رحيل الكاتب القصصي المغربي إدريس الخوري..أحد مؤسسي التجربة القصصية الحداثية

رحل عن عالمنا الموبوء أمس الثلاثاء، الكاتب المغربي إدريس الخوري الذي ظل وفيا لجنس إبداعي بعينه هو القصة القصيرة، حيث خلف عدة مجاميع بهذا الصدد، ابتداء من مجموعة “حزن في القلب وفي الرأس” التي كان لها إسهام حقيقي في كسر نمطية الكتابة القصصية في الستينيات القرن الماضي، إلى “بيت النعاس” التي صدرت قبل سنوات قليلة عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، والتي شكلت منعطفا في تجربته الإبداعية، مرورا بالمجاميع التالية: “ظلال”، “البدايات”، “الأيام والليالي”، “يوسف في بطن أمه”، “مدينة التراب”، هذه المجموعة التي كان يرشحها العديد من المتتبيعن لتحظى بجائزة المغرب للكتاب، لكن لم يشأ لها ذلك، ويظهر أن الراحل إدريس الخوري غير محظوظ مع الجوائز، حيث لم ينل أي واحدة منها سواء داخل الوطن أو خارجه، لكن إنتاجه القصصي ظل محط تقدير من طرف النقاد والباحثين الأكاديميين، حيث أنجزت حوله عدة أطروحات جامعية.
سئل الراحل في أحد الحوارات التي جمعت في ما بعد في كتاب تحت اسم “أسماء مغربية”، عن أمنيته في الحياة، فكان جوابه: “أمنيتي أن أعيش أطول مدة ممكنة”. هل حقق أمنيته فعلا؟ رحل فقيدنا عن سن الثمانين ونيف، لكن الشيء الأكيد أن إبداعاته القصصية ستعيش أطول مدة ممكنة، إن لم نقل ستظل خالدة، لأن صاحبها لم يكن متطفلا على هذا الفن الأدبي، بل يعد من المؤسسين للتجربة القصصية في المغرب على الأقل. لقد خلق لأجل أن يكون قاصا وحسب.
لم يخلق إدريس الخوري لكي يكون أكاديميا ولكي يعد أطروحة جامعية وما إلى ذلك، بل ظل مخلصا للكتابة القصصية، وحتى عندما هجر العديد من أدبائنا نحو تأليف الرواية لغرض في نفس يعقوب كما يقال، لم ينسق نحو هذه الموجة. ظل يخبر متتبعيه وقرائه بأنه بصدد كتابة رواية، هي عبارة عن سيرة ذاتية، وقد نشر فصلا واحدا منها بالفعل في إحدى المجلات، لكن هذا الكتاب لم يخرج إلى الوجود إلى يوم الناس هذا. في كل مرة يخبر من يسأله عن الرواية التي وعد بإصدارها؛ بأنه وصل إلى عدد معين من الصفحات وأنه على وشك إنهائها، لكن هذه الرواية لم تنته ولم تر النور إطلاقا، وفي اعتقادي أن من مسؤولية أسرته الصغيرة وكذا اتحاد كتاب المغرب الذي كان الراحل أحد أعضائه النشيطين؛ العمل على إعداد هذا النص الروائي للطبع وكذا البحث عن نصوصه الأخرى المتفرقة في الصحف والمجلات التي لم يتسن له جمعها وطبعها.
كان الراحل إدريس الخوري عاشقا كبيرا لمتع الحياة، إلى حد يجعلك تتساءل متى يجد الوقت للتفرغ للكتابة؟
حول ذلك يخاطب ذاته في أحد مقالاته بأسلوبه المميز: “ميزتك الأساسية أن الوقت لا ينفلت من بين يديك وأنك لا تتكربع مثل الآخرين، هي التجربة الطويلة في المعاقرة وفي الحياة، في العلاقات الإنسانية الكثيرة والتي لا تحصى..”.
فضلا عن إخلاصه للإبداع القصصي، كان يكتب بين الحين والآخر، مقالات أدبية حول الحياة الثقافية بصفة عامة. تم جمع هذه المقالات الصحفية في عدة كتب، منها ما تمحور حول المسرح والسينما تحت عنوان “فوق الخشبة أمام الشاشة”، ومنها ما كان محوره الفن التشكيلي، كتاب “كأس حياتي”، ومنها ما توزعت مواضيعه حول قضايا أدبية وسياسية متنوعة، كما هو الحال بالنسبة للكتب التالية: “من شرفة العين”، “التتياك السياسي”، قريبا من النص.. بعيدا عنه”، “فم مزدوج”.. إلى غير ذلك من العناوين، ومن الملاحظ أن أغلب هذه الكتب صدرت عن وزارة الثقافة في الفترة التي كانت على رأسها الفنانة ثريا جبران، كما صدرت له الأعمال القصصية الكاملة عن القطاع الوزاري نفسه، وتولت دار النشر توبقال إصدار الطبعة الثانية لباكورة أعماله القصصية “حزن في الرأس وفي القلب” التي تشكل منعطفا حقيقيا في تجربة الكتابة القصصية بالمغرب.


