على من تقع مسؤولية ترسيخ عادة القراءة؟

 فعل يؤسس الكينونة:

القراءة فعلٌ تأسيسي للكينونة، و قمةٌ من قِمَمِ الوجود؛ منها نُطِلُّ على الذات و تجلياتها، وعلى الكون ومغاليق أسراره. ومن ثمة فإن الكينونة في أشمل أبعاده وأعمق توهجاتها لا تتحقق إلا باستمرار هذا الفعل.

    الكلمة التي قبلتنا بها السماء:

فالسماء لم تعانق أمة من الأمم كما عانقت هذه الأمة العربية الإسلامية، وقد كان أول عناق لها معها عن طريق كلمة “اقرأ”… و لكننا مع ثورة الإِنْفُومِيدْيَا صِرْنَا نلاحظ عزوفا فاضحا عن القراءة، وتخليا عن الكلمة التي قَبَّلَتْنَا بها السماء في حميمية تتجاوز حدود العشق والوَلَهِ إلى تخوم الحلول المعرفي.
فما السر إذن في هذا الانصراف عن فعل يؤسس الكينونة؟ ومن الذي تقع المسؤولية على عاتقه؟ أهو العصر التقني بمباهج آلاته و فيضان معلوماته؛ الذي يكاد يشعرنا بأننا كائنات أتعبها العقل إلى حد الفظاعة، وأنها ينبغي أن تستريح منه وأن تترك مهمة التفكير إلى الخَدَمِ الإلكترونيين؟ 
تلك أسئلة يحْمِلُ جانب منها عمقا ذابحا، وجانِبٌ آخر أوهاماً وأغلوطات تتلبس لبوس الحقيقة والصواب. ونحن هنا لا نروم من وراء طرحها إعطاء إجابة بقدر ما نروم استكناهَ المحجوب، و إثارةَ شهوة السؤال في ذاكرة مثخنة بجراح الحيرة.

    اللبنة الأولى في بناء المجتمع:

إننا عن طريق القراءة نؤسس لوقت جديد، ومرحلة جديدة. والتأسيس لا يمكن أن يتم إلا على أرض صلبة، حرة ومتماسكة، و بِلَبِنَاتٍ مجبولة من مادة المعرفة والوعي المبكر والتهذيب العقلي والروحي.. إنها لَبِنَاتٌ فريدة ومتميزة يتطلب الحصول عليها عمرا كاملا، وجهدًا نادرًا، إن نحن أردنا بناء عصر عربي جديد، فوجودها من صميم وجوده، وانعدامها من صميم انعدامه.
ولذا يتحتم علينا أن نحرص على إغواء و إغراء الأطفال -اللذين هم اللبنات الأولى في بناء المجتمع العربي – بفعل القراءة لكي لا نخون مستقبلنا وضمائرنا، و نقتل ماضينا، فقد قال الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف ذات مرة :” إن من يطلق الرصاص على ماضيه سوف يطلق عليه المستقبلُ لا محالة مدافعه”.
والطفل لا ينشأ إلا في الأسرة، وهي الأرض التي قلنا عنها إنها يجب أن تكون صلبة، حرة متماسكة، مُشْبَعَة بماء المعرفة المتجدد، لكي يتأتى تأسيس وقت جديد  ومرحلة جديدة. فهل أسرتنا العربية بهذا الشكل؟ وهل تقوم بدورها في ترسيخ عادة القراءة في الطفل إلى جانب المدرسة؟ أم أن إكراهات الواقع، و انجراحات الحياة، تحولان دون ذلك؟

    الانصراف عن عُملة العقل الصعبة:

لا يَخْفَى أن عادة القراءة في الوطن العربي قد انخفض إلى درجة مرعبة، وأن عُمْلَة َالعقل الصعبة -التي هي الكتاب-  أضحت غير مرغوب فيها، وأن ما يُسْحَبُ من الكتاب العربي و يُوَزَّعُ منه مخجل جدا بالمقارنة مع دول أخرى متقدمة. فهل نحن أمة غير قارئة؟ إن الأمية صفةٌ من صفات النبوة.. ولكنها ليست صفة من صفات الرسالة، ولا مبدأ من مبادئها. فالرسالة توحيدٌ ووعي بالوجود وما وراء الوجود،  وتحفيز إلى اكتشاف أسرار الخالق في الخلق و كونٌ مفتوح على السمع والبصر والفؤاد والبصيرة، وبخاصة في هذا الزمن الذي تصغر فيه حدود العالم يوما بعد يوم، وتتضاءل الفواصل بين شعوبه، بفضل اختصاراتِ التكنولوجيا، وتسارع الفكر البشري صَوْبَ مزيد من التقدم والتطور والتجديد والتحديث.

