مبدعون مازالوا بيننا (الجزء الثاني)

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

عزيز أبو علي.. ألم العزلة وغربة الهجرة (الحلقة 6)

رسام تعبيري أدرك أسرار الحفر وتقنياته
عزيز أبو علي (1935 – 1993) من بين الفنانين المهرة الذين ارتبط اسمهم بمدينة تطوان فنا وإبداعا، اسمه الكامل أبو علي أبو عبد العزيز، التحق بمدرسة الفنون الجميلة بتطوان عام 1961، بعد ذلك واصل تكوينه الدراسي في أحضان المدرسة العليا للفنون الجميلة سانتا إيزابيل بإشبيلية. صقل ملكته بمدريد في فن الحفر والرسم الجداري والنحت، وأقام بها معرضه الأول عام 1971. هناك استطاع الانخراط في المجتمع الفني بالعاصمة الإسبانية، ملتحقا بمجموعة 15 الشهيرة التي كانت تنظم خلال السبعينيات ورشات مختصة في فن الحفر، والتي كانت تهدف إلى جعل الرسم الإسباني أكثر تداولا في جميع أنحاء العالم. في رصيده، العديد من المعارض والجوائز الدولية أبرزها الميدالية الفضية التي نالها عام 1971 خلال البينالي العالمي للفنون التخطيطية بترسيتي، وأيضا جائزة كارمن أروسينا التي فاز بها عام 1978: تتويج انضاف إلى تألقه خلال الدورة الأخيرة لصالون الشتاء بمراكش بعد الاستقلال، وكذا فوز منحوتته الرخامية بجائزة الدولة الإسبانية عام 1973.

يعد أبو علي رساما تعبيريا وحفارا ماهرا ومدركا لأسرار الحفر وتقنياته خاصة الحفر بالمنقاش، إذ كان على دراية واسعة بخيمياء المواد وخصائص السنائد ووسائط الاشتغال، لاسيما الأحبار وصباغة الغواش البنية. لقد تفرد أيضا بالرسم والتلوين والحفر والنحت على الرخام والحجر، فضلا عن إبداعه للوحات ظلية تتمحورها أجساد طيفية بدون وجوه، تلك التي كان يرسمها بشكل ملفت للنظر، مستعملا في ذلك الألوان الزيتية وألوان الغواش الداكنة والألوان الطباشيرية التي كانت تتلاءم مع أجساده الملفوفة والمعصوبة والمتصارعة داخل إطارات ضيقة.

مقامات البوح القاسي
من خلال ما راكمه الفنان عزيز أبو علي من إبداعات تشكيلية متنوعة، يمكن القول إن لديه امتلاكا قويا لناصية الإبداع الجمالي جعل منه مبدعا متفردا أغنى الساحة الإبداعية المغربية بكثير من العطاء والإنتاج قبل أن توافيه المنية عام 1993 بالعاصمة الإسبانية مدريد مثقلا بألم العزلة وغربة الهجرة، ولم يعلم أحد بموته سوى بعد مرور خمسة وأربعين يوما على ذلك!
جاء في مقالة للراحل عبد الكبير الخطيبي: “ليس عزيز أبو علي بالفنان التلويني بالرغم من أنه يستعمل عددا محدودا من الألوان لكن من الكثافة بمكان. كما أنه ليس تشكيليا للعلامات كما هو حال العديد من التشكيليين العرب. إنه بالأحرى مؤلف للأشكال ذات المنحى التشخيصي الجديد والتجريدي في الآن نفسه. وامتلاكه لناصية الحفر غير قابل للشك والنكران، إذ هو يتماشى مع تلاوين ذلك الحب الكاسح للأبيض والأسود. الأسود البراق الذي يغلف أحيانا مساحة اللوحة تغليفا كاملا، هناك في الليل المدلهم الذي لا تلمع فيه أي نجمة، والذي يبحث فيه الإنسان عن مخرج مضطرب نحو الخلاص، كما لو كان قد تجمد بفعل قوة باطنية” (مقتطف من نص لعبد الكبير الخطيبي “الفن والكآبة”- كتاب: عزيز أبو علي – فتنة المطلق الصادر بمناسبة المعرض الاستيعادي المقام من طرف مؤسسة أكتيا بالدار البيضاء ومنشورات مرسم- الرباط 2000 ص. 30)

