دراسة في البناء الجمالي للمجموعة القصصية “أضغاث ربيع” لعبد الرحيم سليلي

مقدمة

اختارت الكتابة القصصية لمرحلة ما بعد الحراك في العالم العربي، أن تَنْكَبَّ على تحليل التفاصيل التي انفلتت من الواقع المندمج بخيال تاريخي في أملِ ربيع ديموقراطي، تكسّر على أنقاض الخراب التي ضيّعت كل الأَمَانِي الممكنة. وقد اضطلعت المجموعة القصصية “لعبد الرحيم سليلي” بهذه المهمة، حيث تمكنت من استكشاف هوامشَ مستترة، تخفى على عالم الاجتماع، أو الاقتصاد، أو حتى السياسي. ذلك أن الاستعادة الشاعرية التي انتهجها، كثفت الدلالة، وأفرغت المحتوى في فن، استطاع منح سلطة الكلام لمن لم يستطيعوا التحدث في غمرة التوجيه الإعلامي للرأي العام، بإغراق وسائل التواصل الاجتماعي بمعلومات متضاربة. ولو كان في مرحلة الحراك، صورة نمطية، تقول بأن الحرية في التعبير، وكمية المعلومات أضحت وفيرة، إلا أن العكس هو ما صح بعد ذلك، فقد أصبحنا أمام “أضغاث ربيع” كما سماها الكاتب.

         إن ما بين الخيانة والتوجيه بونٌ يتسعُ، ومعنى هارب يطارده القارئ في هذه المجموعة القصصية، فلا يمكن أن نحصره، أو نصنفه، أو نضع هذا العمل ضمن تيارٍ بعينه، أو توَجّهٍ قصصي موسومٍ بعلامات مخصوصة. فما إن يلتقط القارئ بعضا من سمات التجريب، إلا وترجعه سماكة النص، واتساقه، واستنادُ الحدث لفكرة مركزية إلى نقطة البدء، وعودة النص إلى بناء الذات العربية حول قصص متسلسلة، تعتبر رجعَ صدى للتصدّع الذي أصاب الأقطار من جراء هبوب رياح ربيع، أسقط أوراق التوازنات، وأعاد الإبداع إلى التفكير في سبل ترميم الذاكرة، وملأ الثغرات التي سببتها صدمة اللحظة، وما رافقها من دوي إعلامي، وأفول متكرر للأصنام، الأمر الذي ألقى الإنسان العربي، ضمن ثنائية “السقوط والانتظار” التي خطها “محمد بنيس” لظاهرة لشعر المغربي المعاصر منذ أكثر من ثلاثين سنة، واستعادتها هذه المجموعة القصصية ولو على سبيل التناص غير المباشر.

أفرزت هذه المجموعة القصصية، نهجا يراوحُ بين ارتياد آفاق التجريب، واقتناعا بضرورة إعادة النظر في وصاياه التي امتطاها العديد من الكتاب، وأحالوا التجريب تخريبا، لأن الكتابة القصصية العربية، لم تحقق الإشباع اللازم. ولذلك، سار الكاتب بين رغبة في التجريب، والأخذ بوصايا الجماليات المعاصرة، والانحياز نحو الحدث، وبناء العوالم السردية في القصة على الوجه الأكملِ، وترك اللغة تحكي بدل أن تكون أداة تجريب، وغايته. وحينها، نجد المؤلِف يحيد عن الوصايا ويخونها، كأنه يقول بأن كل الجميلات خائنات، وما كتابتي القصصية، إلا محاولة انتماء إلى جغرافية عربية مثخنة بالجراح، يلزمها الحكي لترأب الشروخ، ويستطيع الإبداعُ حينها، تضميد ما تركه الواقع المأزوم.

