في البحث عن الثقافة كميزة مميزة للحياة

(فضاء مدينة خريبكة نموذجا)

تشكل الثقافة، مدخلا جوهريا لتحقيق أي تنمية بشرية، لاسيما وأننا نعيش في عصر طغت فيه القيم المادية والمالية، مما يجعل هوية الإنسان معرضة للمحو، إن لم يصنها ويحتمي بالالتصاق بمكون الثقافة في بعدها الشمولي، مما يجعلنا هنا، أمام إشكالية جوهرية ونوعية، أي أن الثقافة ليست مجرد أنشطة موازية، أو ثانوية، بل هي شرط من شروط الحياة، إن لم نقل إنها هي والأوكسيجين لهما نفس الدور في الحياة.
طبعا، لا داعي أيضا لكي نذكر، أن الثقافة اليوم، هي مصدر تنموي/اقتصادي/اجتماعي، الخ، بل، ووفق ما تحصل عليه العديد من الدول المتقدمة، من خلال البعد الصناعي/الاقتصادي للثقافة، من الممكن الحسم وبصفة نهائية، أنها اليوم شرط من شروط أي نهضة مبتغاة في أي زاوية من زوايا هذا العالم، لاسيما، بالنسبة للدول الباحثة عن موقع تحت شمس عالمنا هذا.
ما تم قوله وبلغة شاملة هنا، من الممكن تعميمه على مدننا المغربية وكافة أنحاء هذا الوطن العزيز من المحروسة طنجة وإلى أقصى نقطة من خريطة المغرب، مدينة لكويرة بالجنوب الصحراوي المغربي. بمعنى، أن من شروط تحقق الحياة في كل جوانبها الفلسفية والروحية والمادية والمالية، وتحقيق توازنات دالة، الخ، فلابد من جعل الثقافة مدخلا حقيقيا لتنمية حقيقية مستثمرة في الإنسان كإنسان خلقه الله وجعل من غايات خلقه له، أن يكون سعيدا منتشيا بالجمال، لاسيما والله الخالق، جميل ومحب للجمال.
إذن، ووفق ما سبق، والذي من الممكن أن نتفق حوله أو ربما لا نتفق، لكن، في نظري، ومن خلال تجربة تقترب من الأربعين سنة في هذا المجال، أومن أشد الإيمان، أن المقاربة الثقافية لكل ما نسعى إليه في هذا الوطن، هي ضرورية، لجعل الإنسان لا يبلع من لدن كماشة التطرف والعنف والتكفير والتضبيع، بل، الثقافة ومن منافعها، جعل المواطن عاشقا لتربته مؤمنا بالحوار غير مالك لأي شكل من أشكال الاعتداء على الجماد وبالأحرى الاعتداء على الإنسان والجمال بمفهومه العام، بل، إن الاستثمار في الثقافة هو اختيار استراتيجي، يدل على كون المجتمع بكافة مكوناته الإدارية والسياسية والروحية والمجتمعية المدنية، الخ، مؤمن بزمن المستقبل كزمن لتحقيق الغايات والمرامي المنشودة في كافة الوثائق الرسمية للوطن والمحددة لطبيعة من نحن؟ وإلى أين نسير؟ ونشتغل من أجل ماذا؟ وكيف؟ الخ.
خريبكة أفق ثقافي مميز ممكن؟:
مسح طوبوغرافي ثقافي للمدينة التي سكنتها وسكنتني ولازلت، ولمدة ثلاث وثلاثين سنة، من الممكن الحسم في كونها، فضاء خصبا ومعروفا بوفرة الموارد البشرية الثقافية النوعية وفي مجالات عديدة، (السينما والمسرح والشعر والموسيقى والتشكيل…)، بل، وكما نقول عنها، هي مدينة الرما والعيطة والسينما والفوسفاط ولوصيكا والهجرة (بنوعيها)، والنبوغ العلمي والمعرفي..
وهذا ما يتجسد من خلال العديد من الأسماء المميزة والمنتمية لهذه المدينة، والتي تعيش فيها الآن أو خارجها (داخل الوطن أو خارجها).
فهل من الممكن، أن تكون الثقافة قاطرة للتنمية، ومن تم جعلها أفقا للاستثمار المولد أيضا لفرص الشغل، كشغل مخلل ل”قدسية” الوظيفة، وهي “قدسية” لم تنجح منظومتنا التربوية الوطنية ككل، في جعلنا نؤمن بروح المغامرة/المبادرة المربحة والقابضة على “دواير الزمان”، عوض التعلم من أجل البحث عن “وظيفة آمنة” محدودة، دالة على ذلك الخوف الذي يسكن أحشاءنا، في حين أن زمننا هذا وشبابنا الحالي من الممكن أن يتشبع بثقافة البحث عن الرزق خارج “قدسية” الوظيفة، لاسيما وإمكانية تملك فكرة دقيقة ما، قد تجعله يحقق العديد من بقع ضوء مفيدة ومثمرة جدا.
