اعتبر الباحث الدكتور رشيد لبكرأستاذ القانون العام، أن المشروع التنموي ببلادنا، ما يزال يعاني من غياب الرؤية الواضحة، الشمولية، المتعددة الأطراف، المتكاملة والمندمجة.
وأضاف الدكتور رشيد لبكر، في حوار مع بيان اليوم، أن الدولة المغربية راهنت منذ البدء على القطاع الفلاحي، وأن هذا الرهان لم يكن في محله، على اعتبار أن المغرب يصنف من ضمن البلدان الجافة التي تعاني نقصا في الموارد المائية التي تبقي في الغالب مرتهنة بالتساقطات المطرية والثلجية. وفيما يلي نص الحوار.
>ما هو تصوركم للنموذج التنموي الجديد الذي يحتاج إليه المغرب، وكيف يمكن التأسيس له؟
> أولا، مازال المشروع التنموي ببلادنا يعاني من غياب الرؤية الواضحة، الشمولية، المتعددة الأطراف، المتكاملة والمندمجة؛ لذلك، فقبل الحديث عن النموذج التنموي المأمول، يجب أن ينصب النقاش حول الطريقة أو المنهجية الجديدة التي ينبغي الاعتماد عليها في صياغة هذا النموذج وتحديد مضامينه وترتيب أولوياته، دون أن تحتكر جهة ما، مهمة إعداد هذا النموذج والادعاء باختصاصها الحصري في ذلك، بل يجب أن يساهم في إعداده كل القطاعات الحكومية وغير الحكومية من قطاع خاص ومنظمات مهنية وإبداعية ورياضية فضلا عن مكونات المجتمع المدني وعموم الموطنين، عن طريق فتح حوار وطني، عام ومفتوح، يبدأ من المحيط وينتهي عند المركز، على شاكلة صياغة تقارير موضوعاتية تصاغ محليا وقطاعيا، ثم تدمج فيما بينها في صيغة تقارير تركيبية جهوية، وصولا إلى التقرير العام الوطني، الذي يعد الأساس الذي ينبغي أن يستند عليه عمل الخبراء في الصياغة النهائية للنموذج التنموي المناسب للمملكة، أعتقد أن هذه المنجهية التشاركية والأفقية هي التي ستؤدي بنا إلى صياغة نموذج متوافق بشأنه، يأخذ بعين الاعتبار مطالب المحيط وغايات المركز، مع التفكير في طرق التمويل وضبط أجندات التنفيذ وتحديد المسؤولين المناط بهم تنزيله على أرض الواقع. بمعنى آخر، إن النموذج الذي يمكن له أن يتلاءم مع واقع حال المغرب الراهن، لا بد أن ينطلق من المحلي أولا، بمعنى أن يركز على الجهات، باعتبارها المدخل الأساسي لتحريك عجلة الجهوية ببلادنا التي مازال سيرها متعثرا مع كامل الأسف، وأن لا يكون أحادي الرؤية، بحيث لا يتم التركيز فيه على تثمين فائض القيمة المادي فقط، بل لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار المؤشرات اللامادية أيضا عبر كل تجلياتها، اللغوية والإثنية والتراثية والثقافية وغيره، فضلا عن تحقيق عدالة مجالية بحسب إمكانات كل جهة مع تفعيل مبدأ التكامل والتضامن بينها. عالم اليوم لم يعد يعترف بالمقاربات القطاعية الضيقة، كما أن تنامي المشاعر القومية، تجعل التغاضي عن الحساسيات المحلية مسألة خطرة وحاسمة بل ومهددة لأي مشروع تنموي.
