قراءة في كتاب “حضرة البوح”

“مسرح الأطروحة هو مسرح يضع لنفسه هدفًا الدفاعَ عن الأفكار، والدفاعَ عن الأطروحات”.
پول هيرڤيو

“هو تعليميٌّ كلُّ مسرح يهدف إلى تثقيف جمهوره، بدعوته إلى التفكير في مشكلة، أو مقارنة حالة، أو تبني موقف أخلاقيّ أو سياسي”.
باتريس باڤيس

“نُبْلُ المسرح هو أن يجعلَ المتفرجَ ينسى الحياة الواقعية، ويَسمحُ له بالهروب من كل ما يحيط به، حتى لا يكون معاصرا له”.
غاستون باتي

رسالة المسرح… وجهات نظر…

بين تحديد بول هيرڤيو Paul Hervieu (1915- 1857) لمسرح الأطروحةThéâtre à thèse (Pierron : 544) ؛ وتعريف باتريس باڤيس للمسرح التعليميThéâtre didactique (Pavis : 407)، من جهة، وبين وجهة نظر غاستون باتي Gaston Baty حول الفن المسرحي، عموما، (Pierron : 641)، من جهة ثانية، نشق لنا مسلكا لقراءة “حضرة البوح” في سياق حضاري يوجهنا حتما نحو إعادة طرح السؤال حول محل المسرح من الإعراب في هذه المرحلة المتوترة من تاريخ البشرية.
المسرح إحساس مرهف بتفاصيل الحياة… من خبر صغير في صحيفة يومية كتب جان جينيه رائعته “الخادمات”؛ وعن مجازر داعش في سوريا أبدع غنام صابر غنام “ليلك ضحى”؛ ومن جريمة ذبح السائحتين النرويجيتين “لويزا” و”مارين” بضواحي مراكش سنة 2019؛ نقش الرحمن بن زيدان نصه الدرامي “حضرة البوح” على صخرة الألم الحضاري. وقد صدر الكتاب عن مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء، سنة 2020.

المحيط النصي وخرق أفق الانتظار

يَسِمُ عبد الرحمن بن زيدان عتبة نصه الدرامي الممتدة على عشرين صفحة، بــــــ “مسرحٌ يعلنُ موقفه من عالم مرهب.” (بن زيدان: 5). وبالإنصات إلى مَقُولها، نجدها تأخذ شكل “خطبة أو مونولوغ أو سرد طويل كما في مآسي القرنين السابع والثامن عشر؛ وهذا الاقتراح تعليمي في كثير من الأحيان.” (Pierron : 557)؛ فقد تناول فيها المبدع حيثيات كتابة النص بوصفها مقاوَمة للإرهاب، وشرح فيها دواعي اختيار شخوصه، وأضاء تقنيات بناء حبكته. والحاصل أن هذه العتبة أخمدت، إلى حد ما، أفق انتظار القارئ، وسلطت نثريتُها كشَّافاتِها على شعرية النص الدرامي، فمحت جاذبيتَه التي لا يصونها سوى الغموض وغياب التفسير، واستعصاؤه على الفهم والتأويل بما يقتضي قراءة أولى، وثانية، وثالثة لفك مستغلقاته، وتنضيده بين الأعمال المسرحية المناوئة للإرهاب عبر التاريخ.
وكأنه، بهذه العتبة التي تشتغل كمحيط نصِّي، يتحاشى الحسم في قدرة المسرح على مقاومة الإرهاب: اللهم فاشهد، إني قد بلَّغت إن الكتابة الدرامية حاضرة لتؤكد وجهة نظرها حول ورم العصر: الإرهاب بجميع أشكاله، وألوانه، وتياراته، وجنسياته، ولغاته، ومرجعياته… لكن هل تعِدُنا هذه الكتابة بهزم الإرهاب قطعا، وفَلِّ عزمه فلاًّ فلا يقوى على خلخلة الأمن الإنساني، أم إنها محض رد فعل عن حدث رهيب هز المغاربة والعالم جراء ذبح لويزا ومارين من لدن جماعة إرهابية تكفيرية؟
هو سؤال يبقى مطروحا حتى نهاية قراءتنا “حضرة البوح”، قراءة تلتمس أجوبة لوضع بشري منذور للمآسي كل لحظة وحين.