  • شاعرية التفاصيل وجمالية الدمار

تنبني القصة القصيرة عادة على التلميح أكثر من التصريح، والتكثيف الدلالي، إلا أننا نلحظ العكس في بعض النصوص التي نجد لها اتصالا بنظيراتها، ما يبعث الشك في القارئ، ويدخله في دوامة إعادة ترتيب الكتابة عبر نسق مترابط. واستنادا إلى فكرة اهتمام المؤلف بالتفاصيل، أو الزمن المفقودة أحيانا، فإننا نذهب للقول بأنه يقترب من الرواية تارة، ويبتعد عنها للقصة طورا، ليس في المبادئ الأجناسية، ولكن في تلك التقاطعات الممكنة بين الأجناس، وهي الجزئية التي سنفصل القول فيها في الصفحات القادمة.

تراوح الكتابة القصصية بين ثنائية التأزيم، وترك أثره يستشري، ثم إعادة ترتيبه بطريقة  توغِلُ برفق في الاستناد إلى المرجع، وذلك بالعمل على تأويله الموحش في دهاليز القصة، حيث إن الانكسار، وحالة التمزق المجتمعي، تبعث في النص نوعا من الرؤيوية التي تؤيد “أفق التوقع القصصي”، ولكنها تخيب توقعات القارئ الجمالية، فعنصر المفاجأة الذي يعتمده المؤلف، يُخرج القصة من كونها إجابة إلى اعتبارها منطلقا للتساؤل، والاستشكال الذي يجعل عبد الرحيم سليلي خادما لواقعه. وما تنفك نصوص هذه المجموعة في مجملها عن البحث في “دلالة للزمن المفقود”، كأن النص يركض خلف سرٍّ يقترح له جملة من الإضافات الجمالية، ولكنها تظل قاصرة عن الإجابة الشاملة. ومن ثمة، يمكننا جرد بعض مكامن أسرار هذه النصوص من خلال:

  • الشخصية المأزقية

تلعب الشخصية القصصية دورا متناقضا، فتارة تظهر جلية، وطورا تختفي وراء طيف لا يجعلها أثرا. وبهذا، فإن رصفها في اختيارات مدمجة لموضوع تيمي مقترح، يُلقي بالنص في شراك الاختزال، ولكن فرضية تقول أن معظم شخصيات القصص مأزقية، تتماشى مع طبيعة الكتابة المنفلتة من سلطة النمط، أو من سلطة الحكي المباشر، إذ منها من استُخدمتْ لغرض توهيم القارئ بوجود شخصية كاملة التكوين، ثم تظهر بعدئذ سرابا يستحيل معها الإمساك بكل تلابيبها الهوياتية.

تستجيب الشخصيات للترابط التفاعلي بين الموضوع، والذات، بمعنى أن موضوع القصة موجه أساسا لإبراز مكمن الخلل في الالتباسات المخلة باللحظة الزمنية التي افتقدت إلى الدلالة، وبهذا تصير الذات الشخوصية استجابةً للتخييل المراد إرساؤه، فشخصية: الأمير، والجندي، والموظف، والمقدّمْ، والوزير، والأستاذ، وما إلى ذلك من الشخصيات الآدمية، محصورة، ومقيدة، ومعتقدة في أشياء كثيرة، ومتصلبة في اقتناعاتها، لكنها لا تبحث عن فك شيفرة ورطتها، ولا يُظهر النص انفراجا لمأزقيتها، ولو عن طريق، اعتبار قصة أخرى صورة لانفلاتها من المأزق.

  • جمالية الهذيان والدمار

شهدت الجماليات المعاصرة إشراقات جمالية انبنت على التأثير والتأثر الذي حتمته ضغوطات الدمار الذي سببته الحربين العالميتين، والصدمة التي تلقاها العالم جراء الإبادة التي سببتها القنبلة الذرية. وهكذا، خرجت من براثن التدمير، جماليات الهذيان Délire، والعبث Absurde التي أغتنت عبرها الكتابة المسرحية، والروائية، والقصصية على وجه التخصيص. وفي المقابل، فإن هذه الأسباب التي اكتشف العالم من خلالها كتابة جديدة، لم تنعكس ساعتها في كتابتنا القصصية، لأن البنيات الذهنية للمجتمعات العربية اختلفت في رصد هذه التجليات، لكون تداعياتها منعدمة، حيث إن “الإنسان الجمالي العربي” انشغل خلف سؤال الهوية، فلم ينشغل بسؤال الدمار، إلا بعد ثمانينيات القرن العشرين، لما اكتوى بنار الخطابات الدينية الوثوقية التي فجرت مفاجأة الحادي عشر من سبتمبر، وحالة التيه التي وضعتنا أمام انبلاج “داعش” على حين غرة.

