ملوك وسلاطين -الحلقة 13-

تاريخ كل أمة خط متصل، قد يصعد الخط أو يهبط، وقد يدور حول نفسه أو ينحني ولكنه لا ينقطع. ولعل كل أمة تنقب عن تاريخها وتصونه من أجل الرقي بحاضرها والتحضير لمستقبلها. وكذلك شأن المملكة المغربية التي اجتهد مؤرخوها لصون تفاصيل تاريخ يمتد لقرون طويلة عرف فيها المغرب عدة حضارات وساسه قادة وملوك وسلاطين. بيان اليوم حاولت النهل من كتب ومراجع ومخطوطات عديدة لتحضير هذه النافذة التاريخية لقرائها طيلة شهر رمضان الكريم، تطل من خلالها على ما مضى من مواقف ملوك وسلاطين المملكة اتجاه أبرز الأحداث.

يوسف بن تاشفين (الجزء 6)

بعدما ترطقنا في الحلاقات السابقة إلى ولادة يوسف بن تاشفين ونسبه ونشأته وكذا التدرج في الحكم، ومرحلة النيابة على المغرب وتولي الحكم، والإمارة واتساع دولة المرابطين واستنجاد أهل الأندلس بهم وعبورهم إليها وما دار في معركة الزلاقة الشهيرة. سنتطرق في هذه الحلقة إلى أحدلث أخرى في الأندلس وما فعل المرابطون هناك.

معارك شرق الأندلس

اضطربت الأحوال شرق الأندلس بعد أن تجددت رغبة النصارى في الاستيلاء عليها، فهاجموا غرسية وألمرية ومرسية وشاطبة. قرر ابن تاشفين مواجهة الأمر بتعيين ابنه محمد واليًا على شرق الأندلس، فسار محمد نحو مرسية والتقى بالنصارى في معركة انتهت بنصر المرابطين، وذلك عام 484 هـ الموافق 1092، ثم اتجه محمد إلى مدينة وبرة واستولى عليها، وواصل مسيره إلى دانية وكان يحكمها ابن مجاهد العامري، الذي فر منها والتجأ إلى مملكة بجاية، فدخلها محمد، ثم استولى على شاطبة، بعد أن فر منها أميرها ابن منقذ، وكان ذلك عام 485 هـ الموافق 1092.
بعد حملة ابن تاشفين على لييط، احتدم الخلاف بين ألفونسو السادس والكمبيادور، لتخلف الأخير عن مساعدة الأول، فانعكس ذلك على مدينة بلنسية التي كانت مسرحًا لصراع الإثنين. استغل قاضي المدينة جعفر المعافري الوضع القائم، واتصل بالمرابطين واجتمع بمحمد بن عائشة وطلب منه المعونة إلى بلنسية. أوفد ابن عائشة كتيبة من الفرسان عدد أفرادها أربعين فارسًا، وفتح أهل بلنسية أبواب المدينة للمرابطين، واستطاعوا إخضاع المدينة بالتعاون مع أهلها. في عام 486 هـ الموافق 1093، هَجم الكمبيادور على مدينة بلنسية، وفرض عليها حصارا طويلا، طلب بعدها سكان المدينة الصلح، قَبل الكمبيادور الصلح بشروط أهمها خروج المرابطين من المدينة، وفي عام 487 هـ الموافق 1094 سقطت بلنسية بيد الكمبيادور، فأجلى المسلمين عنها وأحل محلهم النصارى.
سير ابن تاشفين جيشًا بقيادة ابنه محمد بن عائشة لاسترجاع المدينة، وانضمت إليه قوات أندلسية، وحاصر جيش المرابطين المدينة عشرة أيام، قاوم فيها الكمبيادور الحصار واستطاع أن يهزم المرابطين ويبعدهم عن الأسوار. استمر الحصار قائمًا حتى وفاة الكمبيادور عام 492 هـ الموافق 1099، حاولت زوجته شيمين متابعة الصمود في المدينة، وطلبت النجدة من ألفونسو الذي جاء لنجدتهم، وأقام في المدينة شهرًا. في هذه الأثناء جهز ابن تاشفين جيشًا مرابطيًا بقيادة مزدلي بن تيلكان، ونزل بلنسية والتقى الجيشان ودارت بينهما معركة انسحب منها ألفونسو بعد أن قام بحرق المدينة، ودخل مزدلي بلنسية في رمضان 495 هـ الموافق 1102، استمر مزدلي في التقدم شرقًا نحو الحصون القريبة من بلنسية، واستولى على مربيطر والمنارة والسهلة، وسقطت البونت في يديه عام 496 هـ الموافق 1103، وتقدم شمالًا حتى دخلو شنتمرية، وخلع حاكمها ابن رزين. أدى توسع المرابطين شمالًا إلى مهاجمة برشلونة، فغزاها مزدلي ولكنه سرعان ماعاد إلى بلنسية.
هاجم ألفونسو السادس ثغور المرابطين في الأندلس، واحتل قلعة أيوب، فأمر ابن تاشفيين بتجهيز جيش بقيادة ابن الحاج، والتقى المرابطون بجيش ألفونسو في كنشرة عام 492 هـ الموافق 1099، ودارت معركة انتهت بنصر المرابطين، ولجأ الفونسو إلى مدينة طليطلة، فحاصرها المرابطون سبعة أيام ثم انصرفوا. أرسل ابن تاشفين جيشًا إلى كنكة بقيادة محمد بن عائشة، فهزم البرهانس وحلفاءه الأراجونيين، ثم سار إلى جزيرة شقر وفتحها بمساعدة الأسطول المرابطي. ضم ابن تاشفين كل البلاد والنواحي التي كانت زمن الدولة الأموية في الأندلس، ولم يبق خارج سلطته إلا إمارة سرقسطة التي كان يحكمها المستعين أحمد بن هود. كانت علاقة ابن هود علاقة ودية مع أمير المسلمين ابن تاشفين، وعندما بسط المرابطون سيادتهم على شرق الأندلس، اقتربوا من حدود سرقسطة، فأرسل ابن هود رسالة إلى ابن تاشفين: «نحن بينكم وبين العدو سد لا يصل إليكم ضرر، وقد قنعنا بمسالمتكم، فاقتعوا منا بها إلى ما نعينكم به من نفيس الذخر». استقبل ابن تاشفين الرسالة بالترحاب وأجاب إلى ما طلب ابن هود، فتوطدت العلاقات بين الأميرين، وأهدى المستعين إلى الأمير يوسف سنة 496 هـ آنية من الفضة توثيقًا للعلاقة القائمة.