حرف يبارز سيفا في تراجيديا عالقة

يمتلك الكاتب منظورا خاصا لمطارحة ظاهرة الإرهاب التي لا يمكن لأي مهتم بقضايا الفن أن يسقطها من حسبانه وهو يستحضر علاقة الإبداع بالواقع، وذلك لسبب رئيس يتعلق بتحريم الفنون ومحاربتها تحت مسمى الدين الصحيح، والعقيدة السويَّة. ويبدو أن قصدية إبداع “حضرة البوح” تبلورت في سياق “كتابة تاريخ المرحلة المحكومة بالعولمة، وتتبع أفكار من يصنع الإرهاب، والسياسة الجديدة في العالم.” (نفسه: 22).
فهل يقوى المسرح عربيا على مواجهة تنِّين الإرهاب؟ هل يستطيع فن نبيل -لم تترسخ بعد ثقافته على خرائطنا- في اجتثاث فكر ظلامي وجد له موئلا في الهوية الدينية العريقة للمحسوبين على الإسلام؟
المسرح عربيا ليس ثابتا في تقاليد الشعب، وليس إجراء معتبرا في المعيش اليومي للناس؛ ولا يمكن أن تَحْسِرَ رؤيتَنا ورؤيانا شجرةُ أهل المسرح، كتابا ونقادا وفنانين، عن غابة أعداء المسرح وأعداء الفن عموما؛ لأن المسرح الجاد عدو الظلم، وعدو الشر، وعدو القبح، وما أكثر الأنساق الظالمة التي يزعج المسرحُ وجودَها، ويربك حساباتها… فلا عجب إذن ألا نكون متفائلين بدرجة حالمة توهمنا بأن المسرح، بوضعه هذا، يبشر بخلاص خرائطنا من رعب الإرهاب، فهل يمكننا المراهنة عليه للتصدي لجائحة العنف المبرمَج، والمجازر الوحشية المقترفة باسم الدين والإيمان ضدا عن الإلحاد والكفر، كما يتعالى في شعارات أمرائه، هنا وهناك.
تضعنا “حضرة البوح” على الخارطة العالمية المزروعة بألغام العنف، حيث مهندسو الإرهاب يَقِظُون، لا يطرف لهم جفن، يخططون لنسف الأمن الإنساني مقابل مصالح مادية، وأنانيات مريضة فرَّختها الرأسمالية الشرسة في النفوس والأفكار، مستغلة لأجل ذلك مجموع الوسائل التي تُسَوِّغ الغايات. لا أحد من عملاء الإرهاب بريء من مآسي السلب، والنهب، والاغتصاب، والتفجيرات، والمجازر، مهما اختلفت أجناسهم، وأعراقهم، ولغاتهم، وأديانهم، وإديولوجياتهم، ورُتَبُهم. إنهم رهط واحد جاء لإرعاب البشرية.