أضحى إذاً هذا الدمار المرير، أرضية لزفرة الإنسان العربي الذي يعاني من وطأة الصورة الدموية، ذلك أن المواجهة المباشرة عبر الوسائط المتعددة جعلتنا أمام فقر المجاز، واتساع العلامة، ورحابة الرمز. وهكذا، اعتمدت القصص جمالية الصدمة، حيث يقول: “تذكر غنائمهم الأولى، صبايا وزوجات وأمهات، اقتلعن من حياتهن الهادئة، ليصرن بأمر الزعيم جوارٍ يقدمن الخدمة والمتعة لمشردين يعتنقون عقيدة القتل والجماع، ويغيرون النساء أكثر مما يغيرون ملابسهم الرثة، غير آبهين برائحة الجيف التي تفوح منهم.” (1) وعلى هذا الأساس، يستمر النص في هذه السيرورة، فنجده يؤكد فرضياتنا عبر ما جاء في هذا المتن: “…تصدر موجاتها العارمة للدماغ الذي فقد الإحساس بأي شيء إلا دوي الرصاص، والضغط على الزناد، وتريده الشهادة حالما ينفتح باب في جيد أحدنا ويتدفق منه شلال الدم…” (2)

وفي الاتجاه نفسه، يتضح أن الهذيان يسكن النص بنهجين مختلفين؛ الأول، ملحوظ في السرد العائم الذي لا تجد فيها علاقة مباشرة، أو ضرورية، أو ثقافية، أو نسقية بين الدال والمدلول، أو حتى ارتباطا موضوعي، ولكن ركاما لا هدف مباشرا له؛ والثاني، يشتغل بتعابير مخصوصة، كأن يقول: “رجعيون.. ضيعتم البلد، كفاكم قهراً لأطفالكم، كفاكم تنقيصا من قدر المرأة فهي الأم والمدرسة، وواهبة الحياة، وهي نصف المجتمع، وهي، وهي، …هـ..، و،…هـ.. و، هـ… و.” (3) فهي إذاً، ملاءمة لطبيعة اللغة المميزة للهذيان الذي يرافق هذا الخطاب الدعائي.

  • النص المرح

استرسالا في تحليل جزء من تجليات جمالية الهذيان، نجد أننا أمام ارتباطات يتلو بعضها بعضاً، حيث إن هذا العبث باللغة، يفتح بابا أمام فرضية أخرى، تتبدى في مرح الكتابة، وانزياحها عن الوحدة الكلية للمجموعة القصصية، حيث إن القراءة الخطية، تثبت مدى اختلاف النصوص في الإجابة عن سؤال اختيار تعدِيدِ أنماط الكتابة، لتحفيز كفايات النص الرمزية. ونعتقد أن هذا الاختيار، يرجع إلى رغبة في تلفيف الحقيقة الأليمة بمتعة الانزياحات الجمالية، ذلك أن الإنسان العربي في مرحلة ما بعد الحراك، “لم يعد قادرا على أن يواجه الحقيقة مباشرة، أي لم يعد يستطيع أن يحدق فيها وجها لوجه، وتتقلص الحقيقة المادية -فيما يبدو- كلما تقدمت فعالية الإنسان الرمزية.” (4)

وقد أسعفت سيرورة البحث في المنظومة الرمزية التي استحوذت على لحظة ما بعد الحراك العربي، إعادة تبيئةٍ جعلت من هذه المجموعة القصصية، كتابة مرحة مليئة بالكوميديا، والسخرية حتى من القدر نفسه، وفضاءً خصبا لارتباط المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، فكأنما أرادتْ هذه النصوص أن تعيد إلى الفنِ وظيفته المثالية في إصلاح أعطاب مركبة في الوجود، والهوية.