له كتاب آخر متفرد، عبارة عن أدب الرحلة، فيه يسرد ظروف عيشه وتنقله في عدة مدن مغربية وعالمية، يحمل عنوان “فضاءات”.
كان الراحل إدريس الخوري يشكل ثلاثيا مع أديبين آخرين، هما محمد شكري ومحمد زفزاف، بالنظر إلى التقاطعات القائمة بينهم في العالم القصصي وفي التجربة الحياتية كذلك. كلهم رحلوا، مما يدل على أن جيلا من المؤسسين للكتابة القصصية بالمغرب، في طريقه نحو الانقراض، وبالتالي هذا يفرض طرح التساؤل حول الآفاق المستقبلية لهذا الفن الأدبي، وحول ما إذا ظهرت أجيال جديدة تحمل بوادر تحقيق انعطافة في هذا الصدد.
حظي فقيد القصة القصيرة بعدة حفلات تكريم، كما أقيمت ملتقيات حول تجربته الإبداعية، وتم توشيحه بوسام ملكي. تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

عبد العالي بركات

***

عندما عبر إدريس الخوري عن رغبته في الاختفاء نهائيا.. نهاية الكاتب المفترض

كان هذا المقال من آخر مقالات الكاتب الراحل إدريس الخوري، وفيه يعبر بشكل صريح عن شعوره بالتعاسة من هذه الحياة ورغبته في الرحيل عنها.