عن السياسة والتدليك وكشف المكبوت

نشتم من شخصية “قزح” في علاقته بالمدلِّكة “العروف”، التي هي في واقع الأمر محللة نفسانية، فضائح من مشاهد سياسية تزكم رائحتها الأخلاق هنا وهناك. فهل نُسَلِّم مع المفكر محمد عابد “أن السياسة لعبة قذِرة.”، وذلك انطلاقا من الصورة التي يقدمها “قزح” لنشاطه السياسي المرتكز على استغلال الدين في تزحلق مستمر بين مُظْهَرٍ شريف ومُضمَر دنيء.
حين يتعرى السياسي في الغرفة المظلمة، يذوب، تدليكا بعد آخر، كلس قناع التقوى والرصانة الذي يَرُصَّهُ على وجهه أمام الشعب، تحت قباب البرلمانات، وحول الموائد المستديرة لاجتماعات الحكومة، وعلى مناصات المهرجانات الخطابية التي يُرفع فيها الخطاب باسم الله والرسول: الموقف يقتضي الإقناع والحسم، لا سيما أمام الذين انتخبوه، والذين هم، في حساباته، قطيع أتباع يراهن عليهم لنشر فكره الظلامي، وترسيخ خطابه الهيمنيّ.
ومع ذوبان قناع الزيف والنفاق والخداع، تنكشف حقيقة “قزح”، وتقفز نزواته البهيمية إلى واجهة العلاقة العلاجية بينه وبين “العروف” بما يضعنا وجها لوجها أمام حقيقة هذا الرهط من تجار الدين المسيَّس، أو السياسة المتأسلمة. ولعل أسماء الشخوص: “داسِم” و”مَطْرَش” و”هَفاف” و”الأشباح”، وعلاقتها الأبوية أو الوَلائية بـــ “قزح” (نفسه: 25)، كل واحد من دائرة اختصاصه، تؤكد انتماءهم إلى دائرة الشر والهيمنة على العالم، وإرعاب شعوبه ضمانا لخدمة أهداف ذاتية رخيصة ومدمرة، في آن.
يوزع عبد الرحمن بن زيدان “حضرته” على اثني عشر بوحا تتفاوت من حيث نَفَسُها وعدد الشخوص المتحاورة فيها. وقد انتقى لكل بوح عنوانا، نضعها بين يدي القارئ، كما الآتي:
البوح الأول: من المكاشفة يبدأ الكلام. من ص 26 إلى ص 33؛
البوح الثاني: رسالة من مرسِل مجهول. من ص 34 إلى ص 36؛
البوح الثالث: الجُبَّة لا تصنع الإيمان. من ص 37 إلى ص 48؛
البوح الرابع: مع المصلحة كل شيء بأجر. من ص 49 إلى ص 55؛
البوح الخامس: في معنى الانتظار. من ص 56 إلى ص 62؛
البوح السادس: من يكون مع الحق يكون مع من؟. من ص 63 إلى ص 69؛
البوح السابع: صراحة تتكلم بكل الألوان. من ص 70 إلى ص 73؛
البوح الثامن: دروس في معنى وضع الأقنعة. من ص 74 إلى ص 81؛
البوح التاسع: حول ما جاء في فهم التنازل. من ص 82 إلى ص 88؛
البوح العاشر: باب ما جاء في تحقيق الأحلام. من ص 89 إلى ص 100؛
البوح الحادي عشر: من يملك العالم مع زمن الغضب؟ من ص 101 إلى ص 111؛
البوح الثاني عشر: لنمسك قلوبنا من أجل الحياة. من ص 112 إلى ص 118.
في زمن العولمة التراث خلفية للكتابة

تغوص كتابة “حضرة البوح” في سجلات لغوية ثَرَّة لتستخرج أبجديتها القادرة على تبليغ خطابات مسرح ينخرط بمسؤولية في محاولة فهم وتفسير عالم يزعزعه الإرهاب. هي لغة تسبح منسابة عبر تيارات الزمن الإنساني، باردة ودافئة، حلوة ومالحة. فلو ارتأينا الاشتغال عليها بمفهومي ميخائيل باختين: “الحوارية”Dialogisme و”تعددية الأصوات”Polyphonie ، لاستنقطنا متوالية من طبقات المعنى في علاقتها بأنساق الفكر المنتِج لهذا المعنى؛ ولركضنا في أكثر من اتجاه، فنولي وجهنا شطر التراث حينا، وشطر حقول المعرفة المعاصرة حينا آخر، نتقصى آثار نصوص ونصوص تمازجت وانصهرت في حضرة بوح تحرر فيها لسان “قزح” ومادته الرمادية من كل الفواصل، والموانع، والخطوط الحمراء.
يُطِلُّ لفظ الـــ “حضرة” من الحقل الديني العالِم حيث المقدس سيد الخطاب: حلقات الذكر الرباني، والمديح النبوي، وما قد يحصل خلالها من طقوس التصوف؛ كما يشرإبُّ برأسه من غمرة ثقافة شعبية مدنَّسة موغلة في دهاليز الروح الحبيسة طَيَّ جسد أنثوي مقهور، قد يسعى في “الحضرة” النسوية إلى التحرر عن طريق الرقص، ثم الجذبة على إيقاع موسيقي يبدأ هادئا ويتصاعد عنيفا.
وسواء تعلق الأمر بــــ “حضرة” مقدسة أو مدنسة، فإن الانكشاف والتعري خلاصا من عبء الأقنعة الاجتماعية التي يُجبر الفرد على وضعها ليعيش مع الآخرين، يظل رغبة أكيدة للنفس كي تتحرر من همومها وضغوطها، فالغاية، في هذا السياق أيضا، تُسَوِّغ وسائلَها، ولا تكترث إلا بمآربها.

