تعكس المقاهي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكان المدينة كونها فضاء مشتركا للالتقاء والتواصل بين الناس. في مجتمعاتنا العربية، كانت المقاهي في الأصل مكانا للقاء الأصدقاء والمعارف خارج البيوت لما لهذه الأخيرة من خصوصية وحرمة، ثم تطور الأمر فأصبحت المقاهي مكانا، ليس فقط للتسلية والمسامرات بل للتحاور واتخاذ المواقف وحتى تشكيل الرأي العام. لقد باتت المقهى مكانا مألوفا يفرد له زمن خاص يضاهي مختلف الأزمنة الأخرى مثل العمل والمنزل. كان ارتياد المقاهى مباحا لكل طبقات الناس، ووجدت إلى جانب مقاهى العامة مقاه لفئات وطوائف ومهن معينة، فهناك مقاه لعلية القوم وأخرى لأصحاب البدل الأنيقة والموظفين، كما وجدت مقاه لأصحاب الحرف والمهن المختلفة كعمال البناء والحدادة والنجارة وغيرهم. لم تكن المقاهي تحظى باهتمام الدارسين والباحثين ولذلك بقيت ظاهرة مجهولة من طرف المؤرخين، لا سيما، العرب. فالظاهر أن ذلك يعود إلى النظرة الموروثة التي تنظر إلى الظاهرة على أنها ذات طبيعة هامشية. غير أنه في ما بعد حظيت باهتمام الباحثين في مجالي علم الاجتماع والانثروبولوجيا قبل أن تحظى باهتمام المختصين في ميادين أخرى من ذلك علم الاقتصاد والهندسة والمعمار. بيان اليوم تنقل تقرب قراءها من بعض هذه الفضاءات التاريخية في مجموعة من الأقطار.
المقهى في تونس.. لعبت بالإضافة إلى دورها الترفيهي أدوارا ووظائف متعددة
كما هو الشأن في أغلب أقطار الوطن العربي، ظهر المقهى مع انتصاب الأتراك إذ تعتبر مدينة استنبول عاصمة الدولة العثمانية أولى الفضاءات التي عرفت هذه الظاهرة، وهو نفس التاريخ الذي انتشرت فيه أولى المقاهي بالايالة التونسية بالرغم من ان تجارة القهوة تعود بأفريقية إلى ما قبل ذلك التاريخ والتي يرجح أنها وافدة من المشرق العربي وتحديدا من اليمن وقد انتشرت بعدّة مدن من ذلك عدن والقاهرة.
ويرى سالم لبيض استاذ بالمعهد العالي للعلوم الانسانية بتونس أن تجارة القهوة تطورت بانتشار المقاهي في تونس بداية من الأربعينات من القرن العشرين، وأصبحت القهوة مادة كثيرة الاستهلاك مثلها في ذلك مثل الشاي بعد ان باتت تجلب من المستعمرات الفرنسية بإفريقيا وقد تم احتكار تجارتها من طرف الدولة في البداية قبل التفريط فيها بداية من سنة 1952 إلى ستة تجار، أربعة فرنسيين واثنين من التونسيين هما “بن يدر” و”بلحسن”.
ويقول لبيض في مقال نشر بمجلة أفكار الإلكترونية تحت عنوان المقهى في زمن الأنترنيت: الوظيفة والدلالة، أنه بالرغم من عراقة بعض المقاهي التقليدية بمدينة تونس العتيقة وبسيدي بوسعيد (المقهى العالية) وقهوة الناظور، فإن انتصاب الإدارة الاستعمارية بداية من سنة 1881 قد صاحبه ظهور مقهى جديد مختلف عن المقهى المحلي هو المقهى الأوروبي الذي يعود تأسيسه إلى ما قبل ذلك التاريخ وتحديدا إلى سنة 1870 تاريخ ظهور بعض المقاهي الإيطالية.
لقد تميز المقهى الأوروبي بتونس بالتنوع في المشروبات التي يقدّمها وبالجلوس على الكراسي الخشبية وبقراءة الصحف التي يوفرها المقهى للزائرين. وأصبح للمقهى دور في النشاط السياحي فقد وقع إحصاء حوالي 50 مقهى أوروبيا إبان بدايات الفترة الاستعماري سنة 1894. وتعهدت الدولة الاستعمارية هذه الظاهرة بالمراقبة عن طريق مجموعة من القوانين والتشريعات وكذلك الأجهزة البوليسية نظرا إلى انتشار بعض المواد المحظورة مثل المخدرات، والأنشطة السياسية المعادية للإدارة الاستعمارية.
وظائف المقهى وأنواعه
لقد تعددت المقاهي وانتشرت بشكل واسع خلال القرن العشرين ومع بداية هذا القرن ولكنها تنوعت بتنوع الفئات والشرائح التي ترتادها وكثيرا ما يعبر شكل المقهى عن نوعية مرتاديه. فبالإضافة إلى دوره الترفيهي، لعب المقهى أدوارا ووظائف أخرى متعددة.
-المقهى الأدبي والثقافي
يشير رشيد الذوادي في الكتاب الذي أصدره سنة 1975 تحت عنوان (جماعة تحت السور) ان المقهى له وظائف عديدة لعل الوظيفة الأدبية والثقافية هي الأبرز.
وفي هذا الصنف من المقاهي لا يقع الاكتفاء بشرب القهوة والشاي وغيرهما من المشروبات أو تدخين (النرجيلة) الوافدة من تركيا مع أر ستقراطيتها السياسية والعسكرية، وإنما يقع استهلاك الإنتاج الأدبي والثقافي حيث يتحول إلى منبر لذلك الإنتاج.
ولعل مقهى جماعة تحت السور الذي كان في منطقة باب سويقة في حاضرة تونس مثال على ذلك حيث كان يلتقي الأدباء والكتاب والصحفيون والممثلون والرسامون.
ومن أبرز مرتادي هذا المقهى علي الدوعاجي. كما لعب الطاهر الحداد صاحب كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع “وكتاب “العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية” دورا كبيراً في حلقات الحوار والنقاش التي كانت تدور بمقهى القصبة بجوار مقر الحكومة التونسية، كما لعبت عدة مقاه أخرى أدوارا متفاوتة في هذا المجال أمثال مقهى القشاشين ومقهى الشواشين لقربهما من جامع الزيتونة ومن دار الكتب الوطنية بالعطارين. وقد تحولت هذه الظاهرة إلى شيء معتاد فكثيرا ما يلتقي أصحاب الاتجاه الأدبي أو التيار الثقافي في مقهى يتحول إلى منبر يجمعهم.
وهي ظاهرة غير مقتصرة على تونس وإنما انتشرت في كثير من العواصم العربية فالمقاهي الأدبية في دمشق هي مقاهي “البرازيل” و”شارع بورسعيد” و”مقهى الهافانا” وهي مقاهٍ كان يرتادها أدباء ومثقفون أمثال احمد صافي النجفي وبديع حقي وأنور العطار وشاكر مصطفى.. الخ. اما في مصر فلم يكن الأمر مقتصرا على القاهرة وانما انتشرت المقاهي في اغلب المدن وان كانت مقاهي القاهرة الأدبية والفنية والثقافية هي الأشهر لعل أبرزها مقهى الفيشاوي ومقهى ريش الذي احتضن ادباء كثيرين من أهمهم نجيب سرور وامل دنقل وعبد الرحمان الابنودي وجمال الغيطاني ونجيب محفوظ الذي كان يعقد فيه ندوات ادبية صباح كل جمعة يحضرها عدد كبير من المثقفين.
إعداد: سعيد أيت اومزيد