ردار البراءة…ومسؤولية غرس عادة القراءة فيه:

و من أجل ذلك و له و معه، تقع على الأسرة مسؤوليةُ غَرْسِ عادة القراءة وتجذيرِ فعلها في وجدان الطفل وسلوكه وعقله. وتلك ليست بالمهمة السهلة، وبالخصوص في الخريطة العربية التي تبلغ نسبة الأمية فيها 60% حسب إحصاءات اليونسكو.

فما الطريق إذن؟ 

نحن نعلم أن الطفل هو رَادَارُ البراءة الحرُّ؛ الذي يلتقط كل ما يجري في محيطه بدقة متناهية وعالية، ويُكَيِّفُهُ ويتكيف معه. يتعود على ما عودناه عليه إِنْ رَغَباً أو رَهَباً.. ولكنه ما ينفك ينقده، ويغربله، ويحلله. وحين يحين الأوانُ يقبله أو يرفضه، يُنَمِّيهِ أو يتمرد عليه.
ومن هنا نرى أن شَحْنَ الأطفال بميولاتنا ونوازعنا واشتهاءاتنا ورغباتنا،   ومكبوتاتنا وطموحاتنا، لا يَعَدُو أَنْ يكون ضرباً من القسر مرفوضاً من لدن علم النفس التربوي و السلوكي. والأَوْلَى أن نترك لهم أبواب الحرية مفتوحة ليختاروا ما يودون، وأن لا تتجاوز مهمتنا دَوْرَ القدوة الحسنة الصامتة، لا الآمرة و الناصحة.
فالطفل الذي يشاهد أبويه يدمنان على القراءة كما يدمنان على الأكل والشرب والنظافة، وعلى العمل والعبادة والرياضة، وعلى مراجعة الطبيب عند كل وعكة صحية، وعلى احترام البيئة وتشريعات المجتمع المنظمة للحياة – رغم ضغوطات الواقع و مغريات التقنية و مباهجها – لا بد أن يَحْذُوَ حذوهما.
والذي يبصرهما يتبضعان وجبات للعقل والروح كما يتبضعان وجبات للمعدة وألبسَةً للجسد ومقتنيات للمتعة والترفيه، ويضعان كلا في محله، و يتعهدانه بنوع من الاهتمام والرعاية والذوق والعشق، فإنه لا محالة سيقتدي بهما.
فإذا كانت للوالدين مكتبة في المنزل يبذلان لها من المحبة و الوقت و الشغف ما يبذلانه لأمور الحياة الأخرى،و يلجآن إليها للاستشارة في حل المشكلات و الاستشكالات التي تعترضهما فإن الطفل دون ريب ستدفعه غريزة التميز إلى تكوين مكتبة خاصة به في البيت، وإلى تعهدها والتناجي معها، وإلى خلق أكوان خاصة به في محرابها.

ثلاث سلبيات في الأدب المكتوب للأطفال:

ولكن ينبغي قبل كل شيء؛ الانتباه إلى أن كل ما يكتب إلى الأطفال، ويوجه إليهم، ليس في معظمه صالحا للأطفال، ولا ملبيا لحاجاتهم النفسية والوجدانية والعقلية والعاطفية والخيالية، ولا لِتَفَتحَاتِهِمْ اللغوية. فهو – في كثير من نماذجه يتسم بالسلبيات التالية-

