ضيق المكان وسعة الذاكرة في رواية “باب القصبة” للكاتب المغربي حسن إمامي

يقول حسن إمامي عن مدينة مولاي إدريس زرهون في توطئة لرباعيته التي منها هذه الرواية جزءاً:
“مدينة ممتدة في التاريخ لتبرهن بموقعها على أن الخلود للرسالة الحضارية التي تبنيها للمستقبل وليس للأنانيات التي ندفنها كنوزا عقيمة مع موتنا. حضارات خلدت حضورها ووقعت على تواجده بها: الحضارة المورية، الحضارة الرومانية، الحضارة العربية الإسلامية، الحضارة الغربية الأوروبية، وراهن العولمة الجديدة الذي يخلق التحديات ويفرضها لكي تجدد المدينة شبابها وحسنها ويجعلها عروسا مستعدة لزفاف متجدد مع المستقبل وما يَعِد به لعيشها.
بساطة الإنسان في ظلال حركته تفوح بعطر العفة والتواضع والرضا والقناعة، وتلك السعادة المتجددة بالحب الإلهي. للعالم صخب الماديات وضجيج السيارات، ولزرهون عشق السكينة والروحانيات. لزرهون حضن خاص لكل مرتق بنفسه لعلاقات الخلود، لا تكشف سرها سوى للمريد والمريدة، السالكين لدرب الهوى وطريق العشاق. وكم من اسم لمتعبد ومتعبدة لا يعرف قيمته سوى مالك الأكوان أو ذاك الباحث والباحثة عن دربهم وعلمهم وطريق عشقهم. كم من متعبد اكتمل خلوده في الحب وتخلصه من وهم الماديات. تحضر أضرحة مولاي إدريس بن عبد الله، سيدي عبد الله الحجام، سيدي رشيد، سيدي امحمد بن قاسم… تحضر أسماء نسائية مثل لالة يطو، لالة يدونة، لالة مباركة… تحضر كلمات أمازيغية مثل العربية في تخليد ذاكرة الأحياء والدروب والفضاءات: درب امجوط، تازكة، اسراك..
ها هي المدينة تترجم الانصهار الهوياتي الذي ينتصر للاجتماع وليس للفرقة. وكأنها تبعث رسالة للعابثين بهوية الانتماء المشترك للإنسانية”.
**** من هنا فإن “باب القصبة” نص روائي مختصر كثيف، يطرح علينا إشكالات عدة بتعدد
إشكالات الثقافة وأسئلتها، هي الثقافة مع نفسها حين إعادة تشكيل حدّها من جديد، وهي الثقافة في قبضة مقترفيها، مثقفا وسياسيا. فالمثقف منه الحر ومنه المتزلف بحرفه، وهذا الأخير هو آلية للسياسي الذي يصنع منها مؤسساته التي تنفذ التوجه الثقافي العام، سواء الآني أو البعيد.  إنه تخطيط مركب تجتر تبعاته الثقافة المغربية والعربية عموما، بدءا ببداية استقلال البلاد، ثم العودة إلى تاريخ
الاستعمار كمادة للكتابة الروائية. هكذا أصبح المثقف الحر والمناضل الحق في المجتمع يعانى وما زال.. حتى أضحت الثقافة بمعناها العام تستوعب نوعا من التذمر والغضب في انتظار ريح عاتية تسائل بعمق التوجهات السياسية والاجتماعية والتاريخية التي تعطي لسؤال الثقافة معنى جديدا،  بعيدا عن المحافل والبهرجات الساقطة باسم الثقافة.
فالرواية المغربية من منطلق تاريخها، لم تتخلص من جعل التاريخ مركبا للسؤال الوجودي، الذي يشترك في صناعته الزمن والمكان باعتبارهما حاضنين أساسين للأحداث والصراعات. وحين نعرف أن مرحلة الرواية المغربية هي مرحلة ما بعد الاستقلال بامتياز، تكون الرواية بحثا عن وعائها التاريخي، تعيد تركيبه بالكشف عنه خارج التاريخ الرسمي السياسي. فيغدو التوجه الروائي في الكتابة الروائية المغربية مغرما بالتاريخ، حتى اقترن اسم الرواية بالتاريخ من حيث هي مواكبة لتفاعل الأحداث ضمن شروط سردية وانتماءات للأدب.
