اعتاد المغاربة أن ترتفع نبرة وحدة الخطاب الدبلوماسي الجزائري، كلما اقترب موعد قاري أو أممي مرتبط بقضيتنا الوطنية، لدرجة أننا نتوقع الحدث وننتظر بين الفينة والأخرى تشفير الخطاب الرسمي المقنع وقراءة زوايا الهجوم والكلمات المستعملة واختيار توقيته وموعده وطبيعة الخطاب: هل هو مباشر أم نابع من حناجر مأجورة؟ وهلم جرا… لكن، مع اشتداد الأزمة الداخلية لجيراننا، وانكماش الإيرادات النفطية وتدني مكاسب الاقتصاد الجزائري، بجانب تراجع الدبلوماسية الجزائرية في فاعليتها إقليميا وعربيا وقاريا، ومرورها بأسوإ أوضاعها من جهة، وتموقع الدبلوماسية المغربية كفاعل قاري مؤثر، وعدولها قاريا عن سياسة الكرسي الخالي، وتنويع وتنشيط أجنحة دبلوماسيتنا، بروافدها الاقتصادية والثقافية والروحية، من جهة أخرى، خلنا أنّ دبلوماسية قصر “المرادية” ستحسن تقدير الهامش المتاح لها وتحرص على مزيد من التهدئة والرزانة والتعقل مع أقرب جيرانها ومع محيطها الجيواستراتيجي المتحول، انسجاما مع التقاطعات الدولية الكبرى، التي تفرض واقعا جديدا يستدعي ملاءمة الأدوار الدبلوماسية، في ظل احترام الحد الأدنى من الأخلاقيات المستَوجَب توفّرها لضمان سياق إقليمي هادئ يسمح بحضور مغاربي نوعي في القمة الأوروبية الأفريقية، والتي من المقرر أن تحتضنها دولة ساحل العاج يومي 29 و30 نوفمبر المقبل، بجانب تسهيل مهمة المبعوث الأممي الخاص إلى الصحراء، والذي يستعد لرفع تقرير إلى مجلس الأمن الدولي في شهر أكتوبر الجاري.
لكن وللأسف، وقائع الوضع على الأرض، والانزعاج المرضي للجزائر من مشاركة الرباط في مؤتمر القمة الأوروبية الأفريقية، والذي يأتي أشهرا بعد عودة المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، أعادت حليمة إلى عادتها القبيحة، وأصابت بالإحباط والتقزّز قمة هرم الدبلوماسية الجزائرية.
يحق للجزائر “الرسمية” أن تسير عكس مسار الدولة المغربية في قضية وحدتها الترابية، وأن تساند الأطروحة الانفصالية المعادية. وعليها، أن توضح أمام الملأ ما كسبه وما قد يكسبه الشعب الجزائري جراء ذلك، وأن تُبْرِزَ نقاط قوّة توجهها وتبسطها: فمقبول أن تتعارض المصالح وتتقاطع بين الجيران، لكن أن تعمد الدبلوماسية الجزائرية إلى كيل الشتائم الصبيانية والتّهم الرخيصة، بجرعات من السخرية والتندّر والتهجّم، ففي هذا تجاوز للحدود المقبولة.
فبالنسبة للمتابعين للعلاقة المتأزمة بين المغرب والجزائر، فالتصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الجزائري عبد القادر مساهل تمثل نقطة تحول خطيرة وغير مسبوقة. فجميع المؤشرات تشير إلى عداء متنام ومخطط له ببرود، الهدف منه مزيد من تأزيم الوضع مع الجار المغربي.
صحيح أن اللغة البذيئة والمتدنية التي استعملها وزير الخارجية الجزائري يمكن أن تعطي انطباعا بفورة غضب لا إرادية، تخفي غيرة مرضية لوزير مهووس وحاقد على المغرب، ولكن حقيقة تصرف الدبلوماسية الجزائرية تجاه المغرب لعقود مضت تبين أن “الكومبارس” يتغيرون، لكن “المسرحية” واحدة.
والجديد في الإخراج الأخير، هو أن الدبلوماسية الرسمية تبنت “رسميا” الخطاب العدائي المنحط والمتداول في الصحف الجزائرية المعادية للمغرب. فبعد ضبط النفس النسبي الذي ميز اللغة الدبلوماسية الجزائرية، المعتمد على اجترار التبرير الكلاسيكي للاستمرار في إغلاق الحدود البرية بين المغرب والجزائر (والتي تكلف الدولتين الجارتين نقطتين من الناتج الداخلي الخام) والتبرير غير العقلاني لدعم الطرح الانفصالي المعادي لوحدة المغرب الترابية، انتقلت الدبلوماسية الجزائرية إلى مرحلة تعمد الاستفزاز والإهانة الرخيصة كاستراتيجية هجومية، والابتذال كلغة وكتعبير دبلوماسي منحط، الغرض منها الإساءة إلى النموذج السياسي والاقتصادي المغربي الذي بدأ يربح النقط ويتموقع بقوة على المستوى القاري، برؤية واضحة وطوعية ونشيطة.
وما المحاولة اليائسة لتقزيم النظام البنكي المغربي والمساس بمصداقيته إلا نموذج لهاته الإهانات الرخيصة. والأكيد أن استراتيجية الانفتاح التي ينتهجها المغرب في قطاع المصارف تجاه القارة الأفريقية ساعدت في تعزيز النظام المصرفي وجعله بوابة أساسية لتمويل مشاريع التنمية وخاصة في بلدان غرب أفريقيا. وهذا التصرف هو في حد ذاته تعبير عن غيرة صبيانية ومرضية، جراء قدرة أجنحة المصارف المغربية على قيادة النظام المصرفي الأفريقي.
كما أن حديث وزير خارجية الجزائر حصريا عن “نجاحات” الجزائر مستدلا بمؤشر DOING BUSINESS (دوين بزنيس) ومتعمدا احتقار دول شقيقة كمصر وتونس والمغرب، هو تعبير عن غرور صبياني قل نظيره. وحقيقة الأمر، أن المغرب (رتبة 68) وتونس (رتبة 77) تتفوقان على الجزائر التي تتموقع في الرتبة 156 في تصنيف مؤشر DOING BUSINESS الذي يتضمن 190 دولة برسم سنة 2017.
لقد أوصلتنا الرداءة إلى مستوى متدنٍّ من أخلاقيات العيش المشترك. ويستشف من تصريحات وزير الخارجية الجزائري عبد القادر مساهل نفحة خبيثة من الكراهية تجاه الشعب المغربي، وهو الشعب الذي يسعى إلى تحقيق حلم المغرب الكبير. ولا شك بأن الشعب الجزائري يقاسمنا وحدة المصير والهدف. وهذه الإهانة الرخيصة في حق الشعب المغربي هي إهانة للشعب الجزائري. والشعبان الشقيقان المغربي والجزائري لا يستحقان مثل هذه الرداءة. فلنرتفع بدبلوماسيتنا وبساستنا أيها السادة، فالقاع قد ازدحم فعلا!
بقلم: عبد اللطيف أعمو