في كل مقامات بوحه القاسي، يستحضر عزيز أبو علي قصة عشقه الأول للرسم في الظل خارج كل وصاية أبوية ذات نزعات فقهية متزمتة. يتذكر دائما مساره المهني الأول كمصلح للدراجات في قلب مدينة مراكش القديمة. يتذكر، أيضا، لوحته الجنينية التي دشنت ميثاق ولعه بالرسم في إرهاصاته المبكرة: لوحة مستوحاة من إسكافي الحي. كم هو مدين لأبناء حيه المخلصين لعلاقة الجوار بتمكنه من تلقي تكوين تأطيري عبر المراسلة قبل أن يلتحق بأسلاك الدراسة بمدرسة الفنون الجميلة بتطوان، متفرغا لهذا العالم الأخاذ الذي سكن مخيلته وشحذ حسه المرهف على مدى أربع سنوات من التحصيل والبحث التشكيلي المتشعب؛ بحث سيواصل تعميقه في مجال فن الحفر في الديار الإسبانية باعتباره المنعطف الجديد بالنظر إلى حياته الإبداعية ومنفاه الاختياري الأخير.
تألق هذا الفنان المغترب عن بلده الأم في مجال الرسم والحفر معا، فقد تخصص في تحويل عدد وازن من اللوحات الفنية إلى أعمال حفرية طباعية، وذلك رفقة مبدعين ذوي الصيت الدولي أمثال خوان ميرو وطابييس، كما حظي بشهادات عرفانية من قبل فنانين مرموقين نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: النحات الأردني سامر الصباغ والفنان السوداني راشد دياب. نزعت أعماله في أوج الستينيات والسبعينيات منزعا وجوديا مأساويا يستمد مادته التعبيرية الإشكالية من العلاقة الصدموية مع الأرض والهوس بالموت كقلق وجودي. لعله موته الرمزي داخل وسطه المغربي الذي احتضن تكوينه الأولي، لكن لم يساهم في إشعاع فنه وتعزيز تداوله القرائي والترويجي. ترى ما سر هذه الأجساد المنحنية التي تواجه قدر المجهول؟ ترى ما سر بلاغة الظل كمعادل موضوعي للصمت الذي تسمه جدلية الخفاء والتجلي؟ هل صور أبو علي حقا الموت؟ هل كان مسكونا بمخاض الولادة العسيرة التواقة إلى الانبعاث في صورة الفينق الأسطوري؟ هل انشغل أيما انشغال بالحياة التي تقاوم الموت، وبالموت الذي يتربص بالحياة؟

دفن في أرض ليس لها لون جثته
قدر للفنان الرائد الجيلالي الغرباوي أن يموت مستلقيا على مقعد عمومي بساحة شان دو مارس بباريس يوم ثاني أبريل 1971، وقدر للفنان عزيز أبو علي بدوره أن يموت في عمارة بـ “البويرطا ديل صول” (باب الشمس) كجثة متعفنة بين معدات رسمه ولوحاته، ما يقارب 45 يوما بعد وفاته. مات كالغرباوي في عزلة قاسية وفي صمت مطبق شبيه بصمته الذي لازمه طوال حياته بإسبانيا وبالمغرب.

بعد رحيله بمدريد، رثاه الفنان الراحل محمد القاسمي بالشهادة التالية: “كان عزيز أبو علي رساما وحفارا ماهرا يعرف سر كيمياء المواد الحبرية، وصفائح النحاس والورق والقماش و”الأسيد” وسر اللون. استطاع أن يجد مكانته ضمن الحركة الفنية الإسبانية، وتعرف على ساورا ومياريس وعاشر الوسط الفني المدريدي، كان ينتمي إلى جماعة 15 الفنية بإسبانيا، وكان يطبع لهم كحفار الكثير من أعمال الفنانين وأشهرهم. كما كانت لديه مجموعة هائلة من أعمال الفنانين الذين أنجز تحفهم. لقد خلف عزيز أبو علي مئات الأعمال التي أبدعها في مرسمه بمدريد، ونحن نتساءل اليوم وبمرارة وحزن كبير: ما هو دور وزارة الثقافة التي لم نسمع ولا نسمع لها صدى في مثل هذه الحالات المأسوية، فهي لا تهتم بوجود الفنان، والتشكيلي على الخصوص، إلا في حالة تنظيمها لأسبوع ثقافي في بلد ما أو لبهرجة رسمية… نستمر في التساؤل: هل ستعود أعمال عزيز أبو علي إلى المغرب؟ وهل له ورثة؟ وهل يمكن إدخالها بنزاهة في الإرث العام؟ وكيف سيشاهدها المغاربة، علما بأن مغرب القرن العشرين لا يتوفر على متحف وطني للفن المعاصر ولا على بنيات دائمة لإسكان التحف الفنية ووضعها رهن إشارة العين المغربية للتذوق والتثقيف والحوار والتساؤل، وخلق جو يسمح بتحرير الخيال واللسان والتصور. فإذا كانت الأسس الحضارية والروحية لبلد ما هي مبدعوها، فنحن اليوم ما زلنا نتساءل عما يوفره المسؤولون من مؤسسات ومدارس عليا وبنيات أساسية ومتابعة..
ها نحن اليوم نشيع جنازة الفنان عزيز أبو علي رحمه الله، في المهجر ليدفن في أرض ليس لها لون جثته، وإن كنت أعتقد أن التراب تراب حتى في أقصى الأرض التي نجهلها. ولكن للانتماء بعد رمزي أساسي، له رائحة الفصول، وعرق الأجساد. له مذاق القمح، ونَفَسُ الصحراء ورطوبة الأطلس” (محمد القاسمي: “الموت في مدريد” – تمارة 16 مارس 1993، كاتالوغ مذكور – ص. 132).
رحل عنا هذا الفنان المغترب جسدا لا روحا، مخلفا لوحات ملغزة لا تفصح عن أسرارها إلا لدواخله. لوحات مستعصية ومتعذرة عن الوصف والقراءة. لوحات منذورة للتأويل المفتوح. فما رسمه أبو علي انعكاس رمزي لما يعانيه الكائن الوجودي من مسخ ومحو وتهجين وألم على الطريقة السيزيفية. لوحاته الناطقة، بلا ريب، مرآة مجازية تعكس هشاشة الكائن ودواره في زمن معاصر موحش (نتذكر كتاب “جرح الكائن” للمفكر عبد السلام بنعبد العالي). الكائن، إذن، كالفكر غياب وتفكير في الغياب! إنه تفكير بصري يتمظهر كصدع داخل الفرد حد الغثيان.

إعداد: عبد الله الشيخ ابراهيم الحيسن

Top