إن الروائي حسن إمامي منذ روايته الأولى ” قرية ابن السيد”، ظل مخلصا للنبش في تاريخ مدينة مولاي إدريس زرهون. بحيث توالت رواياته تجميعا لأفضية وشخوص وأحداث عرفتها المدينة، حتى أن المتلقي لرواياته يمكن أن يستعيد الفضاء بتحولاته عبر مرحلة مهمة في تاريخ المغرب. ولعل رواية “باب القصبة” دليل على أن فضاءً مكانيا سيعرف انطلاق شرارة الأحداث من طرف الحاج إبراهيم الذي سيحضر في كل صفحات الرواية، مما يعني أن باب القصبة هي نقطة ضوء تتشظى لتملأ باقي الأمكنة. فكيف وظف الروائي حسن إمامي أفضية المكان.
1- المكان في الرواية وما دام العنوان يحيل مباشرة على المكان، فإن مفهوم المكان ليس مجرد فضاء محسوس بالقدر الذي يحمل روحا، ما دام يحرك في الإنسان سلوكاته. وهذا يعني أن بنية المكان في الرواية بالإضافة إلى ما يمكن أن يحمله من جماليات فهو يحاور الحالَّ فيه، بل يؤطر علاقاته مع نفسه ومع محيطه، سواء بشكل مباشر أو على سبيل المونولوجات والتذكر. المكان إذن هو حياة مبثوثة في ثناياه وتفاصيله. وقد أعطى غاستون باشلار تصورا للمكان بقوله: “إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا مباليا، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز، إننا ننجذب نحوه”1 لذلك نجد الروائي حسن إمامي من خلال وعيه بأهمية المكان، يجند كل الأسماء لتأثيث فضاء روايته، وكأن المكان ليس سوى تعلة للبوح لما يعتمل في الذات الثقافية التي خبرت أحابيل الإنسان المستعمِر والمستعمَر على حد سواء. فمن علاقة المستعمِر بسكان المدينة وبالخونة تشكل التاريخ المغربي، وترسخت آلية الاستعمار. وهو ما سيحاول الكاتب الكشف عنه في الشق الثاني من الرواية، مع ظهور حركة المقاومة من طرف رجال ونساء مدينة المولى إدريس زرهون، وسيكون ” باب القصبة ” هو القلعة التي ستمنح للبعد النضاليِّ شرارَتَه. فالرواية تعتبر كشفا لحقيقة المستعمِر، بما يعني أن الكاتب قد جعل الأمكنة تنطق بفهم جيد من خلال الطبقات الفقيرة ويكون علال من الشخصيات التي تنزع نحو الانفتاح بمشاركة الفلاحين الفقراء رحلتهم، على عكس موقف الملاكين الكبار الذين يتربصون الاستفادة دون أن يبرحوا مكانهم، وهو نوع من ملازمة المكان الثقافي الضيق لديهم والذي تأسس على فكرة الخوف والخيانة. وهم بذلك يحققون أهداف المستعمِرٍ المتمثلة في تضييق المعرفة والعلم، مقابل توسيع الاستفادة من الحقول الفلاحية وأشجار الزيتون التي يعول عليها سكان المدينة.
إن حسن إمامي كاتب الرواية سعى إلى الكشف عن الأنساق المضمرة في ثقافة المستعمِر، بل سيقدم وجها جديدا من خلال قراءة العلاقات التي تنسجها الأمكنة، وخلق قراءة بديلة تعيد تركيب نسقها ضمن الفضاء العام، سيجعل من العلاقة بين المستعمِرِ والمستعمَرِ إطاراً للكشف عن تداخل ثقافي، ليس من حيث ما سعت إليه الكتابات الاستشراقية التي تعتبر ثقافة الشرق دونية، وإنما لإعطاء شخوص الرواية قدرا من الفهم الذي سيشكل المقاومة والاحتلال. فالحاج إبراهيم وعلال والإمام والطلبة والبسطاء من الحرفيين والتجار قد أظهروا ما يكفي لتعرية واقع المستعمِر، بل إن علاقة زرهون بمؤسسة القرويين أسهمت في توسيع الإدراك والفهم، وهذا سيضعف حسب صاحب ” الثقافة والإمبريالية ” إدوارد سعيد ، مفهوم الهجنة الثقافية في رأي نقاد ما بعد الكولونيالية الذين نعتوا الإنسان الشرقي بصفات الجهل والتخلف وغيرهما من الصفات.