“لويزا” و “مارلين” قطعتان صغيرتان ضمن ألغوزة البوح

في أول اتصال لي بالكتاب الذي وقَّعه لي مبدعه مشكورا مساء 27 أكتوبر 2020 بمكناس؛ جذبني تشكيل الغلاف ألوانا، وكلمات، ولوحة فنية. وحين طالعني اسم “لويزا ومارين” بين “حضرة البوح” و”ملحمة العصر”، خمنت بداية أن الأمر يتعلق بمسرح ثنائي؛ إلا أنني حين واليت قراءة الصفحات، تضاءل تخميني بشكل خيب ما وعدني به غلاف الكتاب. إن حضور “لويزا” و”مارين” اللتان قام على مذبحتهما هذا النص الدرامي، لم يكن حظهما وفيرا بما يشفي غليل كل إنسان أوجعته مأساتهما. كيف ذلك؟
لقد خصص الكاتب لطيْفيْهما حوارا غطى صفحة ونصف من البوح الثاني “رسالة من مرسل مجهول”، ليس إلا. (نفسه: 35- 36). كما يستعيدهما البوح الثاني عشر والأخير “لنمسك قلوبنا من أجل الحياة” -الذي جمع طيف الحقوقي “العريف”، الرجل الوحيد الذي تحبه “العروف” والذي غيَّبته أيادي السلطة- وذلك من خلال تحول “العروف” المتواتر إلى طيف “لويزا” تارة، ثم إلى طيف “مارين” تارة أخرى، في مشهد الذبح الرهيب. (نفسه: 114- 115- 116).
إن وجهة نظر المبدع معتبَرة، لا ريب، فيما ارتآه خط سير لعالمه الدرامي المتراصِّ، في هذا الكتاب. ولو تأملنا أول حوار في النص:

العروف (تخاطب صورتها في المرآة)
آه كم يسكنني الخوف من العتمة
(تقترب من صورتها في المرآة)
من زمان والخوف يعيش معي نفَسا بنفَس، وحالة بحالة. (نفسه: 26)
وآخر حوار لها:
العروف: يا أيها الأبالسة الجدد. يا أيها الشيطان الذي أخطأ في حق الله وأوقع آدم في الخطأ إلى أن أخرجه من الجنة.
العروف: (ومعها العريف) سنظل… سنبقى… سنبقى دعاة السلام… السلام… السلام… (نفسه: 117- 118).
فأنْ تتحول الشخصية، من حال بدْئيٍّ يستبد به الخوف من عتمة الحياة إلى حال نهائي يتوهج بالتحدي من أجل تحقيق السلام، يجيب صراحة عن دور المسرح، كما يؤمن به عبد الرحمن بن زيدان في ضوء تعريف المسرح الديدكتيكي ومسرح الأطروحة، وذلك في مواجهة واقع مُرٍّ لا ينبغي أن يَزْوَرَّ عنه هذا الفن، ولا يهرب من الاشتباك مع مآسيه تحت مسمى “نبل المسرح” كما يفهمه غاستون باتي.

ممكنات التلقي…

تتيح “حضرة البوح” فسحا مغريا للقراءة، فكرية كانت أم جمالية، بل تجنح بنا نحو مشروع مقاربة مقارِنة بينها وبين نماذج من النصوص الدرامية التي اشتغلت على ظاهرة الإرهاب، بما يؤكد حضور المسرح في سويداء الحياة البشرية، وبما يجعل من الفن صمام أمان لاستعادة الأمن والفرح والأمل. فانتقال هذا النص الدرامي إلى عرض مسرحي محتمل سيضيف لغات أخرى تعزز الخطاب الديدكتيكي المتوثب طيَّ صفحات الكتاب، وتُبَنْيِنُ مستويات أطروحته عبر لغات أيقونية ترسمها أبجديات الإخراج.
يضيف هذا القلم المغربي الملتزم أطروحة وجودية إلى الدراما الإنسانية المنتبهة إلى مآسي العالم، يضعها على طاولة تشريح مضاءة علنا، يقتضيها كشف نوايا شبكة الإرهاب العالمي بواقعية وموضوعية، ترتقي بالقارئ نحو الوعي بمخططات هذه الشبكة، وتحديد موقف حاسم منها، وذلك إيمانا بقدرة المسرح على استيعاب مجازر البشرية، وقدرته على التعبير عنها فكريا وجماليا، لكن من دون الجزم بقدرته على إيقاف النزيف.

< بقلم: دة. الزهرة براهيم

Related posts

Top