ها قد بلغت من الكبر عتيا، فماذا تبقى لك من الوقت لكي تختفي عن الأنظار نهائيا؟ (هذا ما يتمناه بعضهم). تلتفت يمينا وشمالا فلا ترى أحدا بجانبك، الكل منشغل بذاته وبأسرته الصغيرة وأنت قابع في محنتك النفسية والجسدية تجتر آلامك في صمت.
من يزرع الفرح في قلبك الآن؟ لا أحد إلا حفنة قليلة من الأصدقاء يملؤون عليك وقتك الفائض بحضورهم الجسدي والمعنوي، المقتطع من أوقاتهم، حتى إذا ذهبوا إلى بيوتهم ونسائهم بقيت وحدك تجتر وحدتك القاسية، في بيتك الصغير فوق سطح العمارة.
في الصباح تستيقظ شبه متثاقل من دون صداع الرأس، لكن ميزتك الأساسية أن الوقت لا ينفلت من بين يديك وأنك لا تتكربع مثل الآخرين، هي التجربة الطويلة في المعاقرة وفي الحياة، في العلاقات الإنسانية الكثيرة والتي لا تحصى، هل تعبت منها؟ أكيد، فكثرة العلاقات مجرد طنين مثل طنين الذباب، لا نفع فيها إلا التشويش!
تقوم من فراشك البسيط الواطئ وتستحم بالماء البارد لكي تنتعش، لقد تعودت على الدوش البارد منذ أكثر من ثلاثين سنة، لا زكام يتسلل إلى أنفك، تعود إلى الغرفة وترتدي ثيابك وتنتعل حذاءك البني وتشرع في قضم تفاحة، فتأهب للخروج ففنجان قهوة خفيفة في المقهى القريب من مقر سكناك فامتطاء سيارة أجرة كبيرة والانتقال إلى الرباط وشراء الصحف اليومية، لا شيء سوى بنكيران والمعارضة البرلمانية، سوى العدالة والتنمية والعدل والإحسان، داعش والغبراء!
هي ذي كائنات سياسية جديدة وقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فلا داعي لأن نسميها بأسمائها لأنها بالنسبة إلي لا شيء على الإطلاق، لقد رحل عنا الساسة المحترفون والمثقفون وبقينا أمام الكراكيز، ألم يتحول مبنى البرلمان إلى حلبة الملاكمة بعد خطاب الملك؟
مؤسف جدا.
لقد تفككت عظامك من كثرة الحوادث المؤلمة وصرت أيها الكاتب – الشيخ عبارة عن أشلاء عظمية قابلة للكسر في كل وقت وحين، أنت الآن تنتظر نهايتك الوشيكة في يوم ما، ولماذا ليس الآن؟ بالأمس وأنت في نادي الكرة الحديدية، جالس تتناول طعام الغذاء رفقة أصدقائك الخلص، أصبت بغيبوبة حتى كدت أن تختفي نهائيا. لكن الأمر لم يقتصر على “الجولة” الأولى، بل تلتها “جولة” ثانية من الغياب عن الجلسة، حتى إن ابنك أصيب برعب شديد، لقد غادرته أمه الخائنة منذ سنتين وتركته هو وأخوه في عنقك وذهبت عند عشيقها، هناك خارج الحدود، فكيف عشت كل هذا الوقت التاريخي وأنت مجرد نصف جسد؟ قبلك أنت رحل أعز أصدقائك عن هذا العالم دون استئذان، فهل ستستأذن أصدقاءك الحاليين قبل رحيلك، من يدري؟ قد يدفع بك مرضك إلى الرحيل عاجلا أم آجلا، لكن رغم الإعاقة التاريخية التي ألمت بك، من حيث لا تدري، فقد ظللت لصيقا بالحياة وذهبت معها إلى مداها الأقصى، بل بقيت راسخا في الأرض مثل جذر شجرة عجوز، والآن فأنت مجرد صدى لوحدتك وأنينك.
الكل يفكر فيك، ويسأل عنك، أنت محبوب ومكروه في نفس الوقت، الكل يريد السير على منوالك الحياتي المختلف على منوالهم، فهل أنت نموذج يحتذى به؟ في الحقيقة، أنت مجرد كائن بسيط، في حياتك، لكنك عميق في تجربتك بغض النظر عن أنك مجرد رقم في هذه البطاقة الوطنية التي تضعنا في خانة الدولة.
اقترنت بالمرأة ثلاث مرات وانتهى ارتباطك بها إلى غير رجعة، هل أنت استثناء أم قاعدة في هذه الحياة؟ ماذا جرى لك حتى تتهرس حياتك في السنوات الأخيرة، بعد أن تقاعدت، بدأ الوهن يدب اليك، وصرت لا تفكر إلا في نهايتك، انغمست في العزلة القاتلة، بعضهم يسأل عنك لأن لديه فراغا في وقته، البعض الآخر يقتحم عليك خلوتك دون أن تدري، بعضهم يتهجم عليك مجانا، لأنك مخلتف عنه، هكذا يتلفنون لك يوميا من حين لآخر ليقتفوا أثرك، هم أصدقاؤه الطيبون الذين لا يخذلونك، أنت مركزهم أحيانا وهم محيطك أحيانا أخرى، هكذا يملأون لك فراغك النفسي، ولولاهم لمت بالفقصة!
لقد كتبت كثيرا وماذا من بعد؟ هل أضفت شيئا إلى هذه اللعنة؟ لعنة الكتابة؟ من أنت حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ منها؟ لست إلا رقما عاديا من أرقام الكتابة في هذا البلد.
أنت كاتب مفترض، هذا لاشك فيه، فقلها للذين يبحثون عن “الخلود”، كل واحد منا كاتب مفترض، يقف بين الحقيقة والادعاء، بين الخيال والواقع، بين المجرد والمطلق، وبيني وبينك، فأنت مجرد كاتب مفترض صنع نفسه بنفسه.
أيها التعيس، لقد حانت نهايتك.

