محمد بنموسى: مصلحة البلاد تقتضي قيام حكومة جديدة بتوجهات تسير في اتجاه الإصلاحات الجريئة التي جاء بها النموذج التنموي الجديد -الجزء الثاني-

يرى الخبير الاقتصادي محمد بنموسى أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالمغرب أبانت عن ضعف الحكومة الحالية التي لم تقدم بديلا اقتصاديا فعالا لخلق فرص الشغل، وتفتقد ثقافة التفاوض والتنازل في الحوارات الاجتماعية.
وعاب محمد بنموسى على الحكومة، في هذا الحوار المطول، الذي ننشره على حلقتين، إسهامها في قتل الديمقراطية من خلال تشجيعها تدخل المال في السياسة، وعجزها عن إيجاد استراتيجية اقتصادية قوية ومتنوعة لتحسين مؤشر نمو الاقتصاد الوطني الذي يظل رهينا بالتساقطات المطرية التي تعرف تراجعا مقلقا، أكد كل الانتقادات السابقة لسياسة التوجه نحو تصدير المنتجات الفلاحية المستنزفة للماء عوض التركيز على الأمن الغذائي الداخلي.
وبخصوص لهيب أسعار المحروقات الذي يميز حكومة أخنوش، يرى الخبير الاقتصادي محمد بنموسى أن ما يعيشه سوق المحروقات الوطني من ارتفاع فاحش في الأسعار، لا يرجع فقط إلى المستجدات الظرفية التي طرأت في الأسواق الدولية نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، وإنما يعود لإشكالية عميقة وقديمة ظهرت بسبب أخطاء سياسية واختلالات بنيوية صاحبت قرار تحرير القطاع دون آليات مواكبة، واستفحلت اليوم بفعل المستجدات الدولية الطارئة.
وتطرق بنموسى لظاهرة تراجع الاستثمارات واندثار ثقافة التوظيفات المنتجة، بعد رحيل رواد الصناعة في سبعينيات وثمانيينات القرن الماضي، نتيجة ضعف ردة الفعل لدى الحكومة، بالإضافة إلى مواضيع أخرى تعري واقع التراجع في المغرب.

> صادق البرلمان مؤخرا على مشروع قانون الشركات الجهوية متعددة الخدمات. إلا أن هذا النص لم يحظ بالإجماع وأثار عدة انتقادات. ما رأيكم؟
< كنت كتبت مقالا حول الموضوع، وربما كنت الوحيد الذي كتب حول الموضوع المتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات، حيث تمت خوصصة هذا النشاط الذي تعتبره الحكومة منتوجا عاديا يطبق عليه منطق السوق. بل هو حق على الدولة ضمانه لكل المواطنين. إنه حق الولوج إلى الماء والكهرباء والنظافة. اليوم عندما نقرأ ذلك القانون المشؤوم نرى بأن الفكر وراء هذا القانون هو أنه منتوج ككل المنتجات. إنها ليست بأي حال من الأحوال خدمة تجارية تخضع لمنطق السوق. وهذا المبدأ منصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عن الأمم المتحدة، والذي صادق عليه المغرب في ماي 1979. وأود أن أضيف أيضا الحقوق البيئية التي ما فتئ جلالة الملك يسلط الضوء عليها في رسالته الموجهة إلى المشاركين في الندوة التي نظمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان في دجنبر 2023، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومن المفارقة تماما أن القانون الذي يحكم الشركات الإقليمية متعددة الخدمات، يتعارض مع هذه الحقوق العالمية ومبادئ الدولة الاجتماعية، لأنه يحتوي على أحكام تتعارض مع مبادئ الدولة الحامية. هناك بنود جد خطيرة في هذا القانون. فهو على سبيل المثال يعطي الصلاحيات لهذه الشركات الخاصة كي تأخذ قرار نزع الملكية الذي