متعة الترحال في رواية “شهوة الأمكنة” للكاتب المغربي مصطفى لغتيري

 أصدر الكاتب المغربي مصطفى لغتيري مؤلفه الروائي الجديد “شهوة الأمكنة”، عن منشورات غاليري الأدب، رسخ به خطواته في الإبداع الروائي المغربي والعربي، محاولا من خلاله استنطاق أماكن مشتهاة لدى الكاتب، أماكن تعد جزءا منا ومن تاريخنا ومن هويتنا المغربية. أماكن نحس معها بأننا نحن كذلك جزء منها، بل أكثر من ذلك، إذ يشعر قارئ الرواية بالتماهي مع تلك الأماكن، فينغمس في القراءة، فيتملكه الإحساس بأنه يجول في تلك الأمكنة المعروضة، ليستحضر فضاء عاشه وتعايش معه خلال فترة زمنية ما.

 فالأمكنة الموظفة في الرواية جاءت متنوعة وموزعة الدلالة، فمرة مفتوحة وأخرى مغلقة، ومرة واقعية متخيلة، وأحيانا أخرى حضرية أو قروية، وقد ترتب عن ذلك أثر كبير في نفسية الكاتب أبرز في سطور الرواية.

 إنه الإبداع في أرقى حلته، طبق شهي لأماكن محفوظة في الذاكرة نفض عنها الكاتب غبار الماضي بتعاقب أحداثها وتاريخها وزمكانها..

 وقد قدمها لنا كطبق غني لا يمكننا مقاومة جماله وعمق دلالاته.

 لم تعد الأمكنة تحمل المعنى المجرد أو المحايد، بل أصبحت منخرطة في عالم السرد، تمنحه كثيرا من الزخم الدلالي، وهذا ما لامسناه في تأثيث الفضاء الروائي للرواية.

من هنا نطرح التساؤلات التالية: ما أهي التقنيات التي استخدمها الروائي مصطفى لغتيري لوصف الأمكنة؟ إلى أي حد ساهم في إثراء الفضاء المكاني للرواية المغربية وإكسابها نفسا جديدا؟ وما دلالة الأماكن بالنسبة إليه؟ وهل هي أماكن مشتهاة فقط أم أنها واقعية لها أبعادها الدلالية المحضة؟

 تناول الكاتب مصطفى لغتيري سيرته الروائية “شهوة الامكنة” في أربعة فصول روائية، كل فصل يغوص بنا لاستكشاف بقية الفصول الأخرى، ونحن في جوفنا أماكن استوطنت في مخيلتنا .. أماكن متأصلة في التاريخ المغربي واستوطنت الذاكرة الإبداعية لدى الكاتب.

فهي على حد تعبير الكاتب “ليست مجرد فضاء أو أفضية قضينا فيها مرحلة من عمرنا، بل هي أكثر من ذلك، إنها كائنات هلامية تتسلل إلى ذواتنا خلسة حينما يقودنا القدر لنجوس في دروبها ونتلمس جدرانها ونعقد معها اتفاقات ضمنية، تعتمد على المعايشة أكثر من أي شيء آخر أو عندما نستنشق هواءها ونثير النقع من أديمها وغبارها وكل ما ينتمي إليها..”.

 يراود الكاتب في الفصل الأول من الرواية ذكرياته الطفولية رفقة الأسرة في سفرهم العائلي رفقة الأب المكافح إلى جذوره بإقليم ‘اشتوكة’ ضواحي مدينة الدار البيضاء فيسرد لنا روعة المكان رفقة عائلته والأصدقاء، ثم يأخذنا إلى أزمور الساحرة بمنبعها “أم الربيع” ووقوفا عند الأسطورة الخالدة ‘لالة عايشة’، ثم إلى مقام ضريح ‘مولاي بوشعيب’ مع وصف لأزمور وما يميزها من طقوس وتراث شعبي محفور في الذاكرة المغربية”.

 أماكن لا تنسى مع الزمن، بل تزداد تجذرا في القلب والذهن” ( ص:24).

 فالأمكنة الموظفة لدى الكاتب بكل أبعادها الواقعية والمتخيلة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالجانب الزمني والتاريخي.

 هذا ما نستشفه جليا في الفصل الثاني من الرواية، إذ يسرد لنا الأنشطة التجارية الصيفية الممارسة آنذاك “كالتجارة واستحضار هنا للفضاء المكاني

كراج علال”،  ثم الانتقال إلى فضاء مدينة الجديدة كمنتجع سياحي لدى الكاتب خلال فصل الصيف وللساكنة البيضاوية المحدودة الدخل، وذلك لقربها من مدينة الدار البيضاء.

 فضاءات وأمكنة متوارية منذ القدم، ساهمت في إشعاع المنطقة جغرافيا واقتصاديا وتاريخيا،

(الملاح وسيدي بوزيد ومولاي عبد الله والحوزية وسيدي عابد).

 يأخذنا الكاتب في استراحة بين أحضان شاطئ الجديدة العذب والهادئ عكس شاطئ عين الذئاب بالدارالبيضاء،

لركوب الأمواج والتحدي، ثم يصطحبنا في جولة تاريخية للملاح، وقوفا عند السور البرتغالي وذكريات الماضي المتوارث، مرورا ب ‘سقالة’ الشاهدة على تواجد البرتغال بأرضها، مع استحضار للمرأة المبهرة التي أربكت جنود البرتغال إبان الفترة ‘عائشة “لاكونتيسة” المعروفة “بعائشة القديسة”،

 فالأمكنة الموظفة هنا جاءت وكأنها عنصر ضروري وحيوي، محققا التلاحم والانسجام وليس ديكورا للأحداث.

 يرحل بنا الكاتب في الفصل الثالث من الرواية إلى مدينة الدار البيضاء، باعتبارها من الأمكنة العملاقة

المؤثرة على حياته بتفاصيلها المتعددة الحضور، تدخل اللاوعي واللامتناهي في المتخيل الإبداعي لدى الكاتب.

 ذكريات الأمكنة الشاطئية رفقة الأهل ‘مدام شوال’ ‘سيدي عبد الرحمان”.

 خيال الكاتب الواسع وهوسه بالأمكنة التي استحوذت على مخيلته قاده هاته للمرة للحديث في الفصل الرابع عن أمكنته المعتادة لمزاولة الرياضة والأكثر استقطابا ‘ملعب ولد مينة بالحي الحسني’ وكذلك’ مركب محمد الخامس’ الذي يعرف إشعاعا للساكنة البيضاوية ولفريقين بيضاويين رجاء الشعب ووداد الأمة، وحضورا جماهيريا واسع النظير. فضاء ‘ري دجورا’ بالقرب من سينما المعاريف..

هي كلها أماكن وظفها الكاتب المغربي مصطفى لغتيري في روايته ‘شهوة الأمكنة’ في تنوعها وتوزعها، فمرة مفتوحة مغلقة ومرة أخرى واقعية خيالية وأحيانا حضرية قروية، ثنائيات التضاد أغنت الفضاء الزمكاني وجعلت أثره ممتدا على نفسية الشخوص الموظفة في الرواية.

 عموما، يمكن القول إن الكاتب المغربي ‘مصطفى لغتيري’ أبدع في وصف وتخيل الأمكنة وقدمها لنا بإسهاب وتشويق كفاكهة مشتهاة لا يمكننا مقاومة لذتها.

 بقلم: ليلى التجري

Related posts

Top