< بقلم: إدريس الخوري

***

اتحاد كتاب المغرب ينعى الكاتب المغربي الكبير إدريس الخوري

تلقى اتحاد كتاب المغرب، بأسى وحزن بالغين، نبأ وفاة الكاتب المغربي الكبير وعضو اتحاد كتاب المغرب، القاص والكاتب الصحفي، الأستاذ إدريس الخوري، اليوم الإثنين 14 فبراير 2022، ببيته بمدينة سلا، عن سن 83 عاما.
والفقيد الراحل من مواليد مدينة الدار البيضاء، انضم إلى اتحاد كتاب المغرب سنة 1968، عمل بجريدة المحرر ثم بجريدة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إلى أن تقاعد، فواصل كتاباته الصحفية، في مجموعة من الصحف الوطنية والعربية.
بدأ كاتبنا الراحل مشواره الأدبي، مثل صديقه الكاتب الراحل محمد زفزاف، شاعرا في مطلع الستينيات، لكن سرعان ما طلق الشعر، ليعانق فضاء الخاطرة وكتابة القصة والمقالة. عرف فقيد الإبداع المغربي، بحضوره الإبداعي الكبير، على مستوى كتابة القصة القصيرة تحديدا، التي ظل وفيا لها إلى أن توفاه الأجل، وله فيها عديد المجاميع القصصية الصادرة، منذ مجموعته القصصية الأولى “حزن في الرأس والقلب” (1973)، والتي عرفت طريقها إلى سلسلة “الأعمال القصصية الكاملة” في مجلدين اثنين، فضلا عن كتاباته الأخرى التي تندرج في إطار السرد الأدبي والنقدي والفني، وهي حول السينما والمسرح والتشكيل والرحلة والموسيقى والسياسة، جمعها إدريس الخوري في بعض كتبه المنشورة، من قبيل: “قريبا من النص.. بعيدا عنه”، و”كأس حياتي: كتابات في التشكيل”، و”فضاءات: انطباعات في المكان”، و”من شرفة العين”، و”التتياك السياسي”، وغيرها من الكتابات التي تزخر بها المكتبة المغربية اليوم..
هكذا، ظل كاتبنا الراحل قاصا وناثرا وكاتب مقالة من الطراز الرفيع، يتميز بأسلوبه الخاص في الكتابة وبلغته المميزة له، في التعبير والسرد وصوغ المفارقات الاجتماعية، ما جعل تجربته القصصية وكتاباته عموما، ذات نكهة ساحرة، بما تضمره من سخرية وصفية ونقدية مبدعة، بالنظر إلى كونها نابعه عنده من تراكم استثنائي في المعيش وفي التجربة الحياتية الذاتية.
وبوفاة الكاتب إدريس الخوري، يكون المغرب الإنساني والإبداعي والإعلامي، قد فقد إنسانا نادرا واستثنائيا، وكاتبا كبيرا، ومبدعا رفيعا وملتزما، وصديقا وفيا للشعب المغربي، بمختلف شرائحه الثقافية الاجتماعية، وأحد من خدموا الثقافة والصحافة والإبداع الأدبي المغربي، بشكل قل نظيره، على مدى عقود من الكتابة والإبداع والحضور والنضال والسفر والمغامرات وحب الحياة والنقاش والجدل والتضحيات…
وبهذه المناسبة الأليمة، يتقدم المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب، بتعازيه ومواساته الصادقة في رحيل الكاتب إدريس الخوري، إلى أرملته وأبنائه، وإلى جميع أقربائه وأصدقائه ومحبيه وجلسائه ومرافقيه، داخل الوطن وخارجه، راجين من العلي القدير أن يتغمد الفقيد العزيز بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته، ويلهم الجميع جميل الصبر وحسن العزاء. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