  • كثافة التدليل وانبعاث متعة النص

يخاطب الكاتب في القصة المعاصرة القارئ، بلغة محشوة بالترميز المفتقد لبناء سردي أوجده الكاتب، أو ممكن سيركبه القارئ بعدئذ؛ غير أننا نرصد أن “عبد الرحيم سليلي” هو من منح القارئ صك التعرف على محيطه بلغة تداريه قدر الإمكان، حيث إنها تنتمي إلى هويته، وهمومه، وثقافته العربية في شموليتها. ونظرا لكون النص يعيد للقارئ ثقته في أناه الهوياتية من جهة، ويبعث الشك في قضاياه الراهنة من جهة أخرى، فإنه يمارس نوعا من الإثارة الجسدية التي تجعل القارئ مهتما باستمرارية المعنى، وارتباط القصص ببعضها، رغم بنياتها السردية المفردة أجناسيا.

تأسيسا على ما سبق، يؤكد هذا المفهوم الذي استعاره رولان بارث Roland Barthes، على كون الإيحاء محركا للمعنى، بوصفه فعلا شهوانيا ضمنيا، فلذة النص ما هي، إلا معنى متعددا signifiance، يتم إنتاجه انطلاقا من علاقة شهوانية بين النص، والقارئ؛ ولذلك، “فإن المعنى المتعدد يعد قضية، يتجنب من خلالها موضوع النص منطق الأنا الكوجيطية L’ego-cogito، وتنخرط في منطق آخر (مرتبط بالدال وتناقضاته)، يكافح لأجل المعنى ويفككه (يضيع Se perd)؛ ومن هنا، تتحدد هويته انطلاقا من المتعة النصية La jouissance، فبفضل مفهوم المعنى المتعدد، يتحول النص فيصير إيروسيا.” (5)

وعبر هذا المضمار، لا تترك قصص هذه المجموعة للقارئ برهة للراحة، حيث إن سيرورة القراءة تشهد على بياضات نصية ظاهرة كنقاط مسترسلة، أو تقسيم نص القصة إلى نصوص جزئية، أو ترك فضاءات فارغة… وهكذا، تمارس العلامات النصية استفزازا معرفيا للقراءة، وتفسح في النص مساحاتِ تأويل أكثر رحابة، فتعطينا حينذاك فرصة الانتقال من بنية النص اللغوية، إلى انفتاحه الثقافي، فالنص إذاً مكان لقاء بين ثقافات متعددة تتسق داخله، حيث “إن النص لا ينتج عن صدفة، وإنما من كتابات متعددة، منبثقة عن ثقافات تندمج مع بعضها في حوار ساخر ونزاع خلاق؛ ولكن هناك مكان تجتمع فيه تلك المعاني، وهذا المكان ليس الكاتب، وإنما هو: القارئ.” (6)

ولذلك، عبر هذا التوجيه النظري الذي يقدمه رولان بارث، نجد الكاتب يبلور وعيا نصيا بهذا الإبدال، مما يحتم استعارة التناص التاريخي، ويرجع ذلك لسببين: الأول، متمثل في تكسير انتظارات سيرورة التلقي، ومنها عنوان نص ((حرب اليمامة)) – على سبيل المثال لا الحصر- التي لا يجد فيها القارئ، الإحالة المباشرة نحو الحرب التاريخية للردة، وما يفيده النص الذي خطه الكاتب؛ والثاني، يتجسد في إقحام المؤلف لتعليقات مرفقة بعنوان النص القصصي، كما في قصة “سُعَار“* (7) التي وإن أدرجت تحت هذا السياق المُقيِّدِ للدلالة، فسيرورة تحقق المعنى لا تستند على هذا التوجيه البتة، لأن النص يورد القارئ متاهة تأويلية مختلفة تماما عن العتبات النصية، مما يفرض سلطة التأويل المضاعف لهذه القصة، وما يحفز التأويل المضاعف في المتاهات الدلالية لهذه المجموعة القصصية، هي سعة الخطاب لعوالم يندمج فيها الواقعي، بالغرائبي، في ما يشبه نزعة تشاؤم مستشرية بحدة، وذلك لإبراز بعض خصائص فترة ما بعد الحراك العربي، المُفتقدة للمعنى الذي حاول النص أن يبحث عن بعض تلابيبه.