1- إنه مكتوب بعقلية مَنْ يعتقد أنه يخاطب نِدّاً له، لا طفلا له عوالمه الخاصة،  وعقليته المتميزة عن عقلية الكبار تصوراً و أحلاماً و خيالا، و بساطة و صفاء.
2- إنه كذلك إبداع تطغى على بعضه النمطية و الوعظ و الإرشاد و النصيحة و التهويل و التخويف، و تُسَطَّحُ فيه الأشياء و تُسَخَّفُ. ولذلك يقاطعه الأطفال،   و يتحولون عنه رغم بريق صوره، و نصاعة إخراجه.
3- إن بعضاً منه كذلك يتعالم على الأطفال أو يُرَدِّدُ الأطروحة التقليدية في التبسط المُخل بدعوى أن ” هذا فوق مدارك الأطفال ” أو ” هذا لا يصلح للأطفال ” أو ” هذا لا يتناسب مع قدرات الأطفال و مداركهم الذهنية”.
إن التغذية العقلية هي حق للصغار كما هي حق للكبار، و نجدنا هنا لا نستطيع إلا أن نتبنى بإصرار مقولة الفيلسوف المغربي المنتقل إلى عفو الله الدكتور محمد عزيز الحبابي؛ و التي هذا نصها:” حرام علينا أن نغذي جسومنا و نترك عقولنا بدون تغذية”وأن نحاول تصريف مضمونها العميق ونحن نكتب إلى الأطفال ونجذبهم إلى قراءة ما كتب لهم ولكن لنحذر الفخ.
 فالكتابة للأطفال مسؤولية
والكتابة للأطفال مغامرة
والكتابة للأطفال اصطياد للمستقبل المحلوم به
و لذلك ينبغي أن يكون لها دَوْرٌ وظيفي بالدرجة الأُولَى، و أن تَتَغَيَّا سبع غايات؛ هي:

1- تنشيطُ خيال الطفل
2- إبرازُ المخزون اللغوي لديه
3- تقويةُ صِلَتِهِ بالأشياء المحيطة به
4- كشفُ مواطن الجمال في الحياة، وفي الطبيعة والوجود
5- إمدادهُ بشحنة من الشجاعة والثقة بالنفس
6- إذكاءُ روح الحرية والكرامة في وجدانه
7- تحريرُ عقله، وإثارة أفكاره، وتقوية روحه، وبَثُّ القِيَمِ العليا فيه.
غير أن أغلب من كتبوا إلى الأطفال قد حَادُواْ عن هذه الغايات أو اُزْوَرُّواْ عن بعضها، فصارت كتابتهم نتيجة لهذا مجردَ وَعْظٍ وإرشاد مُمِلَّيْنِ إلى حدِّ السبات بالنسبة للأطفال. فهؤلاء لا تسعدهم الكتابات التي تكتفي بالوصف والتقرير، وإنما تسعدهم الكتابة التي ترشح بالصدق العميق و تتماهى مع أُخْيُولاَتِهِمْ، و تلبي جوع أسئلتهم. أليست أسئلة الأطفال هي أكثر الأسئلة إحراجا لنا؟ و أشدها عُمقا فكريا و فلسفيا ودينيا و وُجوديا وجماليا؟ فلم نحتقرهم إذَنْ، ونستهين بهم، و نطفئ فيهم جذوة الإبداع و جرأة السؤال بكتابات متدنية عن عوالمهم؟
لا يكتب للأطفال إلا من يعيش بداخله طفل بريء يعشق المغامرة، و يأنف من التكرار و التصريح، والإعلان المباشر، ومن النصح والإرشاد المتسلطين،ومن التشبيهات العقيمة التي لا جذور لها في عالم الأطفال أنفسهم.
نحن في حاجة إلى كتابة للأطفال تقيهم قسوة الجدية المكفهرة، و الكبت المدمر.. كتابة تنفتح على الدعابة المحببة والمرح المبدع، حتى ينضجوا في مناخ نقي من تلوث الإكراه و القولبة. وبذلك نحقق الإنسانَ المتوازن بثقافة أنضج، و رؤية أصفى،  و ذكاء خلاق.. الإنسانَ الذي يدرك أن الثقافة – بتعبير الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة – ” هي حجر الزاوية في التنمية المنشودة، و هي ما يحقق التوازن بين الانتماء الحضاري و روح العصر “. إذن لا حضارة بدون ثقافة، و لا ثقافة بدون أفق حضاري، فَهُمَا جناحان لا يتحقق الطيران في سماء الحياة المعاصرة إلا بهما، ولا يكتمل التوازن إلا بوجودهما.

Related posts

Top