هو بيد الدولة فقط. قدمنا أفكارنا بخصوص هذه الشركات في النموذج التنموي الجديد، لكن في التفعيل تم الالتواء على الفكر الذي أتينا به. بالنسبة لنا هذه الشركات الجهوية لتوزيع الماء والكهرباء هي شركات جهوية تحت سيطرة رأس المال وتحت تدبير الجهات. يمكن للقطاع الخاص أن يمتلك ما يصل إلى 90% من رأس مال الشركات الصغيرة والمتوسطة، مع اكتفاء الدولة بحصة رمزية تبلغ 10% والتنازل بحكم الأمر الواقع عن التأثير على القرارات الاستراتيجية، وخيارات الاستثمار، وسياسة التسعير، وسياسة الاسترداد، وتوزيعات الأرباح ، وتعيين المديرين...، بل أيضا ممارسة صلاحيات المساهم البسيط الذي يمتلك أقلية معيقة. الحكومة الحالية التوت على هذه الفكرة وأقامت شركات خاصة. نرى إذن كيف أن فكرة في منطلقها جد إيجابية يتم تحويرها والالتواء عليها. > نظرا لما نشهده اليوم من ارتفاع لتكاليف المعيشة، وما يرافقه من سخط اجتماعي متزايد. ألا تخشى أن يشكل ذلك خطرا على استقرار البلاد؟
< لا، ليس هناك خطر اليوم على الاستقرار. ما نراه هو استياء اجتماعي قطاعي، ينتج عنه احتقان قطاعي يعبر عن حركات مشروعة للتنديد بالسياسيات العمومية. نحن بصدد احتقان فئوي وليس حركة ثورية شعبية اجتماعية للمواطنين المغاربة. الأمر يتعلق بتذمر لرجال التعليم وطلبة الطب والجماعات المحلية والممرضات والممرضين وغيرهم الذي يقدمون مطالب مشروعة للحكومة. كما يجب ألا ننسى أن لدينا في بلادنا، والحمد لله، دعامة قوية هي الملكية ووظيفتها بشكل خاص ضمان استقرار الأمة ومؤسساتها. فالملكية توفر توجهات استراتيجية طويلة المدى، يلتزم بها المغاربة بشكل كامل. لكن، تنفيذ السياسات العامة من قبل الحكومات، تطبيقا لهذه التوجهات الاستراتيجية، يطرح مشكلة بسبب عدم كفاءة هذه السياسات، وافتقارها إلى الشفافية، وأحيانا حتى لعدم شرعيتها. وقد أسفرت الانتخابات التشريعية، إلى قيام حكومة تتسم بتضارب المصالح، وإلى تفاقم هذه المشكلة. وأعتقد أن صحوة المغاربة بشأن هذه المسألة الأخلاقية قد اكتسبت الآن. ويتزايد وعي مواطنينا بهذه القضية ويتطلعون إلى رؤية رجال ونساء دولة حقيقيين يتحملون مسؤولية السياسات العامة لخدمة المصلحة العامة. وبدون "نموذج سياسي جديد"، فإن هذا الطموح سيظل مجرد حلم بعيد المنال. > على ذكر الحكومة. هل تتوقعون تعديلا حكوميا قريبا؟
< أظن أن مصلحة البلاد تقتضي ليس تعديلا حكوميا بل حكومة جديدة وسياسة حكومية جديدة وتوجهات تسير في اتجاه الإصلاحات الهيكلية الجريئة التي جاء بها النموذج التنموي الجديد ويتم فيها التوافق. هذه هي مصلحة بلادنا. هل سيكون هناك تعديل حكومي أم لا؟ الأمر يرجع للتقييم الشخصي لجلالة الملك. هو الذي ينظر إلى وضع البلاد والأزمة الموجودة والاحتجاجات والملفات التي تترجم ضعف الأداء الحكومي. > كيف تقيمون التقارب بين التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي؟