  • البوليفونية القصصية

إن وطأة الأصوات التي سكنت هذه المجموعة القصصية، وكمية الغنى الشخوصي الذي عرفته بعض النصوص، يفيد اعتمادا على مفهوم “البوليفونية” التي تتجلى في افتتاح بعض القصص بأشعار لها دلالات مختلفة، فلجوء السرد المميز للكتابة القصصية إلى الشعر، تهجين صريح للصفاء الأجناسي الذي كانت تعيشه القصة القصيرة، وأضحت الآن تتخلى عنه تحت ضغط المنعطف التجسيري بين الأجناس الأدبية، وغيرها كذلك، مما يفرز إشكاليات جمالية جديدة داخل المفاوضات القائمة بين الفنون في هذه المرحلة التي تشهد تفكك وحدة الفنون الجميلة من جهة، واندماجها في وجهات النظر الإبداعية، واستفادتها من بعضها داخل دائرة السرد من جهة أخرى.

وتجدر الإشارة، إلى أن القصة القصيرة لا تحتمل عددا كبيرا من الشخصيات، إلا أننا في المقابل نرصد نَفَسا روائيا “حواريا” داخل بعض النصوص المشكلة لهذه المجموعة، ومنها أن قصة “على رمال حارقة“، تحتوي أكثر من إحدى عشرة شخصية، مما يثبت مدى تشبث الكاتب بالتعددية الصوتية، أو ما يسميه ميخائيل باختين Mikhail Bakhtin “بالنزعة الكارنافالية التي تسعى إلى زعزعة السلطة بالهزء منها، وإشاعة روح الفوضى.” (8)

ونعود لنؤكد فرضية كون هذه المجموعة القصصية، محاولة بحث مضنية عن معنى ممكن لمرحلة افتقدت للدلالة، ولذلك كانت الاختيارات اللغوية مليئة بعبق التهجين اللغوي، ففي قصة “أضغاث ربيع” نجد أن اللهجة المصرية مترددة “شف لك شغلانة ثانية تجيب فلوس وتعبها قليل” (9)، مما يؤكد فكرة كون الانتماء إلى قطر عربي، لا يثبت الالتزام بفصاحة العربية المعيار، وإنما بالاحتفاء بتعددية لهجاته، ولا ينفي إمكانية التعبير بلسان بلدان أخرى، وإن كانت اللهجة المغربية حاضرة في كلمات مثل “فينتهي به المطاف حارڭا إلى إحدى دول الجوار.” (10) والعبارة المغربية “حْرْڭْ” تفيد الهجرة السرية إلى أوروبا.

  • مقتضيات المشهد القصصي وفاعلية التجسير الأجناسي

إذا اعتبرنا القصة “فنا فقيرا، وأبا للدراسات الأدبية في مرحلة خلافية بين الفنون، وجدلا نقديا ديناميا،”(11) وسردا مختصرا، وبناء دراميا يقدم شخصيات محدودة، فإن هذا النص كذلك حاول أن يحيد عن البنية القصصية التقليدية، ويعبر نحو جسر المشهدية الحوارية. وتتضح هذه الاستراتيجية بخاصة، في وظيفة وصف وقع الخطابات الجهادية في النفس البشرية، وما تسببه  آثار الحرب، والدمار في بناء المشهد القصصي الذي قد يقبل التحول نحو الفرجة إن سنحت سيرورة التحول، كما نرى في هذا المقطع القصصي.

“بعد هنيهة عاد سرب المقاتلات: هدير يُقبل، وهدير يعود أدراجه صوب البعيد، وبينهما يسمع صوت رعد…

سأله الوهراني: هل نحن ميتون يا أبا كلثوم؟

أقرأت في حديث أو أثر أنها تمطر في الجنة رملا يا ولي الله؟ إننا ما نزال في الدنيا الفانية، نقتل لنغضب الله، ونحصل على رضا ولي النعمة.