***

أيام خديجة البيضاوية.. من القصص القصيرة للكاتب الراحل إدريس الخوري

تقطن خديجة في الطرف القصيّ من الدار البيضاء، وتشتغل في الطريق القصي من الدار البيضاء، تستقلّ كلَّ يوم حافلتين للذهاب والإياب معا، وفي المساء تدخل غرفتَها وقدماها منتفختان من كثرة الوقوف في المحطّات والمعمل. لا تعرف خديجة شيئا اسمه الفطور أو الغذاء. في الصباح تغسل وجهها بالماء البارد وتخرج وتمرّ عند البقّال وتشتري حلوى هلالية. في الزوال تخرج صحبة صديقاتها لتشتري ساندويتش من البار القريب. في المساء تعود منهَكة، وتنام قرب التلفزيون. لا تعرف خديجة معنى الفرح، معنى القيلولة، معنى الحب، تعرف خديجة سعاد حسني من خلال “خلّي بالك من زوزو” والمسلسلات العربية الحزينة جدا جدا.. في الرأس دوامة من القلق، وفي القلب رغبة دفينة.
خديجة الآن على الشكل التالي: عينان غائرتان حزينتان، صدر ضامر نظرا لانعدام اللمس، شفتان شاحبتان مشققتان ظامئتان. كانت خديجة عبارة عن نخلة غير مسقية وسط جلابية زرقاء، فضفاضة، وطالما تساءَلت أمُّها مع نفسها: متى يجيء ذلك اليوم لتقلع هذه النخلة الضامرة، النابتة وسط الأشواك، وتزرع في مكان آخر؟ متى؟ كانت خديجة غابة من الرغبة ومن القمع الذاتي، وكانت صديقاتها يعتبرنها ظاهرة.
في الحافلة، لم يكن متوقعا أن خديجة سترفض هدية الطفل المراهق الذي لا تعرفه والذي لا يعرفها قط. ففي الحافلة التي تربط المدينة القديمة بالمدينة الجديدة دفَع الزحام المتواصل طفلاً مخشوشنا من مؤخرة الحافلة إلى مقدمتها. وحين وقف لمح الطفلُ مقعداً شغَر لِحينِه، فتهافتَ عليه وجلس. من النافذة أخذ الطفلُ المغربي المخشوشن ينظر إلى ما وراء الحافلة: الناس والشوارع والأزقة والسيارات والتلاميذ الصغار حاملين شكاكيرهم المدمسة، يتقافزون هنا وهناك كالوزّ. جلس بوشعيب فرحاناً لأنه في الحافلة، ولأنه قلما يركب السيارات، وكانت عيناه حاضرتين في الحافلة. إنه يستطلع الوجوه والأقدام والمعاطف، الرجال والنساء.
وقفت الحافلة، (بعد برهة) أقلعت الحافلة، وهكذا دفع الزحام المتواصل على أشُدّه بامرأة حامل إلى الوقوف جنب مقعد الطفل الذي ينظر من النافذة إلى ما يجري خارج الحافلة، التفَت الطفلُ إلى اليسار فرأى كرشا بارزة من تحت الجلابية الرمادية، ومن تلقاء نفسه قام وترك مقعدَه للمرأة الحامل التي قالت وهي تجلس متأوِّهةً: الله يرضي عليك. وقف الطفلُ جنبَها وحملق في الوجوه الراكبة، البئيسة، باحثاً عن رضى الجميع، فوجده في شفاههم المنفرجة قليلا. سيتعين عليه أن يخبر أمَّه بذلك عندما يعود، أما الآن فالجميع يعرف ما فعل.
جلست المرأة، وقف الطفل، وقفت الحافلة، أقلعت الحافلة، صعد ركاب آخرون ذوو ملامح أخرى قاسية وفرحة، ودفع الزحام المتواصل على أشده بالطفل إلى أن يقف وجهاً لوجه أما فتاة ضامرة وحزينة، كانت خديجة عاطية ظهرها للنوافذ حيث يدخل الهواء فيتطاير شعرها ويتطاير الفولار معه. وتزيل خديجة الفولار عن رأسها وتعيد ترتيب شعرها من جديد، يدخل الهواء فيتطاير الشعر على جبينها وتصبح أكثر إشراقاً للطفل. نظر الطفلُ إلى وجهها مَلِيّاً فخفَضَت من رأسها ثم عادت إلى رؤية الناس ورؤية الطفل المخشوشن.