< إيجابي أكيد. الحزبان سيشتغلان معا من أجل خلق دينامية جديدة في المشهد السياسي وإعطاء اقتراحات وتصور يجمع نظرتهما. ومن الممكن توسيع هذا التقارب إلى أحزاب أخرى في اليسار المغربي وإلى المجتمع المدني. المهم هو خلق دينامية. لكن المشكل يكمن في الأغلبية البرلمانية. المشكل هو ضرورة تغيير السياسات الحكومية وحبذا لو أن الأحزاب الوطنية العريقة مثل حزب الاستقلال تكون واعية بخطورة الوضع، وتقوم بنقد ذاتي على غرار ما كان يقول به سي علال الفاسي، وثانيا تقييم موضوعي لحصيلة الحكومة وكيف يتفاعل المواطنون مع الأداء الحكومي. أكيد أن بلادنا لا تحتاج إلى تعديل بل إلى حكومة جديدة بتصور جديد وبرؤية استراتيجية جديدة وبسياسات جدية. الحكومة الحالية لا تمتلك تصورا استراتيجية لأنها ببساطة ليست حكومة سياسية حقيقية. هذه الحكومة بالنسبة لي غير قادرة على إيجاد الحلول ولا على التواصل مع المواطنين لأنها ليست حكومة سياسية فهي تتخذ قرارات صعبة ولا تملك القدرة على تبريرها من خلال معطيات ومعلومات مقنعة للمغاربة. فإذا منحت للمغاربة حكومة سياسية تعمل على الدفاع عن مصالح المغرب والمغاربة سيتقبلون كل قراراتها لأنها تسير في اتجاه المصلحة العامة للبلاد وليس المصالح الشخصية. إن صلب المشكل هو حالة تضارب المصالح. > دعونا نعود إلى الاقتصاد. هل تخلق بلادنا ثروة كافية؟ وماذا عن قدرة القطاعين العام والخاص على خلق القيمة؟
< من الواضح أن الاقتصاد المغربي لا يخلق الثروة. اقتصادنا لا يخلق قيمة كافية. وعلى مستوى المؤسسات التجارية العامة والقطاع الخاص، يجب علينا أن نعمل على تعزيز قدرتها على خلق الثروة. فيما يتعلق بالقطاع العام، يجب أن نتحدث عن الإصلاحات التي نحتاجها لضمان حصول الدولة على القوة المالية اللازمة لتنفيذ جميع المشاريع المضطلع بها بطريقة مستدامة وخاضعة للرقابة. وهي مشاريع تتعلق بتعميم الحماية الاجتماعية، ودفع المساعدات المباشرة، والاستثمارات العامة، وخطة إعادة إعمار وتنمية الحوز، واستراتيجية المياه، وتنمية الأقاليم الجنوبية، ومشروع خط الغاز بين نيجيريا والمغرب، والمشروع الملكي لتنمية الساحل الأطلسي المغربي الذي يخدم القارة الإفريقية الساحلية وجنوب الصحراء الكبرى، الخ. لتنفيذ كل هذه المشاريع الاستراتيجية، يجب على الدولة المغربية أن تكون قوية ماليا، لكن هذا ليس هو الحال. ويظهر الضعف المالي للدولة من خلال انخفاض الإيرادات الضريبية ومحدودية أداء المحفظة العامة. > لكن العديد من المراقبين يعتبرون أن الضغوط الضريبية قد بلغت سقفا قياسيا في المغرب؟
< لا على وجه التحديد، لأن عبء الضرائب موزع بشكل سيئ بين دافعي الضرائب. ويتيح النظام الجبائي المغربي تعبئة حوالي 265 مليار درهم من عائدات الضرائب السنوية، وهو ما يمثل حوالي 21.5% من ثروتنا الوطنية. وهذا ما يسمى الضغط الضريبي. البلدان الأوروبية، التي لديها عمليا نفس النظام الضريبي الذي لدينا، والمستند إلى ثلاث ضرائب وطنية رئيسية، وهي الضريبة على الشركات، والضريبة العامة على الدخل، والضريبة على القيمة المضافة، مع معدلات ضريبية واضحة قابلة للمقارنة، هذه البلدان تتمكن من تعبئة ما يصل في المتوسط ​​إلى 39 أو 40٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على شكل إيرادات الضرائب والرسوم الإجبارية. ولذلك، فإننا نواجه عجزا كبيرا يتعين علينا تداركه. صحيح أن الضغط الضريبي داخل الاتحاد الأوروبي يأخذ في الاعتبار جميع الاستقطاعات الإجبارية، أي عائدات الضرائب وكذلك الاستقطاعات الإجبارية