> في اعتقادكم، ما الأسباب التي أدت إلى فشل النموذج التنموي في حال ما سلمنا بوجوده؟
> من الممكن أيضا طرح السؤال بالصيغة التالية: هل كان لدى المغرب نموذج تنموي واضح أصلا يمكننا الحكم عليه اليوم بالفشل؟ الجواب في ظني يفيد النفي بطبيعة الحال. النموذج التنموي الوحيد الذي يبدو لي متكاملا من الناحية المبدئية هو ذاك المتعلق بالمناطق الجنوبية، في حين أن غيره من نماذج، هي عبارات عن برامج قطاعية، موضوعاتية، أكثر منها برامج تنموية بالمفهوم العام للكلمة. كانت هناك فرصة سنة 2000، عندما تم الإعلان عن الحوار الوطني حول إعداد التراب في عهد حكومة التناوب والذي أتى بمفاهيم جديدة في أدبيات التدبير الإداري والترابي بالمغرب، من مثل: الالتقائية والتكامل والاندماجية، وحاول وضع منهجية تشاركية مبتكرة لوضع ميثاق وطني حول إعداد التراب بالمغرب في صيغة قانون، وفق الصيغة التي أوردتها في معرض الجواب على السؤال الأول، كان من شأنها وضع نوع من التخصص الوظيفي الملائم لكل جهة حسب إمكاناتها و مؤهلاتها، ومن تم خلق نوع من التكامل والتفاعل فيما بينها، يكون فيها هذا الميثاق المنطلق أو نقل الفلسفة التي يرجع إليها لبلورة أي برنامج تنموي، وطنيا ومحليا، لضمان سير كل البرامج وفق رؤية واحدة موحدة وإيقاع ضابط متحكم فيه، لكن ولظروف تجهل لحل الساعة، ضيعنا هذه الفرصة الهامة، غير أن دعوة الملك الآن، إلى البحث عن نموذج تنموي جديد، معناه التفكير في منهجية عمل مغايرة، على مستوى بلورة التصور، تحديد الأولويات، وضع الخطط ووسائل التمويل، ضبط الأجرأة، مراقبة التنفيذ ثم تقييم الحصيلة كل على حسب موقعه، وبظني هذا، هو ما سيشكل التفعيل الواقعي لمبدئي: «ربط المسؤولية بالمحاسبة» و « الفعل أو الانسحاب»، اللذان أكد عليهما الملك في أكثر من مناسبة.
>حين نتحدث عن النموذج التنموي، نتحدث عن مختلف الفروع التي يتضمنها اقتصادية كانت أو اجتماعية أو سياسية أو غيرها، كيف يمكن العمل على تحقيق تكامل بين وتوزان بين هذه الفروع وبالتالي وضع تصور نموذج تنموي متكامل؟
> كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فالمفروض في المشروع التنموي الوطني، انه مشروع مجتمع ودولة، أو لنقل اختصارا هو مشروع مجتمعي شامل، وليس برنامجا قطاعيا، يخص منطقة أو قطاع معين، بل هو مخطط عمل شامل لكل أجزاء التراب الوطني، ولكل الأنشطة المزاولة فيه، سواء كانت ذات بعد اجتماعي أو اقتصادي أو تجاري أو سياسي أو رياضي أو إبداعي أو ثقافي، فالنظرة التنموية الحديثة لم تعد تقتصر على الإنتاجية المادية فقط، بل أضحت تنظر إلى الظاهرة الإنسانية في شموليتها العامة، بمعنى أن المواطن، لم تعد حاجته مقتصرة فقط على مجال واحد دون غيره، بل أضحى طموحه متطلعا إلى تدبير عمومي متكامل ومتفاعل مع كينونته الإنسانية في أبعادها المتعددة: شغل، سكن، ديمقراطية، صحة، تعبير، رياضة، فن، ترفيه، تعليم…والنموذج التنموي الذي نبحث عنه اليوم، من اللازم أن يتخذ هذه الصبغة الشمولية الكاملة، فلا يستثني أي مجال وإلا تحول إلى برنامج قطاعي محدود. صحيح أن المغرب راكم في السنوات الأخيرة العديد من هذه البرامج الإقلاعية، سواء على مستوى الفلاحة أو الصناعة أو الصيد البحري أو الرقمنة أو غيره، لكن تبقى الالتقائية هي الحلقة المفقودة بين كل هذه البرامج، التي أضحت أشبه ما يكون بالأرخبيلات المنعزلة عن بعضها البعض. من الإيجابي في هذا الصدد، الإشارة إلى أن الوعي بهذه الإشكالية أضحى حقيقة معروفة، لذلك جاءت هذه الدعوة الملكية التي تبحث، من جهة، على الالتقائية، ومن جهة أخرى، على دمج القطاعات الأخرى التي عانت وما زالت تعاني من التهميش وتستثنى من أي برمجة حقيقية، ثم إيجاد امتداد وظيفي لهذه البرامج على امتداد التراب الوطني، فهذا التكامل وهذه الشمولية هما الدعامتان الأساسية لبناء المشروع التنموي المأمول.