تسير الحافلة لتقف في محطات كثيرة، تفرغ حمولتها لتحمل حمولة أخرى. نظر الطفل إلى وجه خديجة الحزين، ونظرت خديجة إلى وجه الطفل الشقي. أحياناً تخفض خديجة رأسها خجَلاً، وأحياناً ينظر الطفل عبر النوافذ باحثاً عن أشياء أخرى وهمية.
زعم الطفلُ أخيرا:
-إليك هذه الورود.
نظرت خديجة إليه وإلى الورد ولم تُجِب.
– إليك هذه الورود، إنني أتحدث إليك أنتِ بالذات..
غرسَت خديجة عينيها في جسمه كله: من القدمين الحافيتين حتى الشعر المنفوش والوجه الشقي. مَن يكون هذا الطفل الشقي؟
. -لا
كرر الطفلُ المخشوشن:
-إليك هذه الورود
.. – قلتُ لك لا
-لماذا؟ إنها جميلة.
– لا أحب الورود الاصطناعية
قال الطفل:
-أنا لا أعرف الورودَ الطبيعية، أعرفها فقط في الكتابات.
– هل سبق لكَ أن شممتَها؟
– لا، سبق لي أن شممتُ رائحة أمي
قالت خديجة:
– إذن، لماذا لا تحمل هذه الورود لأمِّك؟
قال الطفلُ المخشوشن: أنت أمي.. وضحك بفرح كبير. الآن سيكون على خديجة أن تخرج من هذا المأزق.. ونظَرَت إليه وقتاً طويلاً وقررت أن تقلع عنه، إن هذا الطفل في مثل سنّ أخي الرابع من المسلسل العائلي الطويل جدا. وقررت خديجة أن تقلع عنه.
تدخَّل أحدُ الركّاب وسأل الطفل:
– أين تسكن؟
– دوَّارْ لاحُونَا
– وأنت (إلى خديجة)؟
– مَاشِي شُغْلَكْ.
قال آخر: دُوَارْ الرّْجَا فاللَّهْ
وضحك المقربون من خديجة ومن الطفل، لكن الوقتَ كان سيئا بالنسبة إلى خديجة.
كرَّر الطفلُ مرةً أخرى: خذي هذه الورود.
-لا، لا أحب الورود الاصطناعية
– وأين الورود الطبيعية؟
-عند الذين لا يركبون الحافلات مثلَا.
لم يفهم الطفلُ شيئا بالمرّة. شرد طويلاً وبحث وسط الركاب عن مَخرج حتى اقترب من نافذة مفتوحة ورمى الورود، مرَّت سيارة بالقرب من الحافلة وداست الورود حتّى بعجَتها، عند ذلك تنهَّدت خديجة. كانت الحافلة قد أوشكت على الوقوف في المحطة النهائية، أحْنَت خديجة رأسَها وقالت لنفسِها: مَالِي يَا رَبِّي مَالِي.
تحلم خديجة بطفل، برَجل، بعريس، بحمل كبير يُسمُّونه الدّْهازْ، ويحلم الطفل بمقعد في المدرسة، وببذلة جديدة، وبالذهاب إلى السينما صباح كل أحد.
خديجة.. عندما أتوا بها من تلك القرية الصغيرة في الشاوية، على المدينة، كلَّفوها بمراقبة طفلهم الصغير البالغ ثلاث سنوات، والذي يجري الآن في ساحة حديقة الفيلا فوق دراجته الهوائية وخديجة من ورائه.. عندما يضحك الطفل تضحك خديجة، يبكي الطفل، تبكي خديجة، يسكت الطفل يتجهم وجه خديجة، لقد جاؤوا بها من هناك إلى هناك لتكون خادمة الطفل فقط، وهكذا انتقلَت من بيت إلى بيت ومن فيلا إلى فيلا حتى انتهى بها المطاف الآن إلى هذا المعمل الصغير الذي يصنع الجوارب، حيث الدخول من السابعة صباحاً إلى السابعة مساءً.
لا تعرف خديجة معنى الفرح، معنى الفطور أو الغذاء ككل الناس، لا تعرف معنى القيلولة ومعنى الحب العذري، لا تعرف إلا يوماً واحداً من أيام السنة: الأحد.
تحلم خديجة بنهار مشرق فلا تجده، بوردة طبيعية فلا تشمها، تحلم بأن تتزعَّم إضراباً ضد رب العمل الذي يستغلهم جسدياً ومادياً فتخاف من الطرد إلى الشوارع، ويحلم الطفل المخشوشن بخبز بُنِي على شكل هلال يُقال له كَرْوَاسَّا فلا يجده.