رباه…

هيئ نفسك لمزيد من جز الرقاب، والألم الفظيع فأنت على قيد الجهاد.” (12)

إن الأسلوب الذي يطغى على جل الكتابات القصصية، يتمثل في السرد، ويقل الحوار فيها لكونها لا تبحث عن تقديم كل شيء للقارئ. وبإجمال، فإن جل النصوص القصصية، تبدأ ببناء سردي يتأسس على الدهشة، ثم الفكرة، فالخطاب الأول يتلوه الثاني، وفي نماذج أخرى الخطاب الثالث، ويختم بتركيب تارة، وإبهام طورا، غير أن إبطاء التسريد يعتمد على عنصر وقع المفاجئة، والسقوط، والقطيعة التي تجعل القارئ يعيد ترتيب القصة من جديد لتلج عالم العود الأبدي.

أصبحت تقنيات السرد القصصي في هذه المجموعة مكونا أصيلا، فبالنسبة للقارئ تصير القصص المتناثرة حدثا في الحين ذاته، واقعيا، ومؤخرا، ومختصرا، ومتخيلا، ومغامرة، وشاملا، ويلعب فيه السرد أدورا تجسيرية، تحمل القارئ نحو حوار أجناسي. وانطلاقا من الإشارة السابقة إلى اللاتجانس الأجناسي في المجموعة القصصية “أضغاث ربيع”، يتضح أنها نصوص قابلة للمرور عبر نافذة المسرحة Théâtralisation، وإن كان هذا الباب مفتوحا لقابلية فن المفارقات في احتضان الفنون الجميلة، إلا أن الملاحظ هو احتواء الوصف، والحوار أيضا، على مقومات سردية سينمائية، ومقتضيات المشهد العاطفي الذي يحقق نوعا من الأداء الحواري الفعلي على الركح:

“تعرف مماد الطوارقي، الملقب بالأعور،

زوج البلجيكية الشقراء.

هو ذاك.

نعم، نعم، أعرفه، الرجل الشجاع الذي استشهد أثناء محاولته سرقة مدرعة خلال مواجهة بين الدواعش وجيش النظام في الموصل،

تبا لمعلوماتك البائخة.. الرجل سجين في القبو، أشاعوا خبر موته؛ ليتقاسموا زوجته الجميلة… جنرالك المفخخ كان أول الذئاب، وقد اعتقدت لزمن أنك توجد على لائحة الناهبين.” (13)

 يؤدي هذا الالتباس الذي ذكرناه سابقا، إلى مرور النص القصصي نحو فعل “المسخ Métamorphose” الذي يميز الكتابة القصصية الحوارية التي تغادر نطاق التجنيس، وتبحث عن حيوات أخرى، خارج نطاق الدائرة الأدبية. وفي سياق آخر، فإن توظيف الخطابات المحيطة “باللحظة الثقافية” المحددة للاستهلاك الثقافي، أفرز سيرورة تفكير في الخطاب نفسه، مما يثير شهوة القصة، وتشويق الصورة.

خاتمة

لا يخفى على كل دارس للقصة القصيرة، أن اختبارها على ميزان النقد، أو اختيار منطلق للبحث في دواليبها، أو مقاربة ممكنة صعب المراس. وبخاصة، لكونها تجمع بين نقيضين بينهما انسجام رهيب، والتباس مخل، يبرز تركيبها الجمالي، وعمق تأسيسها للعالم الممكن للإبداع، وتشييد رؤية بديلة لما هو كائن، وروتيني. ولهذا، كانت في الغالب تنزع نحو توجيه تبئير الرؤية نحو الذات الإنسانية، وجوانية الانكسارات الجديدة التي تعاني منها، وسبر جوهر الشر المحيط بنا.