فإذا كان السرد هو رحلة في الزمان، فإن السرد هو رحلة في المكان بتعبير عبد الفتاح كليطو. و”باب القصبة” كرواية للمكان، جعلت من سرد الأحداث تأثيثا، عكس ما يعتبر أن وصف المكان هو تأثيث للسرد. وهي عملية تجعلنا نقر بأن البحث في المكان لا يخلو من سفر عبر تجلياته العمرانية التي سيهتم بها الحاج إبراهيم، مثلا في بيته ورياضه وبساتينه، وما تحتضنه من جلسات النزهة والتفكه مع زوجتيه وأبنائه وزواره، ناهيك عن أمكنة أخرى كالمسجد ودكان التجارة والحلاقة والأقواس وغيرها كينابيع المياه التي تتمتع بها مدينة زرهون. إنها أمكنة تحضر عبر جسد الرواية كلها، وكأن الرواية سجل لعمران المدينة، وما أصابه من تحولات، سواء على مستوى الحضور الواقعي المجسد، أو على مستوى المتخيل السردي. كل ذلك سيمنح المكان فسحة الحديث والكلام في موضوعات عامة وأشمل كالاستعمار والمقاومة والخيانة والسلطة والأمانة والدين والتصوف والفن وغيرها من الموضوعات التي تحتفظ بها ذاكرة المكان.
ومن الأمكنة الحاضنة، نجد الخلوة التي ترحل بالحاج إبراهيم في معارج التعبد والتأمل، يقول الراوي: “حينما اختار الحاج إبراهيم بناء منتزهه وسقيفته قبالة غروب الشمس فوق ربوة ومنحدر باب القصبة الغربي، فتح لحظات الشجن وطرب الروح. لكن ذلك الطرب الحسي الملون ببنفسجية أزهار ناعمة ومسكرة للبصر قد لا يكون كافيا. ذلك أن لحظات الخلود للذات ومناجاة الروح المسافرة يوميا، عروجا إلى السماء، تحتاج منه لكي يجعل الخلوة التعبدية كل حين. شأنه شأن مسلمي
مجتمعه “2. وهذا يعني أن سرد الأمكنة في هذا المقطع
(فتح لحظات الشجن وطرب الروح) عند الحاج إبراهيم.
فالمكان إذن هو الحامل لتلك القوة الكلامية، بل ما كان للكلام أن يكون لولاه، كباقي الأمكنة الأخرى الضيقة التي يتم فيها الأحاديث بسرية خوفا من البياعة والخونة.
من هذا المنطلق يتعدى المكان حدود المادة والجغرافيا، حتى ليمكننا نعت الرواية بسيرة الأمكنة. فكل مكان يحتوى على سره، كالذهن والحلم والسرير والمناجاة والحوارات التي تبثها أوقات التخشع في الصلاة أو التأمل في المغيب وغيرها.. فهي مبعث لنسج أحداث الرواية، بل كل مكان يأوي حكاية كحلقة تصويرية لحالة من الحالات. إن علاقة التأثير والتأثر بين المكان والإنسان تتوثق من خلال الدور الذي يلعبه كل واحد في الآخر، ومن الوهم الاعتقاد بالفصل بينهما. فكثيرا ما نعتقد بأن المكان هو تلك الخلفية التي تتحرك فيها الأحداث، ومنفصلا عنها. وحقيقة العمل الروائي ومنه رواية “باب القصبة” جعلت للأمكنة مهمة رئيسة حين أعطت للأحداث تنظيمها الدرامي، سواء أكان المكان مشهدا وصفيا أو إطارا لحركية الشخوص. فالروائي حسن إمامي يجعل سارده أو بطل روايته لصيقا بالمكان. فإذا كانت مدينة زرهون بتعدد أمكنتها التي تحضر في الرواية، فليس يعني أن الأحداث قد خرجت عن سيطرة الضيق المكاني، ذلك أن الأمكنة في حضورها الكثيف تستحضر الجلسات المتنوعة في علمها وبسطها وتذكرها، فغالبا ما تتوقف على حين غرة بآذان للصلاة أو أذن متربصة أو مغيب. وهو ما يعني أن أمكنة الانفتاح تحمل معها توجسها وخوفها، سواء الخوف من عدم تلبية السلطان في الرباط لمطالب الفلاحين، ساعة أعلن المستعمِر احتكار غلال الزيتون، أو دخول الحاج إبراهيم البيت الفخم للسيد عبد الجواد بمكناس وما خلفه الحديث بينهما عن إنجاز خط سكك الحديد.
جزء من دراسة طويلة

هوامش

1- غاستون باشلار: جماليات المكان، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ترجمة غالب هلسا، ط 6، بيروت ص 312 – 2- باب القصبة ص59

> بقلم: إدريس زايدي

Related posts

Top