الأخرى، وخاصة مساهمات التقاعد الاجتماعي والتأمين الصحي وجميع الأنواع الأخرى من المساهمات الاجتماعية الإجبارية. نحن في المغرب لا نملك إحصاءات رسمية موحدة حول هذه المساهمات الاجتماعية الإجبارية، لكن يمكنني، شخصيا، أن أقدرها بحوالي 3 إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي. الأمر الذي من شأنه أن يرفع العبء الضريبي الإجمالي لدينا إلى حوالي 25 إلى 26٪ من الثروة الوطنية. وإذا قارنا هذا المستوى بالمتوسط ​​الأوروبي، يمكننا أن نستنتج أن لدينا إمكانية سنوية لتعبئة استقطاعات إجبارية إضافية لا تقل عن 100 مليار درهم، وهو ما يجب أن نسعى إليه بكل الوسائل. ولتحقيق ذلك، من الضروري تنفيذ أحكام الإصلاح الضريبي كما تم اقتراحها في نهاية المؤتمر الضريبي الوطني الثالث الذي عقد في ماي 2019، بالإضافة إلى الإصلاحات الضريبية المقترحة كجزء من خطة الإدارة الوطنية والتي تعتبر أكثر إرباكا. إلا أن ما نراه اليوم هو عكس ما ينبغي فعله تماماً. إن قرارات الحكومة بشأن السياسة الضريبية، التي تم اعتمادها في إطار قوانين المالية للسنوات المالية 2022 و2023 و2024، هي النقيض التام للإصلاحات المرغوبة. ما هو بالضبط اقتراح الحكومة الحالية؟ لقد قامت بتخفيض معدل الضريبة على الشركات بشكل كبير لصالح الشركات الكبيرة، حيث خفضتها من 31% إلى 20% تدريجيا على مدى عدة سنوات حتى عام 2026. كما قامت تدريجيا بزيادة معدل الضريبة على الشركات بالنسبة للشركات الصغيرة، من خلال زيادتها من 10% إلى 20%.. كما خفضت بشكل كبير ضريبة الاستقطاع على الاستثمارات المالية، أو ما يسمى عادة ضريبة الاستقطاع على عائدات الأسهم، من 15% إلى 10% تدريجيا على مدى 4 سنوات. وفي قانون المالية لعام 2024، قررت الحكومة فرض ضرائب إضافية على بعض المنتجات الاستهلاكية اليومية، من خلال زيادة ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية. لكن هذه الحكومة نفسها لم تضع أي شرط يتعلق بضريبة الدخل. ولم يرفع عتبة الشريحة الضريبية الأولى لإعفاء الأجور المنخفضة، ولم تعدل معدلات الضريبة للشرائح المتوسطة في اتجاه التخفيض، ولم يزد معدل الضريبة الهامشية للشرائح الأعلى.

ولم تنفذ الحكومة أيضا عددا معينا من التدابير المقترحة في إطار النموذج التنموي الجديد مثل إلغاء الضرائب المقتطعة من المصدر بمعدلات تحريرية، وفرض الضرائب على فئات معينة من الدخل التي أصبحت اليوم معفاة تماما من الضرائب، وفرض ضريبة بشأن الثروات غير المنتجة والمضاربة، وترشيد النفقات الضريبية التي تتسبب في خسارة الميزانية العامة للدولة بحوالي 35 إلى 38 مليار درهم سنويا، وإصلاح نظام ضريبة الميراث، وتجريم الاحتيال الضريبي، ومحاسبة شركات الاستشارات الضريبية في حالة المشاركة في أعمال الاحتيال، والنشر مجهول المصدر للسوابق القضائية للجنة الوطنية للاستئناف الضريبي، وما إلى ذلك.
وبالتالي فإن السياسة الضريبية لهذه الحكومة غير فعالة وغير عادلة. غير فعالة لأن عائدات الضرائب تظل منخفضة وأقل بكثير من إمكاناتها الحقيقية. غير عادلة، لأن هذه السياسة، من ناحية، مواتية للثروات الكبيرة والشركات الكبيرة، ومن ناحية أخرى، تضر الشركات الصغيرة والمتوسطة والطبقة المتوسطة.

