رحيق العوسج

كانت حقيبة سفري تعبث بصمت المكان وتبث الضجيج في سكون الأحلام، حيث يبدأ الظلام ببعثرة سواده فوق سطوح الأشياء ليتفتح قبرا آخر لمواراة الياسمين، فيختفي في بطن الغياب وتنفرج أسارير الحلم الراقد في أوصالي وتلطم على خدود شوقي المحمرة من فرط الحنين.

قرار رحيلي مزق أشرعة الأمان في قلبي المسكين، وعند حافة المساء، تطايرت بتلات الياسمين فوق السطور الأنيقة فبدت كأشباح صغيرة تود التربص بلقاءاتنا البريئة.

على غير عادتي بت أكره ذاكرتي التي تحتاج لمن يفك طلاسمها، فانتقل ببصري إلى مواقع قدمي اللتين تعزفان بصمت لحن الرحيل وآه كم وددت للحظة أن أكون سدا في طريق عنفواني وكبريائي العظيم.

  لا يمر شيء إلا من خلال تلك الخرائط المنقوشة على جدران روحي، يأخذ معه ما يأخذ ولكن أبدا لا يتركني وهو خالي الوفاض، لألتمس طريق العودة لحياتي الطبيعية بصعوبة شديدة جدا محملة بالخوف من الفقد والرحيل دون وداع فما عادت المشاعر تألفني و أنا من رحل هذه المرة إلى تلك الجهة التي تسكن فيها روحي الضائعة.

 وقلبي مقطع إلى ذرات تناثرت في أرض شائكة، وقدما روحي حافيتان، وليس إلى لملمة شعث قلبي من سبيل..

لذلك أخذت قراري منذ فترة باللاعودة إلى ذاتي تلك التي تتقن البحث في جغرافية القلوب، فردت أوراقي البيض فوق منضدتي المتسمرة في أفق الانتظار و غادرت المشاعر و ترتكتها مدفونة في مكان الرحيل الأخير.

فتبث عطر المساء لأغسل به وجه ذاك العابر سبيل المنتظر هناك في قلبي المتناهي.

 إلا أنني شعرت بقسوة تحطم السد في وجه إعصاري المتمرد وظلي يراقب طيفي وهو يتوارى في صخب الضباب ويسترق النظر لفنجاني المتسمر عند أفق المغيب، إذ لا يزال ذاك الفنجان شاهدا على أنفاسي، وهمساتي، وظلي يراقب بقايا قهوتي وهي تحتاج إلى ذاكرة متفرغة، حتى تستكشف معالم الطريق و تجف في القعر كبركة دم في طريقها للتخثر في حضرة رياح السموم.

 فيأتي نور الصباح ليسطع ويبدد العتمة المتسربة إلى عمق الجراح، حين أرى ابتسامة وجهي الحقيقة ساطعة، فأشتاق لنفسي القديمة تلك التي ظلت عالقة هناك حيث رحلت كما رحل كل ماهو جميل.

 وآه كم أحتاج لقوة تقتلعني من جذوري العفنة لتنأى بي إلى عوالم أكثر نقاء.

وآآه، كم أود لو أقطع أعناق الذكريات، بمدية مشحوذة بمنطق الرحيل..

أود لو أشيع جثامين أفكاري إلى مثواها الأخير..

لترقد روحي بسلام..

يحيرني أحيانا، لون الكستناء الذي يختال بين الجفن والهدب، و يذهلني ذاك البريق الذي يسكن اللحظ في قمة الوجع، فيسافر فكري إلى أقاصي الكون، ليجمع لي من لحن الكلام كل لون..

يا امرأة ضيعت طريق عودتها إلى الذات دون سبب،

يا عاصفةً قابعة في أحداق السنابل،

يا ريق ساقية برية،

يا خوفاً منقوشاً على ثوب الليالي بحرف من شغب،

يا قصائدي الحبلى بالسجع وقلبي المثخن بجحافل الأسى،

ما سر هذا الحزن الذي يأبى الهرب؟

اكتبيني بيتاً في قصيدة بربرية بمداد سريالي وقرطاس من هلع أو إن شئتِ ذوبيني في دواتك

وعلى جدارية الورد اسكبيني.

وأقلم أطراف الحديث ثم أربط على قلب القصيدة..

