ماهية السؤال الأنثوي في “مكابدات” و”مكاشفات” الشاعرة المغربية أمينة المريني

تطرح الشاعرة المغربية أمينة المريني، في جل أعمالها الشعرية الكثير من القضايا الإنسانية التي يمكن أن تلتقطها روح أنثى شاعرة مجددة تهف نفسها نحن الانعتاق؛ إذ جسدت في شعرها المرأة التي أضحت اليوم تتقاسم مع الرجل الهم الوجودي كذات تنفعل مع الواقع بكل حيثياته، فتعالج ذلك بروح مبدعة تبحث عن الحقيقة وتسعى إليها عن طريق طرح السؤال.
“أنا شارب الكأسكأسِ الجنونأنا شارد التِّيهوالوحش قد ألفهأنا شارح الوجدمتنا عصياًّوفي الوجد للحرف ما خسفه”1
تبحث الشاعرة عميقا في أغوار الذات الشاعرة الموجَّعة، من خلال هذا المقطع الشعري، فتُسقط روحها على اللغة (لغة الشعر والوجدان) لتستنهض بها الهِمم، فتحاول الاقتراب أكثر من هذه الذات/ الأنثى بكل ما تحمله من خصوصية، في علاقتها (أي الأنثى) بالآخر، والعالم والوجود. الأنثى داخل أمينة تكسر كل القيود لتنطلق نحو أفق مليء بالثراء والجمال اللغويين. تفتح أقبية السؤال لتدخل دهاليز الحقيقة وتخوض غمار التجربة كما الرجال (أنا شارب الكأس) لا يضيرها شيء ولا يعيبها، بل يميّزها ذلك كتجربة نسائية تعبِّر عن وجودها – ولو بضمير المتكلم المذكر- وتستنهض ذاتها لتمثل بذلك وضعيتها كشاعرة داخل فضاء الشعر والقصيدة. تصوِّر العالم كما تراه جديدا ومتجدِّدا باحثة عن المدهش والغريب والساحر لتحقيق كون منسجم مع هذه الذات والموضوع، أو بعبارة أخرى، فهي تعي إمكاناتها في التعبير والإفصاح، وذلك بتحقيقها وعيا مكتملا وفكرا مكتملا. الفكر/ الشعر الذي يسعى إلى الحقيقة من خلال معرفة الذات (لا كذات ناقصة/ أنثى) وتمظهراتها في العالم. ومن هنا فهذه الذات (ذات الشاعرة) لم تهتم بكيانها (كواقع) بقدر ما تبحث عن الماهية من وراء تحقّق القول الشعري. فتسير داخل هذا الكون تقيس المسافة بينها وبين الآخر الواقعي أحيانا واللاواقعي/ الرمزي أحيانا أخرى. إنّها تكاشف بوحها وعمقها ووعيها؛ المكاشفة والمكابدة التي يقابلهما السؤال الذي تقابله المكاشفة والمكابدة، هذه الثنائية تحضر دائما في شعر أمينة المريني فتنسج كونها الشعري.
“هل أتاك الذي لا يقالإذا ما اشتهيتُ الكلاموأدخلني الصمتفي حضرة الحسنأو في عروش الفلكْ؟يا فؤادي الفتيَّومن أدخلك؟”2
“ولا تلتفتْ لجموحيلا تلتفت نحو قبحي وانثر على أضلعي من رؤاك ندىً”3
“وارفع الحجبهل أعجلكْ؟أن ترى ورقي باهتاكظلال الأصائلأم هل لذَّ لكْسورة البعد في كبدي عن حبيب لدى جوهر الروح قد أنزلكْ؟”4
يستمر دائما السؤال عند الشاعرة مسربلا بإيقاع خافت وهادئ يتماشى مع بوحها الخفي أحيانا، والمعلن أحيانا أخرى. يظهر ذلك جليّا من خلال معجمها الصوفي الثري المفتوح على تجليات الكشف الحرِّ والمتحرر. هذا الاختيار المعجمي ليس عند الشاعرة اعتباطا، بل اختيار واعٍ لما يقدمه من إمكانات التحول الدلالي والموضوعاتي. يمكن القول، إن طبيعة هذا التحول، وهذه التيمة البارزة لدى الشاعرة قد أنتجت في عمقها خطابا لغويا مغايرا، قادرا على توريط الفكر واللغة معا، لتخرجَ من الأساليب التي أصبحت مبتذلة نحو اكتشافات وفتوحات جديدة؛ فتكون الكلمات “شبيهة بالأثر الذي تخلفه اللوحة التشكيلية فاللون والخط والمساحة عناصر تهدهد حاسة العين أولا لتستدعي التأويل والإسقاط ثانيا، وقد تقف عندها حاسة العين.. فالكلمة هنا تشكل موسيقى تهدهد الوعي السمعي أولا قبل أن تهدهد الوعي العقلي أو الشعوري بصفة عفوية ومباشرة”5، يرتبط ذلك بنوع من الحركية والفاعلية، مشكلا نمطا موسيقيا خاصا مسندا إلى الحالة النفسية والشعورية التي تؤطر ذات الشاعرة6؛ الذات التي تسأل عن كيانها وتسعى إلى تحقيقه من خلال الارتباط بالإله ومكابدة النفس للتّقرب منه، فتتحول اللغة هنا عن سياقها الإخباري لتصبح ذات وظيفة تأثيرية7، يرتبط ذلك بوعي الشاعرة الكامل بما تسعى إلى تحقيقه وإبرازه. إنّه كنه السؤال الإنساني في ارتباطه بالأنثى الشاعرة اليوم.
“لعلّي أصوغ من الوجدأغرب شكلٍإذا ما دخلت عليكقطفت للامي مدّا لطيفايفتِّق بستان ظلِّي …”8