> يرى متتبعون أن المغرب يسير بسرعتين، من ناحية توجد مخططات ضخمة استفادت من أموال كثيرة، لكن بالمقابل أثرها على المواطن تبقى محدودة، فيما يتعلق بمستوى العيش والخدمات الأساسية والبطالة، ما السبيل إلى تحقيق عدالة في توزيع الثروة؟
من المفروض كي يكون جوابنا على هذا السؤال المهم موضوعيا، إجراء تقييم موضوعي لعمل هذه المخططات، من أجل مقارنة حصيلتها مع الأهداف التي حددت لها والأموال التي رصدت إليها، وأعتقد أن هذا التقييم من مسؤولية المجلس الأعلى للحسابات. وبصفة عامة يمكن القول، إن استفحال الهشاشة وضعف الخدمات الأساسية وتفشي البطالة، هي من بين الآفات التي كانت وراء الغضبات الملكية المتتالية، لا سيما وأنها أدت في العديد من المناسبات إلى اشتعال فتيل الغضب الشعبي وساهمت في تحرك الشارع وهذا مكمن خطورتها، حقيقة أن الخصاص مهول والمطالب متزايدة ولا يمكننا الجزم أن باستطاعة هذه المخططات الاستجابة لها كلها، لكن هذا لا ينفي أننا بالمغرب ما زلنا نعاني من مشاكل سوء التوزيع وتمركز الثروة وتهميش المحلي وتوسيع الهوة بين الطبقات الاجتماعية، لذلك فلا بد من أخذ هذه الأمور مأخذ الجد، ولن يتم تصحيح هذه الأوضاع، إلا عن طريق إعادة النظر في وسائل العمل المعتمدة ومناهج التدبير المتعبة، سواء على مستوى التنفيذ أو المراقبة المؤسساتيين، اقصد بذلك التحديد الدقيق لمدى مسؤولية الحكومة على هذه البرامج و توضيح دور البرلمان في فرض رقابته عليها. فإذا اتضحت المسؤوليات يكون التقييم موضوعيا.
> بالإضافة إلى ذلك، يبرز إشكال آخر، يتمثل في عدم تجانس البرامج الحكومية في مختلف القطاع، ومن مثل ذلك إطلاق عدد من المخططات دون أن إنهائها أو استكمالها، كيف يمكن الخروج من هذا النفق؟
> أنا لا أسميها بالبرامج الحكومية، إذ أن العديد منها، لا سلطة ولا ولاية لرئيس الحكومة عليه، بل أسميها بالبرامج القطاعية، إذ لو كانت برامج حكومية حقيقية، لخضعت لسلطة رئاسة الحكومة، على الأقل لضمان الحد الأدنى من التناسق والانسجام بينها. نحن اليوم، في وضعية، يعزف فيها كل برنامج قطاعي على وتره الخاص، ويشتغل بعيدا عن إيقاع الجوقة الحكومية. تكفي الإشارة في هذا الصدد، مثلا، إلى النزاع الذي قام بين رئيس الحكومة السابق ووزير الفلاحة حول رئاسة صندوق التنمية الفلاحية التي رصدت له ميزانية تعد بملايير الدراهم، وكلنا يذكر كيف حسم النزاع لصالح وزير الفلاحة، فأي صلاحية إذن ستبقى لرئيس الحكومة على هذا الصندوق بل على وزيره في الفلاحة أصلا. المفروض إذن، أن تناقش وتدبر البرامج في مجلس الحكومة وأن تكون جزءا من التدبير الحكومي المراقب من طرف البرلمان، ضمان للانسجام وتحقيقا لمبدأ الالتقائية بين جميع التدابير العمومية، وحتى لا تبقى هناك مراكز قوى أخرى خارجة عن العمل الحكومي. أقول هذا طبعا، على افتراض قوة رئيس الحكومة وحرصه على ممارسة صلاحياته كاملة. أعتقد أن الحل لمشكل هذه البرامج، هو خضوعها لسلطة رئاسة الحكومة أولا، ومن تم لرقابة البرلمان ثانيا، ثم إيجاد آلية للانسجام والالتقائية بينها، ولن تتأتى هذه الآلية إلا عبر قناة مشروع تنموي جديد، هدفه بلورة خطة عمل وطنية، ذات رؤية واحدة طويلة الأمد، تشاركية، اندماجية، شاملة، التقائية، وتكاملية.
