزمنة الوصولية والانتهازية والسقوط. ويوحي بالآتي الجميل والنقي، كما يمكن أن يوحي باستشراء الفساد والخيانة، وكأنه يتنبأ تلقائيا بما قد يؤول إليه الربيع، وذاك حال كل إبداع صادق.. تتناوب مجموعة من الأفراد في نهاية المسرحية على الحوارات القصيرة التالية: 
“اخرايفنا هاذي
امعانا تولدات
وامعانا كبرات
وفعقولناعششات
وعليها اولادنا تربات
كنصنعو منها لكثير
كنكلو ونصدقو على الغير
كلما ضاقت بنا والأمل خاب
كنزاوكو وانقبلو لعتاب
كنبخرو، وانعلقو لحجاب ….”
ولقطع حيرة القارئ / المشاهد المفترض، بخصوص ما إذا كان العنوان يحيل على تبدل الأحوال نحو الأفضل، أو بالمزيد من ترديها، تختتم المجموعة المسرحية بالمونولوج الأخير:
“هاذي شمعة من عندنا شعلات، فانتظار تشعل شمعات، وشمعات، وشمعات..”
تتشكل صورة الغلاف (الأولى) من رسم لقفص سجن يحيل على قضية الاعتقال والاحتجاز، ولاشك أن تجربة السجن المريرة التي عاشها الكاتب في الماضي، قد انعكست تداعياتها على أقاربه وأهله. أما الرابعة من الغلاف، كما أبرز ذلك خطاب العتبات، فإما أن تكون تصديرا، أو تذييلا أو شهادة أو جزءا قصيرا من مقدمة المؤلف أو غيرها. لكن طبعة الكتاب، هنا، تختار منزعا آخر، هو تقديم سيرة مختصرة لحياة الكاتب، يعنينا منها تجربة الاعتقال التي بصمتها، وبصمت هذا النص الذي جاء صرخة مبحوحة، لكنها صادقة ضد القمع والطغيان والانتهازية الوضيعة..
يتألف كل نص درامي من مكونين رئيسيين على الأقل: الحوار والإرشادات الركحية Dialogue-didascalies. وفي نص محمد الكاتي، يتلازم هذان المكونان ويتجاوران إلى حد التوازي في مساحة النص. ففي المدخل (هكذا يسميه المؤلف) ـ “ولادة جديدة “، تتساوى في مساحة الصفحة، الإرشادات الركحية بالحوار. ولا بد هنا أيضا، أن نشير إلى أن الكاتب اختار تسمية مقاطع مسرحيته باللوحات(Tableaux)، وليس بالفصول أو المشاهد (Actes) يختار المؤلف صيغة المونولوج والكتابة الشذرية التي تطغى على أسلوب الكتابة الدرامية لديه. ولا وجود هنا للفصل والمشهد والحوار النسقي التقليدي، بل تختفي كلها وراء كتابة درامية تقترب بتلقائية وسلاسة من مواصفات الكتابة الدرامية الحداثية.
من المكونات الكلاسيكية للخطاب المسرحي، كما هو معلوم، الشخصيات والزمان والمكان. وإذا كان الدارس أو الناقد هو الذي يحدد هذه المكونات في النص، فإن المؤلف هنا يبادىء بتوصيفها، فيصبح من الصعب الانفلات من تأشيراته الواردة في بداية كل لوحة:
اللوحة 1 ـ ص 9: زمن الردة الكبرى.
اللوحة 2 ـ ص 21: زمن المهانة والذلة.
اللوحة 3 ـ ص 31: زمن الخسة والنذالة.
اللوحة 4 ـ ص 43: زمن المتاجرة بالقيم والمبادئ.
اللوحة 5 ـ ص 57: زمن الخنوع والخضوع والانصياع.
وعود على بدء، ومن خلال ما تقدم، فبأي معنى “باقي الخير الكدام”؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال دون استحضار أن محمد الكاتي انخرط منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، بعنفوانها ونضاليتها وأحلامها، في حركة مسرح الهواة، وأيضا باستخدامه السياسي للممارسة المسرحية، وارتباطه بفرق (الأحمر)، و(الباسم) و(السلام البرنوصي) بالدار البيضاء، و(شبيبة الحمراء) بمراكش في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. ولذلك، فليس غريبا أن تتأثر الكتابة الدرامية وتتحدد عنده، بالحساسية المسرحية السبعينية، وبالزخم الفكري والسجال الإيديولوجي الذي كان الفعل المسرحي ـ نظرية وممارسة ـ جزءا مهما منه. ويمكن القول، اليوم، إننا ـ مع ذلك ـ قد أضعنا ببراءتنا، الكثير من الوقت ومن الطاقات المسرحية الإبداعية، بسبب ذلك الانجراف والحماس الذين أملتهما طبيعة تلك الفترة العصيبة والأليمة التي عاشها البلد.
إن نص (الكاتي) من نوع نصوص القراءة الثانية والإخراجية، القراءة التي تساعد وتفتح الشهية للتعامل معه ركحيا، فاعتماد اللوحات بدل الفصول والمشاهد، والاتجاه نحو الأمكنة، وغيرها من المكونات الدرامية في المسرحية، كلها تحفز القراءة الإخراجية للنص. يقول (أوغسيتو بوال) في كلمته بمناسبة اليوم العالمي للمسرح (2009):
“المسرح ليس مجرد قصة وحدث، إنه أسلوب للحياة.. إن كل المجتمعات الإنسانية درامية في أساليب حياتها اليومية، وهي تنتج أشكالا متعددة من الأداء لبعض المناسبات الخاصة. إنها درامية باعتبار أن الدرامية هي واحدة من بين أشكال أو أبعاد التنظيمات الاجتماعية الموجودة، ولذلك فهي تنتج هذه الأداءات التي تشاهدون بعضها.”
وينطبق قول (بوال) على أسلوب حياة (الكاتي) المعيش، وعلى شكل كتابته الدرامية، والظرفية التاريخية التي أنتجت هذا الشكل..

< بقلم: د عبد الواحد ابن ياسر

Related posts

Top