لا شك أن هذا القول يصب في نسق التحولات التي عرفتها القصيدة العربية المعاصرة، التي يبحث فيها الشاعر/ الشاعرة عن فضاءات جديدة للتعبير عبر انفتاح وتحرر في بنية القصيدة الشكلية والمضمونية وكذا الإيقاعية، إذ أضحت الشعرية العربية منفتحة على شعريات ومرجعيات تنهل منها وتسير في مسارها نحو كونية القصيدة، ومن هنا السؤال الإنساني والوجودي: أين يتمحور الشاعر/ الشاعرة؟ من هذه الكونية هي التي ستجعل الخطاب الشعري خطابا لغويا يبحث عن أفق جديد على مستوى الكتابة والتلقّي. كل ذلك يبدو تحولا ملموسا يسير وفق إيقاع متسارع، فقد كسر الشاعر/ الشاعرة العربي المعاصر بنية الشكل العمودي القديم وأحلّ محله نظام التفعيلة. يتماشى هذا الاشتغال مع تجربة الشاعرة أمينة كونها واعية به وتسير وفقه في بناء القصيدة، حين تفصح عن نفسها وكيانها، فلم يعد الرجل هو المفصح الوحيد كما كان في القديم بل، أصبحت المرأة قادرة على الإفصاح والتعبير عن طريق الكتابة9 ” إن طريق المرأة إلى موقع لغوي لن يكون إلا عبر المحاولة الواعية نحو تأسيس قيمة إبداعية للأنوثة تضارع الفحولة وتنافسها، وتكون عبر كتابة تحمل سمات الأنوثة وتقدمها في النص اللغوي لا على أنها (استرجال)، وإنّما بوصفها قيمة إبداعية تجعل (الأنوثة) مصطلحا إبداعيا مثلما هو مصطلح (الفحولة)10
“شمال العيون اللّواتيهفا عندها قلبكنّسأنزح هذا الصباح الغريبوأنثر خلفي شهيق الفؤادوأبذر دمعي مرايالتبصرن أنّ التي تطفراليوم من نقطة النوننونمكفّنة بنثار الشموسمعتّقة في دنان الزمانقديما لها ملء هذي الكرومحنينا إلى نبعها الملكييفجره في جنون المدى حلمكنّ”11خلاصة: تتجاوز أمينة المريني في أعمالها الشعرية، رسم صور نفسية ولوحات اجتماعية، محاولة التعبير عن كيان الأنثى في استقلالية وحرية، تماشيا لما بلغه الأدب النسائي العربي، عامة، والمغربي خاصة، السائر نحو الفعل الفني الخلاق. تبدع في أجواء التقدم الإنساني المعاصر. صوتها يتميز بالنقاء والأصالة، ينبع من عمق ثقافي ووعي بقضية المرأة التي أصبحت اليوم متجاوِزة لكل أشكال الميز، باحثة عن صوتها المتفرد داخل المجتمع ومن خلاله، واقفة موقفا إيجابيا من حركة المجتمع والتاريخ.
إنّها دعوة صريحة من لدن الشاعرة إلى العودة إلى تنظيم العلاقات الإنسانية وفق مبدأ التشارك والحرية واحترام الآخر. نحن البشر منوط بنا إذا أردنا البقاء والاستمرار، التوحد والتعاون والتشارك، وذلك ما تحاول الشاعرة بثه من خلال تجربتها الشعرية المتميزة عن طريق لغة رامزة، فالشاعر أمينة المريني، من خلال أعمالها الشعرية، تنفتح على دلالات توحي بفعل نابع من أنثى تعي جيدا إمكاناتها في الإنوجاد الثقافي والاجتماعي واللغوي، هي ليست ظلا للرجل، بل هي طرف فاعل له ما له وعليه ما عليه داخل المنظومة الإنسانية. تبدي رأيها بكل موضوعية ومسؤولية، وبذلك تفتح لنا آفاقا جديدة ومتجددة من خلال هذا العمل الشعري المتميز، على مستوى الكتابة والرؤية الشعريتين، وعلى مستوى آفاق السؤال المفتوح: سؤال من أنا؟ أين يمكن أن أكون؟لائحة المصادر والمراجع:1- أمينة المريني، مكاشفات، حلقة الفكر المغربي/ المغرب-فاس 2008، ص 143
2- نفسه، ص02 3-نفسه، ص 104-نفسه، ص 11/12 5-نجيب العوفي، درجة الوعي في الكتابة، دار النشر المغربية/ المغرب- الدار البيضاء، ط: الأولى 1980، ص 636-شربل داغر، الشعرية العربية الحديثة تحليل نصي، دار تبقال للنشر / المغرب- الدار البيضاء، ط: الأولى 1988، ص247-عبد الله راجع، القصيدة المغربية المعاصرة بنية الشهادة والاستشهاد ج: 1، ط:الأولى 1987 المغرب، ص2َ58-أمينة المريني، المكابدات، حلقة الفكر المغربي/ المغرب -فاس 2005، ص 239- عبد الله الغذّامي، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي/ بيروت، ط: الثالثة 2006، ص0810- نفسه ، ص 5511- أمينة المريني، مكاشفات، حلقة الفكر المغربي/ المغرب-فاس 2008، ص

> بقلم: زكرياء الزاير106/107

Related posts

Top