فتتعثر حروفي بنبضاتي المتناثرة فوق سطوري، لأقف حائرة لا أدري كيف ومن أين سأبدأ..

 ترمش عيناي بسعادة فوق صفحة تتأهب فرحا لتحظى بعبق حضوري..

وروحي الماثلة في الوجدان هي فلسفة عصية على الفهم والإدراك وأنا ورطتي الازلية وقصة حياتي الاحترافية..

 ولو مزقت أمامي كل الخرائط، سأجد طريقي إليك، ومحال محال أن تنتهي تلك القضية..

ويحل الزيف و تندثر الذات في لحود النرجسية

فلنعاود تنضيد أنفسنا من جديد، “ومازلت انهزم

 !!! بكل رحيل أو فقد فلا تغادرني الأشياء سريعاً

بعيدا عن جمجمتي المضطهدة، سأجعل من حروفي عكازا أتوكأ عليها، وأهش بها على أحلامي وأحتكرها لمآرب أخرى، علها تساعد روحي العرجاء، و لو أحبت أن تفيق مجددا، سأردم فوقها ما تيسر من تربة الجحود.

 فأنا لم أعد أنا، كتلة من الغباء تنتعل روحي حين أتوسد وعورة المسافات، تطؤني أقدام العابرين

لا يصادفني سوى من أضاعوا السبيل يصفعون روحي، بأكف من القنوط و يدحرجونني في الهواء، وأنا التي تتعثر في أكثر الدروب استقامة.

يسرقني الخريف، و يباغتني من حيث لا أدري، رغم رؤيتي الضبابية، و روحي التي تجوب الكون، لتبحث عن كسرة ضياء، فتعيد لروحي تفاصيل الهوية.

 اليوم يرقد في ضفائر الليل ياسمين، وبالأمس كنا نتزاحم على شرفات الطفولة، واليوم أتعبنا الوقوف على العتبات الهرمة..

فمن يخبر السنونوات ان تؤوب

ومن يخبر سروتنا ان تفتح ذراعيها لليمام؟

وكم أشتاق لجرعات من الصدق في وجوه أحببتها بالأمس وما أزال أسهر فيها على اعتلاء صهوة التمني..

وكل كلماتي قد فقدت صلاحيتها، و باتت تقترب من عتبة الاتلاف، فأتوق للنهوض بها،

في زمن يتوسطني فيه السقوط..

وكم مرة بت أمقت الانحناء، و الاستسلام وأتلهف مخلصة لعالم مستقيم وأرواح شفيفة و نقاء وصدق، فقد فقدت نفسي في حقيبة كتبي، ونسيت أن اكبر..

ظللت أراقب تلاشي روحي في جوف نفق العزلة ، الى أن صفعتني حزمة النور في آخر النفق، فأيقظتني من غفلتي..

فركت عيني بشدة لأستوعب كمية الضياء المباغت، فغسلت وجهي ببرقة اطمئنانٍ لفح محياي على حين غرة..

 من ينادي على الأزقة لتستيقظ ومن يتفقد ساعي البريد؟

فقد تاه منذ عشرين لهفة، وبللتْ بالحزن ياقةَ الانتظار بالمكاتيب.

 ولا أزال أبحث عن ذاكرة خائنة، ذاكرة تتنكر لملامح الوفاء، قاربت قدرتها على الصمود أن تنفذ..

خيمت تنهيدات الشتاء على جدران القلب وشح اللقاء أرهق عيني البنفسج..

فداليتي توشحت الخريف وأزيز الأبواب أيقظ هذياني ودرب العودة بات أعوج..

يا زليخة امنحيني عطر العاشقين واملأي جب يوسف بالرياحين..

وكللي حرفي بالذكريات، وفوق ثغري دعيه يرقد رحيق العوسج..

 فقلب فيه الذكرى تعبُّ من نهر الشريان وفي دجى الأحبة يرسم الأحلام، لِ طوقٍ من البيلسان هو أحوج..

وما أصعب تهشم أغصان السنديان أمام عاصفة نرجسية الهوى ك أنا، لأنتشلني من بئر الحنين،

وأعيدني الى ذاك الدرب، و روحي تعشق نظم القصائد، حيث تنام على كتفي الأرجوحة و صغار العصافير..

فقط أخبروا أيلول أن يتأخر قليلا هذا العام..

بقلم: هند بومديان

الوسوم ,
Top