علاقاته بدول الجوار الخلافة الفاطمية

لما قامت الدولة المرابطية كان هناك خلافتان تسيطران على العالم الإسلامي: خلافَة سُنِّية عَبَّاسيَّة وخلافَة شيعيَّة فَاطميَّة. لم يفكر المرابطون بالاعتراف بالدولة الفاطمية بسبب العداء المستحكم بين الفرق الإسلامية، فهم مالكيون سُنيون اعتبروا محاربة الشيعة في مدينة تارودانت جهادًا في سبيل الله، فلم تقم بين الدولتين علاقات طيبة، بالإضافة للعامل المذهبي هناك العامل السياسي الذي كان يباعد بينهم، فقد كانت الخلافة الفاطمية وهي في مصر قريبة من المرابطين وقوية في المغرب، فقد كانت تتدخل في شؤون المرابطين الداخلية، مما زاد العلاقة سوءًا، حتى أنهم عدلوا عن طريق مصر في الذهاب إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، بالرغم من المحاولات التي بذلها الوزير الفاطمي بدر الجمالي لاستمالتهم، وسلكوا طريقًا آخر يمتد عبر الصحراء إلى أعالي السودان، حيث لا سيادة للفاطميين هناك.

الخلافة العباسية

كان المرابطون ينظرون إلى الخلافة العباسية السنية نظرة أسمى من الخلافة الفاطمية، لأنها أقرب إلى مذهبهم، ولبعدها عنهم فكانوا لا يخشونها، خاصة بعد أن تطرق إليها الفساد، ودب فيها الضعف، فأصبحت لا تشكل أدنى خطر عليهم، لذلك اعترفوا بها واتخذوا السواد شعارًا لهم، ونقشوا اسم الخليفة العباسي على نقودهم في منتصف القرن الخامس الهجري.
بعد أن بسط ابن تاشفين سيادته على الأندلس، طلب منه الفقهاء أن تكون ولايته من الخليفة لتجب طاعته على الكافة، فقرر ابن تاشفين الاتصال بالخليفة العباسي أبو العباس أحمد المستظهر بالله (487 هـ / 1074 – 512 هـ / 1118) وأرسل إليه بعثة ضمت عدد من أمرائه وفقهائه، وزودهم بهدية ثمينة وبكتاب يذكر فيه ما فتح الله على يده من البلاد في المغرب والأندلس، ويطلب تقليدًا بولاية البلاد التي بسط نفوذه عليها. أدت البعثة مهمتها بنجاح، فتلطفت في القول وأحسنت البلاغ، وعادت إلى المغرب بتقليد الخليفة وعهده للأمير يوسف بن تاشفين.

بنو حماد

توقفت فتوحات ابن تاشفين في المغرب لجهة الشرق عند حدود بجاية حيث بنو حماد الصنهاجيين، ورغم القرابة التي تربطهم به فلم ترقهم فتوحاته، وأخذوا يتحينون الفرص للوثوب على أطراف مملكة المرابطين. وأتتهم الفرصة عندما عبر ابن تاشفين الأندلس عام 479 هـ الموافق 1086، فتحالفوا مع عرب بني هلال، وغزوا المغرب الأوسط وعادوا إلى بلادهم محملين بالغنائم، وسكت يوسف عن الانتقام منهم وصالحهم لأنهم أقاربه، ولأنهم يشكلون حدًا مانعًا بينه وبين عرب بني هلال، ولا يشكلون خطرًا عليه كالهلاليين.
في عام 481 هـ الموافق 1088 توفي الناصر بن علناس الحمادي أمير بجاية، فبعث ابن تاشفين بكتاب تعزية إلى ولده وخليفته المنصور، وقد دلت هذه الرسالة على نيات يوسف السليمة تجاه بني حماد. استمرت حالة السلم بين الطرفين أكثر من عشر سنوات، حتى نشب الخلاف عندما هاجم أحد قادة جيش المرابطين وهو والي تلمسان تاشفين بن تنيغمر بدون إذن الأمير يوسف بني حماد، ولكنه فشل وتراجع أمام المنصور، الذي هاجم تلمسان ولم يتوقف إلا بعد أن طلب منه ابن تاشفين السلم، فعزل والي تلمسان تاشفين وعين مكانه الأمير مزدلي بن تيلكان. بعد أن ضم ابن تاشفين الأندلس أضحت مملكة بجاية ملاذًا للفارين من الأندلس، ومع ذلك لم يقم ابن تاشفين بأي تحرك تجاه بني حماد، وبقي الأمر كذلك حتى وفاته.

إعداد: أنس معطى الله

Top