حديثنا هذا قد يجرنا إلى النبش في إمكانية جعل الثقافة بشكل عام، والفن بشكل خاص، مدخلا ليس فقط لكي نلقح به أنفسنا ضد العنف ولغة التطرف والتكفير.. أو مجرد فلسفة عامة نحقق بها توازننا النفسي والوجودي في هذه العولمة القوية والمرعبة. بل، هو أيضا إن نحن خلخلنا منظومتنا التربوية والتي رسخت لدينا، تمثلات، تتعلق بثنائية التعلم والشغل، لاسيما الشغل المرهون بالوظيفة الإدارية (المقججة والمكتب)، دون أن تشبعنا بعمق روح البحث والمبادرة والمغامرة الهادفة إلى أجرأة فكرة ما، نعشقها في حياتنا، ومن تم ضرورة تحويلها إلى فعل ملموس، نحقق به ثنائية العيش والحياة ووشم وجودنا في هذا العالم المتقلب نحو لغة المبادرات المربحة والباحثة عن ترسيخ الذات بفكرة ما دالة ومولدة للعديد من الدلالات.
قد تتساءل عزيزتي القارئة/عزيزي القارئ، عن العلاقة الرابطة بين خريبكة والثقافة وهذا الحفر “التأملي” في بعض قضايا العصر الذي نعيشه اليوم؟.
بكل تأكيد، طرحنا هنا مؤمن بضرورة خلخلة التمثلات المرسخة حول الثقافة ككل والفن بشكل خاص، بمعنى أن الثقافة هي مجرد نشاط محدود في الزمكان من خلال لقاء ما أو مهرجان سينمائي ما أو لقاء شعري أو مسرحي أو تشكيلي أو روائي.. بل، الثقافة اليوم صمام أمان ضد كل أشكال التقهقر إلى الوراء، إن لم نقل إنها هي حقيقة طبيعة المجتمع برمته.
وفق ما سبق من الممكن القول، إن هذه المدينة التي يسكنها غبار باطني مولد لثروة مالية مفيدة للبلاد والعباد، فهي أيضا تنهض على ثروة بشرية محبة للثقافة والفنون، وقادرة على أن تجعل منها ميزة مميزة لها، لاسيما والمادة الخام متوفرة في طبيعة الكفاءات العديدة والنوعية التي بها سوقت صورة المدينة داخل وخارج أرض الوطن.
توفرها اليوم على بنية ثقافية بشرية، من الممكن أن يساهم في لفت انتباهنا جميعا إلى أهمية وقيمة برمجة بنية تحتية مكانية ولوجيستيكية ومادية متعددة تضاف إلى ما هو موجود اليوم (مركب ثقافي وخزانتان وسائطيتان واحدة تابعة للمجمع الشريف للفوسفاط والأخرى للجماعة الحضرية وبعض المركبات التربوية..). إذ، من الممكن أن تكون هذه البنيات التحتية الثقافية، نافعة ومفيدة ومحركة ومربية ومحفزة ومرسخة لمواصلة سير عشق الناس وإيمانهم بكون الثقافة هي أمل جميل ومحقق للعديد من أشكال البوح الراقي الذي من الصعب أن نعيش دونه.
السينما، قاطرة حقيقية لجر بقية العربات الثقافية من مسرح وتشكيل وموسيقى.. لجعلها توازي عربات الفوسفاط، ذات الإيقاعات المميزة لزمن مدينة تعشق الرما والعيطة والكرة والسينما، بشكل ملموس، مما يفرض علينا طرح سؤال تعلم مهن السينما في منظومات التعليم المهني والجامعي والتقني الموجود بالمدينة، باعتباره اليوم مجالا خصبا ومشبعا للفكر والروح والجيب، إن نحن ولجناه بلغة العلم والتكوين والعشق، وليس، مجرد أنشطة ثقافية جزئية أو موازية بمناسبة من المناسبات.
يبدو، أن الفكرة التي أرومها من خلال هذه المقالة المكثفة، واضحة وأتمنى أن تكون مفيدة، وإن كان غير هذا، فقد تصلح لزمن آت، قد يكون الثرى فعل فعله فينا، لكن طرح الأفكار للمناقشة أهم من جعلها حاضرة فقط في مدرجاتنا الجامعية أو غيرها من الفضاءات العالمة.

بقلم: الحبيب الناصري

Related posts

Top