> هل ستكون الزيادة في الإيرادات الضريبية كافية لتمكين الدولة من تنفيذ كافة مشروعاتها الاستراتيجية وجميع مهامها؟
< بالطبع لا. على الدولة تحسين الأداء المالي للحقيبة العمومية، التي عليها أن تخلق المزيد من الثروة لصالح لاقتصاد الوطني. والحاصل اليوم، هو أن هذه الحقيبة العمومية تدمر ثروة الدولة، التي تمتلك حوالي 275 شركة مستثمرة، والتي تمتلك هي نفسها حصصا في أكثر من 500 شركة تابعة. إن العلاقة المالية بين الدولة والحقيبة العمومية غير متوازنة، وذلك على حساب الميزانية العامة للدولة. فالدولة تحصل على أرباح من المقاولات الاقتصادية ذات الطبيعة التجارية، ولكنها تعيد إرجاع الضرائب شبه مالية لعدة وحدات في المحفظة العمومية. ويكون صافي رصيد الدولة الناتج عن هذه العلاقة المتبادلة سلبيا من الناحية المالية. وبالفعل، خلال العشرية من 2013 إلى 2023، حصلت الدولة من المحفظة العمومية على 118 مليار درهم في شكل أرباح، لكنها منحت 386 مليار درهم في شكل دعم وأرجعت 49 مليار درهم في شكل ضرائب شبه مالية. وبذلك يصل صافي الرصيد المالي إلى ناقص 317 مليار درهم. وبالتالي، إذا أردنا استعادة القوة المالية للسلطات العمومية، علينا تصحيح هذا الخلل وعكس اتجاه صافي التدفقات بين الدولة والحقيبة العمومية. وهذا يتطلب تحديث المقاولات العمومية وجعلها أكثر أداء. هذا هو روح وهدف المهمة التي أوكلها صاحب الجلالة إلى وكالة التسيير الاستراتيجي لمشاركات الدولة، والتي تهدف إلى تحديث السياسة المساهماتية للدولة، وتعزيز التراث العمومي وضمان قدرة الشركات العمومية على إنتاج المزيد من القيمة لفائدة المالية العامة والثروة للاقتصاد الوطني. > عند الاستماع إليكم، يتشكل لدينا انطباع بأن المسؤولية الكاملة عن الانطلاقة الاقتصادية تقع على عاتق الدولة. أليس للقطاع الخاص دور؟
< إن دور القطاع الخاص أساسي. قلت ذلك في وقت سابق. بل إن دوره أكثر حسما من دور المقاولات العمومية. يجب على القطاع الخاص أن يكون قاطرة النمو الاقتصادي، وقاطرة الاستثمارات وخلق فرص العمل اللائق. وعلى هذا المستوى، يبدو واقع الحال مقلقا للغاية. عندما نقوم بتحليل الإحصائيات التي نشرتها المندوبية السامية للتخطيط نلاحظ أنه في سنة 2022 انخفض التكوين الإجمالي لرأس المال الثابت، أي الاستثمار الوطني، إلى حدود ناقص 6 بالمائة، ليتعافى بعد ذلك دون أن يتعدى زائد 0.8 بالمائة خلال الفصل الأول من سنة 2023، وليعاود الانهيار إلى ناقص 3.1 بالمائة خلال الفصل الثاني، وإلى ناقص 2.7 بالمائة خلال الفصل الثالث من نفس السنة. إذن التراجع كان سمة الاستثمار الوطني على مدة سنتين علما أن الاستثمار العمومي سجل ارتفاعا. وهو ما يعني أن الاستثمار الخاص في الانهيار بالرغم من كل السياسات العمومية التي وضعتها الحكومة، رهن إشارة القطاع الخاص، خاصة ميثاق الاستثمار، وتسهيل الوصول إلى الأسواق العامة وتصفية المتأخرات المرتبطة بالموعد النهائي للضريبة على القيمة المضافة. وأذكر أيضا بالتوجه الاستراتيجي الذي حدده جلالة الملك للحكومة والرامي إلى تعبئة 500 مليار درهم من الاستثمار الخاص في أفق السنة التشريعية 2026 من أجل خلق 500 ألف منصب شغل.. إن خارطة الطريق الملكية واضحة وطموحة، في حين أن إنجازات الحكومة وقدرتها على إشراك القطاع الخاص محدودة. لدينا مشكلة ثقة حقيقية هنا. > لماذا لم نستطع بعد إعادة الدوران لعجلة الاستثمار الخاص. فك الحظر على آلة الاستثمار الخاص؟