ذاتَ مساء خرجَت خديجة كعادتها من المعمل، ووقفت كعادتها فوق رصيف المحطة تنتظر الحافلة. في ذلك المساء مرَّ صاحبُ المعمل بسيارته الجديدة، وقف قرب رصيف المحطة وفتح لها الباب وقال لها تعالي أنا سأوصلك، منحَته ثقتها وركبَت إلى جانبه ولم تَدْرِ إلا وهي وهو خارج المدينة في شقة بإحدى العمارات. وهما معاً في الغرفة، قال لها ربّ العمل القصير الأكرش، إذا قبلتِ يا خديجة سأزيدك في الراتب الأسبوعي، وفكرت خديجة ورأت مع نفسها أنه أوقَعها في شرَك غير متوقَّع، ومنحَته جسدَها دون أن تمنح له نفسها وقالت لأمها عند العودة مَالِي يَا رَبِّي مَالِي..
وقد حلم الطفلُ أن يلبس بذلة جديدة وفي يده اليمنى شكارة وهو واقف في الصفّ بين التلاميذ وأمُّه ترقبه قرب الباب وهي فرحانة، لكنه طرد، وقالوا لأمه إنه لا يحفظ دروسه، وإنه يتناول مادةً يُقال لها السِّيلِسْيُونْ تُخدِّر مَن لم يتخدَّر في حياته، لذا فهو دائماً مخدَّر وغائب عن الوجود، وزادوا وقالوا إنه يتطاول أحيانا على مادّةِ السِّيرَاجْ البُنِّية اللزِجة، تصلح فقط لتلميع الأحذية من طرف كثير من الناس يهُمُّهم أن يكونوا لامعين، مثل أحذيتهم، يوم الأحد، لكن أمَّه شكَّت في الأمر وفي أقوال المدير، وأصرَّت على أن ابنَها يحفظ دروسه كل مساء على ضوء الشمع، وأن ابنها غير محظوظ لأنه فَقَدَ أباه، وأن المدير نفسه متّهم من طرف سكان الدرب بأنه يقبض الرشوة، كذلك حلمت خديجة بأنها أصبحت شيخة معروفة منذ خروجها من معمل الجوارب، وأنها اشترت داراً في سْبَاتَة وبدأت تضع على معصميها أساور كثيرة من الذهب، أما لماذا لم تتزوج، فإن خديجة تفسر ذلك بالنشاط اليومي الكثير والظهور في التلفزيون إن اقتضى الحال، وبكثرة الطلبات الواردة عليها من الأعراس ومن بعض القيادات السلطوية بالبادية، سواء في مناسبات وطنية، وما أكثرها، أو مناسبات غير وطنية.
أما لماذا لم ينَم الطفل بشكل جيد، حيث عظامه بارزة في الوجه والقفص الصدري، وكل أعضاء الجسم، فعِلْمُ ذلك عند أمه. قالت أمه في تصريحها لشيخ المقدم في انتظار حصولها على وجبتها من مساعدة التعاون الوطني: يا سيدي، نحن لا نأكل إلا الخبز والشاي ولا نطبخ الدّْوَازْ إلا نادراً، ونأكل الْكِيكَسْ بعضَ المرّات. فأجاب الشيخ السمسار في أوراق التعاون الوطني: وهل وجده غيركم؟ احمدوا الله إن وجدتُم الخبز.
وكان الطفلُ في ذلك التاريخ الشقي يركض وراء مؤخرة الحافلات حتى المدينة حيث يتسلل عبر الأزقة والشوارع مارّاً بالمقاهي، طالباً أو سارقاً قطع السكر المستطيلة من فوق الطاولات. وقالت أمه لجارتها إن الطفل يُصَدِّعُها دائما وإنه خارج الدار منذ الصباح إلى المساء، وعندما يعود لا يطلب سوى الخبز والسكّر! وقالت خديجة لأمها بعد أن عيلَ صبرُها: سأحترف الرقص.
-أين؟
– عند الشِّيخاتْ.. في سْبَاتَة هناك امرأةٌ معروفة.
وقالت لها أمُّها: يا بنتي الله يهديك. فأجابت: ماذا أفعل الآن وقد تجاوزتُ الثلاثين.. وكان التلفزيون يقدم في سهرته الأسبوعية لقطات من الشِّيخات، فتمنَّت خديجة أن تكون من بينهن.

Related posts

Top