وفي اتجاه مغاير، يتضح أن قصر المادة القصصية، وطولها، ليس استراتيجية أدبية، وإنما تماه مع طبيعة معالجة فكرة القصة القصيرة نفسها التي لا يفسر قصرها في بعض الأحيان إخفاقا في الحفاظ على نفس نسق الكتابة، ولا يفيد طولها كذلك ابتغاء للشراهة القصصية، ولكن ربما ترجع إلى رغبة في التردد بين التجريب، والحفاظ على التقاليد القصصية، ووعيا بأهمية الارتقاء نحو “الكتابة الجديدة”.

يظهر إذاً، أن هذا النص أحوجُ إلى قراءاتٍ مستمرة، لكونه يستعصي على كل قراءة تدعي الإلمام به، ذلك أن نسيج السرد المركب، يجعل من النقد سيرورة تنتج خطابا معرفيا يواكب هذا التراكم الإبداعي الذي يبرز نبوغ أسماء جديدة، يجب أن تحتل مكانتها النقدية في ترحالية الكتابة القصصية، فما فتئت هذه المجموعة القصصية ترسي ذاتها في ثنايا القراءات النقدية، وجدنا أن الكاتب “عبد الرحيم سليلي”، أتبعها بمجموعة وليدة عنونها بـ: “ظل يرقص سامبا شرقية”، يعلن منذ عتباتها عن تحول نحو التجريب.

وعليه، نعود لنرسخ في ذهن القراء، أن هذه النصوص، زاوية نظر باردة لمحيط يسكنه الدمار، وما من شك أنها كذلك رقص مذبوح من الألم، على أنقاض ذاكرة قريبة، تستحق إعادة الترتيب، والترميم. ولا عجب أن هذا التنويع في جماليات الكتابة، يرجع لتراكم في التجربة التي شهدت صعودا نحو التجريب، وخوفا حذرا من السقوط في التخريب. ولذلك، نجد هذا التنويع في اختيار منطلقات كتابة تحترم الوصايا حينا، وتغدرها أحيانا.

الهوامش

(1) عبد الرحيم سليلي: أضغاث ربيع، قصص قصيرة، منشورات جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي الدورة التاسعة، زين، الخرطوم، الطبعة الأولى، 2019، ص34.

(2) م. نفسه، ص38.

(3) م. نفسه، ص60.

– ليس ما أوردناه بالقليل الوارد في المجموعة القصصية فحسب، إذ إن هذه النصوص غنية بنظير هذه التجليات النصية من قبيل: “تساءل حكيم مذعورا كأن أفعى مجلجلة انتصبت أمامه تريد لدغه في مقتل، فرد أبي بلغته الحازمة: يجب أن يرتفع أكثر، يجب أن يرتفع أكثر…” ص 74.

(4) إرنيست كاسيرر: مقال في الإنسان، ترجمة: إحسان عباس، مراجعة: محمد يوسف نجم، دار الأندلس، بيروت، الطبعة الأولى، 1961،  ص67.

 (5) Philippe Dulac : Roland Barthes, théorie du texte, In encyclopédie Universalis.

 (6)  Roland Barthes : Le bruissement de la langue, Ed. Gallimard, Coll. Follio- essais, Paris, 1984, p66.

(*7) أضِيف في هذه القصة تعليق توجيهي، قد يفيد قارئ هذه الدراسة النقدية في معرفة القصد: “في شهر أغسطس 2017 خرجت علينا المواقع الإخبارية بقصاصة غريبة، تبين في ما بعد أن بعض ما جاء فيها صح يح والباقي افتراء، فقررت التفاعل معها بهذا النص.” عبد الرحيم سليلي: أضغاث ربيع، مرجع سابق، ص48.

(8) سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 2002، ص319.

(9) عبد الرحيم سليلي: أضغاث ربيع، مرجع سابق، ص18.

(10) م. نفسه، ص16.

 (11) Michael Issacharoff : L’espace de la nouvelle, Ed. José Corti, Paris, 1975, p7.

(12) عبد الرحيم سليلي: أضغاث ربيع، مرجع سابق، ص28.

(13) عبد الرحيم سليلي: أضغاث ربيع، مرجع سابق، ص33.

بقلم: يوسف امفزع

Related posts

Top