مقاربة تأويلية للأبعاد الجمالية في ديوان “لو”1

يرفع ديوان “لو” للشاعرة فاطمة الميموني أكثر من عتبة: اللوحة، كلمة الشاعرة فاطمة ناعوت، تقديم الشاعر عبد الكريم الطبال، وكلمة الشاعر أحمد الطريبق أحمد.
وقارئ هذه العتبات النصية واللونية يخلص إلى انصباب رؤاها في مركزية البحر. والانشغال بمباهج الطبيعة بعبارة الطريبق (عرائس الصحو، ومساقط البروق) كما أن الطابع الشذري والتقاط التفاصيل الصغيرة من سمات هذا الديوان. يصف الشاعر الطبال ذلك بقوله: “التفاصيل العالقة بالذات الشاعرة القلقة ” ص7 وقارئ الديوان يجد خطوطا أخرى، وانعطافات جمالية دقيقة، سنتناولها في الوقفات التالية بأدوات أسلوبية وبرؤية تأويلية. إن التأويل لا يواجه نصا بسيطا سهلا، وساذجا، التأويل كآلية تفسير وشرح وملء بياضات النص، هو عملية بناء فهم ممكن، فهم ضمن فهوم محتملة للنص، وغير نهائية، لذا فهو يواجه النصوص ويحاور ذات الحمولة الفنية. يقول أومبرطو إيكو: “توافق حدود التأويل حقوق النص، وهذا لا يعني أنها توافق حقوق المؤلف” 2

باب التخييل:

وسنحيل على كتاب الدكتور سلام أحمد إدريسو: معجم مصطلحات الفلسفة في النقد والبلاغة 3والتخييل… فعالية المبدع الإنجازية/النصية/ونجد في المعجم ما يقوي ما ذهبنا إليه:”- ارتباطه بقدرة المبدع على تخصيب دلالة الألفاظ، ص13- ارتباطه بقدرة المبدع على الإيهام بالحقيقة، ص13- التشكيل القائم على نسق التناسب الفني، ص13 تفتح “لو” آفاق الحلم، و أمداء التخييل “لو” طرق شتى واحتمالات.. ولعل القبض على طرائد “لو” كالقبض على السراب، في قصيدة ” لو”، تكررت هذه اللفظة ست مرات (ص 12) وفي قصيدة (وددت) نجدها مكررة ثلات مرات (ص 23).

قصيدة عبور صورة للتخييل:

“في خلوة بعيدهعبرتُ لونيشققت صدر الحائطفتقت بحراأمواجه الليليةعنيدةتصرخفي كفي”. (قصيدة عبور).
عبرت لوني، شققت صدر الحائط، فتقت بحرا، تصرخ (أمواجه في كفي) فالنص الشعري مبني ومركب من صور شعرية صغرى لتشكيل الصورة الشعرية الكبرى / القصيدة. ومعلوم أن “منبع تخييل القول الشعري وميدانه هو التفكير البصري، يعتمد الخيال على التفكير البصري، فهمُ العالم وإدراكه وتفسيره واستكشافه من خلال لغة الصورة والشكل 4”
(عبرت، شققت، فتقت) الذات تواقة إلى التحرر والتغيير، العبور دلالة على التجدد، يكون للجسد والحائط ( رمز التقاليد) والبحر رمز التحرر، يكون لهذه الألفاظ كينونة عميقة، إنها أكثر من مسميات، إنها أجنحة الروح.. حتى تصرخ و تهدل أمواج البحر في كف الشاعرة.. ويهدل المعنى، تقول الشاعرة:
أعرف الشجر كاد يكلمني (ص 10).
وصور التخييل مبثوثة في هذا العمل الشعري الجميل ، نمثل بـ: – عاشقات من نار …ص 21 – يدا تذوب ساعة الغناء … ص 33 – البس حكايتك …ص 29 – يصب شهوة الصبح في كف الشجر …ص 37 – كأني طائر/ يشبه المحال…ص 43 » الخيال عملية وراء معرفية عملية تذهب إلى ما وراء الممكن والمتاح والواقعي لتستكشف المستحيل والغائب وما وراء الواقعي،لا بالمعنى الميتافيزيقي فقط، ولكن بالمعنى الفيزيقي أيضا، بالمعنى الذي أشار إليه “مير لوبونتي”، حين أكد على أهمية تحويل اللامرئي إلى مرئي من خلال عملية الإبداع الفني والجمالي والإنساني عامة5 ويشكل الخيال عصب التكوين الفني للصورة الشعرية،وهو ذو حمولة دلالية تتضافر قوته مع المكونات الأخرى لإكساب القصيدة أبعادها الجمالية.