< هناك على هذا المستوى أسباب موضوعية مرتبطة بالوضع السياسي الوطني. وبالفعل يبدو لي أن مشكلة تضارب المصالح التي ناقشناها سابقا تساهم وبقوة في خلق مناخ من عدم الثقة يقضي على الرغبة في الاستثمار والمخاطرة. إن التداخل المرفوض قطعا بين عالم الأعمال والسياسة مدان من طرف رجال الأعمال أنفسهم الذين يعملون في قطاعات تنافسية وغير محمية وغير ريعية، والذين لا يحظون بامتياز الاستفادة من عروض الأثمان العمومية ومن الإعفاءات بجميع أنواعها. ويخلق هذا الوضع غير الطبيعي عاملا معيقا ذو طبيعة نفسية تقريبا يؤدي إلى تدهور مناخ الأعمال، وهو الأمر الذي يؤثر على قرارات المقاولين المغاربة والمستثمرين الأجانب على حد سواء. هناك أيضا عامل هيكلي آخر يمكن أن يفسر لنا ضعف الاستثمار الخاص وهو عامل داخلي مرتبط بالباطرونا المغربية. فقد اختفى قادة الصناعة الوطنية الذين عرفهم المغرب في السبعينيات والثمانينيات، ولم نضمن خلفاء يحملون عنهم المشعل بما في ذلك داخل أسرهم وأبنائهم وأحفادهم. لقد شهدنا بالتالي تحول الباطرونا المغربية التي شهد حمضها النووي تحولا واضحا، إذ انتقلت من ثقافة ريادة الأعمال وإنشاء المقاولات والاستثمار والغزو الصناعي إلى ثقافة التوظيف المالي، ومن شراء المقاولات إلى منطق تحين الفرص والبحث عن العروض العمومية والمضاربات العقارية والضريبية، والبحث عن العروض العمومية والإعفاءات الضريبية والمالية والبنكية وبالتالي الانغماس في الاقتصاد الريعي. لقد اختفت تقريبا ثقافة الاستثمار الصناعي. انظروا إلى حجم القروض البنكية المخصصة لتجهيز الصناعات التحويلية: بالكاد 19 مليار درهم، أي أقل من 2% من إجمالي القروض البنكية! نحن بصدد مشكلة كبيرة تتعلق بغياب توريث مهنة تسيير المقاولات الصناعية للأجيال القادم. كيف لنا أن نعالج هذا الوضع؟ يبدو لي أنه من الضروري إجراء إصلاحات داخل أرباب العمل المغاربة وبالأخص داخل الاتحاد العام لمقاولات المغرب. يتعين علينا أن نعهد بإدارة الباطرونا إلى "قادة حقيقيين من رجال الصناعة". لازال بيننا من طينة هؤلاء لكن عدد المعبئين لتطوير الصناعة الوطنية وتعزيز الصادرات يبقى للأسف قليل هناك عدد قليل من هؤلاء، ولكن لسوء الحظ، عدد قليل للغاية. كما يجب علينا إعطاء المزيد من المسؤوليات للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في إطار هيئات تسيير الاتحاد العام لمقاولات المغرب، علما أن المؤسسات الصغرى والصغيرة والمتوسطة تمثل عدديا أكثر من 99% من النسيج الاقتصادي الوطني. ولا بد من نقل سلطة اتخاذ القرار داخل الاتحاد العام لمقاولات المغرب من عدد قليل من قادة المجموعات المالية القوية إلى رؤساء الشركات الصغيرة والمتوسطة. ومن الضروري أن يتم داخل الاتحاد العام لمقاولات المغرب تطوير ثقافة اقتصادية حقيقية لريادة الأعمال وخلق المقاولات، والاستثمار الصناعي والابتكار، مع تعزيز المحاكاة الصحية والبناءة بين أرباب المقاولات ورجال الصناعة في بيئة شفافة. كما يجب على الباطرونا أن تنجح في عملية التحول، من خلال التطور من وضع منظمة نقابية بسيطة تحمل نفس المطالب النقابوية إلى بنية فكر اقتصادي قادرة على القيام بالتحول الهيكلي للاقتصاد المغربي وإعادة بناء دور المقاولة في تنمية البلاد. كما أن للدولة دورا في هذا الشأن باعتبارها شريكا استراتيجيا للقطاع الخاص. فمن خلال "أذرعها"، المتمثلة في صندوق الإيداع والتدبير، والبنك الشعبي المركزي، وصندوق محمد السادس للاستثمار، والمكتب الشريف للفوسفاط، والمكتب الوطني للسكك الحديدية، والمكتب الوطني للماء والكهرباء، والوكالة المغربية للطاقة المستدامة والعديد من الشركات العمومية الأخرى، يمكن للدولة أن تشجع على ظهور نخبة جديدة من رجال الأعمال وطبقة جديدة من المستثمرين. أي جيل من قادة الصناعة في جميع مناطق وأقاليم البلاد. < حاوره: خالد درفاف- يوسف الخيدر- نجيب العمراني- مصطفى السالكي

Top