باب اللوح والترتيل:

تردد في الديوان معجم يحيل على الكتابة، كفعل إبداعي والقراءة كفعل تحقق للخطاب، ومستلزمات الكتابة كما مورست في البداية، الصمغ /اللوح، ولنتأمل ما يلي:
الكتابة، تكتب- كتبت، يكتب/ تحقق الكتابة: كتاب سفر، الحروف، القصائد لغة / القراءة: يقرأ- قرأت، يرتل- يتلوه/ الأدوات: اللوح الصمغ أوراق حبر / تضفي الشاعرة على الكتابة والقراءة قداسة وهالة من الإجلال ( استخارة، حزب، آيات، اللوح، قداس، لوعة، فاتحتي)، وتستعير من لغة القرآن هذه الألفاظ الدالة على عظم الفعل و تقديره. وهذا المعجم بغناه ودلالاته على حضور هاجس الكتابة والقصيدة في الوجدان في كل نبض، امتد وتنوع و تلون وتكاثر، ليكون خطابا حاملا لمرجعية الوعي لفعل الإبداع ومكابداته، فكل حرف تخلق، وكل حبر ترقرق، وكل خاطر خفق، فالقصد أن يصب في بحر القصيدة وعند أعتاب الذات، وعلى طرس الوجود. وهذا الملمح المعنوي حاضر في ديوانها “سبحة”6
“أقصد كعبة الحرفألبس لونه المستورأقطف من وجهه قبسا للرؤيانارا أليفة” ص62

باب اللون:

تمتد الكتابة و يرمز لها بالتلوين ( يلون صمغه بدم، ص 31 )عبرت لوني ص 44 »الكلمة الدالة على اللون لم تعد تحيل على اللون في ذاته، وأضحت تحيل بفعل الانزياح إلى مدلول ثان له طبيعة شعورية وانفعالية..” 7 والألوان التي ذكرت في الديوان هي: اخضرار، لون البحر، بدم، الزرقاء، زرقته، أصباغها ليل) فضلا عن إيحاءات البياض و الإشراق : ( نهار / البهاء). ونعود للصورة الشعرية: يلون صمغه بدم في قصيدة كأس ص31 فالكتابة لا يليق بها ولجلالها و لعشقها إلا أن تخضب بدم ” ركعتان في العشق لا يصح وضؤهما إلا بالدم ” / الحلاج.

باب السؤال

لعل أثمن ما نملك أو يصنع فكرنا هي الأسئلة، إنها الأرض التي تغزوها الرغبات والأحلام والأخيلة والواردات أيضا في نص محاورة، نقرأ سؤالين: كم شربت من خبز كم سئمت من ضجر
تماثل في نسق التركيب مما يقوي الإيقاع و الدلالةو في نص سؤال البحر نقرأ: “ما للونك انطفأما لشجونك انكفأ؟ تسألني القصائد: ويكشف المعجم طبيعة هاجس الأسئلة: (أرق – عشق، حبيب لظى، قلبك، ورد، اشتهاء.
وتقول في ديوان سبحة: كيف عنَّ السؤالحين رنَّ المقاللحظة المس العتيقة ص24 عصا الكشف هي السؤال، به تزول الحجب وتتجلى المجاهيل، وتقرأ السبل.

باب الحال الصوفي:

لقد رسخ لدينا بعد رصد لملمح جمالية الأسلوبي دال /ورامز / ألا و هو الكأس لأنه رمز شديد الحضور في النسق الشعري قديمه وحديثه، وهذا ما يتيحه هذا الرمز من إيحاءات ودلالات وأبعاد للذات الشاعرة8 (والإحالة الصوفية للكأس متجلية في قول الشاعرة:
“تشربني كأسا تلبسني رثاء حضرة المقام … قصيدة الكأس”
فالذات الشاعرة تصير هي الكأس / الكينونة،وقد عرف عن المتصوفة والسالكين سبلهم أنهم يرمزون بالمعاني الحسية في الدلالة على المعاني الروحية بها إلى مفاهيم وجدانية ..9وفي ديوان سبحة نقرأ:
“ما قلت له
ما قال ليلكن صرته حينصارني..” ص32 وبصيغ أفعال متشابهة (افتح. اقرأ. لون. رتب. رتل. امح. اسأل.البس) تبنى قصيدتها (حال) لتوصل الذات إلى ضفة هذا الحال ( شمع. ترى. تغيب. وحدك) إنها خلوة المريد العاشق.
تقول الشاعرة:
“سري مجلو مباح قلبي ستر شفاف غيبي حزب يتلوه طفل” ( قصيدة سري – لو ). ويتجلى معجم السر والأسرار واضحا في ديوان “سبحة”: (أوقد سر الحياة، يقتله سري تقتله الأسرار، أوقدت سر الوجود، أن أعترف للقداس بسر الأسرار، أبحث عن سر الحرف، افضح سر الأسماء..). لقد فاح العطر، وانكشف الحال فلا سر والعشق غمر وبحر والقلب شفاف، والمعجم الصوفي يحيل على ذلك.
تقول: “راقني وجه الحلاج فأتيته: وجهه الملتهب يحمل البشارة”. ( قصيدة سقر – لو).
وتقول:
“ورأيتكأني نسمة ريحان تهز قلب المريد” ) (قصيدة استخارة والمريد حسب اصطلاحات أهل التصوف: “المتجرد عن إرادته”10 لعلنا في جولتنا في دروب هذا العمل الشعري، وقد ولجنا مدائنه من أبواب متعددة: (التخييل، اللوح والكتابة، اللون، السؤال، الحال الصوفي ) كشفنا بعض تلك الفهوم الممكنة التي منحتها لنا قرائن التلقي والتأويل.

هوامش:

1- فاطمة الميموني: “لو..” ط1-2011- منشورات روافد مطبعة الخليج العربي، تطوان
2- إليزابيت غافو غالو، مناهج النقد الأدبي /ترجمة يوسف لشهب-ط 1/2013 ، عالم الكتب الحديثة، الأر دن – ص235
3- سلام أحمد إدريسو :معجم مصطلحات الفلسفة في النقد والبلاغة العربيين ط1/2015 منشورات عالم الكتب الحديث- إربد الأردن .ص 13
4- دشاكر عبد الحميد، الخيال، من الكهف إلى الواقع الافتراضي -عالم المعرفة، ع 360 -فبراير .2009 الكويت – ص 51د .شاكر عبد الحميد: الخيال /من الكهف
5- إلى الواقع الافتراضي، مجلة عالم المعرفة،ع360 فبراير2009.- ص 4786- فاطمة الميموني: سبحة، جائزة القصيدة العربية بالمغرب محترف الكتابة 2014، ط1، 2015. منشورات مقاربات، تطوان.
7- عبدالرزاق المجدوب، الصورة في شعر الحداثة، ط-2012 – مراكش، ص176
8- انظر كتابنا النص الشعري: بهجة القراءة والتداول ط1/2014 المبحث الأول وماتلاه.
9- محمدعبد المنعم حفاجي: الأدب في التراث الصوفي- ط1- 1980 -مكتبة غريب القاهرة- ص18210- محمدعبد المنعم حفاجي: الأدب في التراث الصوفي- ط1- 1980 -مكتبة غريب القاهرة- ص259

> بقلم :أمجد مجدوب رشيد

Related posts

Top