>يرتبط نجاح النموذج التنموي بتحقيق نمو اقتصادي وتنمية اجتماعية بشكل متلازم، كيف يمكن فك الارتباط بين نسب النمو التي يتم تسجيلها بأداء القطاع الفلاحي، حتى لا يرتهن الأداء الاقتصادي والتنمية الاجتماعية بالتقلبات المناخية؟
> راهنت الدولة المغربية منذ البدء على القطاع الفلاحي، وأعتقد أن هذا الرهان لم يكن في محله، على اعتبار أن المغرب يصنف من ضمن البلدان الجافة التي تعاني نقصا في الموارد المائية التي تبقي في الغالب مرتهنة بالتساقطات المطرية والثلجية، هذا الاعتماد يجعل الدورة الاقتصادية بأكملها متوقفة على كمية المياه التي تجود بها السماء، وكلما كان هناك نقص في معدل التساقطات إلا وانعكس ذلك على معدلات النمو وانكمش الاقتصاد مع ما يصاحب ذلك من تأثيرات اجتماعية كبيرة، سواء على مستوى فرص الشغل أو ازدياد وتيرة الهجرة نحو المدن وإخلاء البوادي وغيره. الدولة أضحت واعية بهذا الأمر، وبدأت تفكر في كيفية فك هذا الارتباط عن طريق العديد من التدابير، منها تلك التي حملها برنامج المغرب الأخضر الذي حاول إحداث تغيير في أنماط الإنتاج الفلاحي، عن طريق التوجه نحو المزروعات البديلة التي لا تستهلك مياه كثيرة وغير المرتهنة بالتساقطات، لكن يبدو أن وتيرة هذا التغيير بطيئة أو على الأصح غير شمولية، بحيث مازالت بعض المناطق متشبثة بنمط إنتاجها ولا يبدو أنها على علم بما يبشر به هذا المخطط الشيء الذي يجعل معدل استفادتها منه ضعيفة، كما سجلنا إقدام مناطق أخرى على زراعات بديلة، لا تساهم في اقتصاد الماء بل تستهلكه بشراهة حد الاستنزاف (زراعة الشمام بمناطق زاكورة مثلا). وبعيدا عن الإنتاج الفلاحي، أعتقد أن على المغرب اليوم، المراهنة على تطوير تعليمه، والانفتاح على تخصصات جديدة، وتحفيز الابتكار وتدريب الخريجين على مهن العصر وتطوير الخدمات وتطهير مناخ الأعمال وتسهيل المساطر وتطوير قطاعات المناولة والخدمات عن بعد والرفع أكثر من جودة المناطق الحرة وتنمية الطاقات البديلة والصناعات النظيفة، وغيرها من قطاعات واعدة بالفرص، لا على مستوى خلق فرص الشغل، بل حتى على مستوى تمويل المشاريع وجلب الاستثمار. إن التغيرات المناخية التي بدأنا نلمس أثرها في السنين الأخيرة، تجعلنا نقول إن فك الارتباط بين النمو الاقتصادي والأداء الفلاحي ببلادنا لم يعد خيارا من بين الخيارات المطروحة، بل قدرا محتوما يجب التعامل معه بواقعية وعقلانية، إذ أن خلق البدائل ليست مسألة مستحيلة بقدر ما هي تخطيط واستثمار ورؤية ومشروع إرادة، ولدينا الدليل الواضح في تجارب الدول الشرق آسيوية، التي استطاعت تسلق سلاليم التنمية في العالم رغم معاكسة الظروف الطبيعية والمناخية.
>اختار المغرب، في السنوات الأخيرة، التوجه نحو فتح أبواب الاستثمار في المهن العالمية خاصة قطاع الطيران والسيارات، هل تعتقدون أن هذا التوجه كفيل بتأسيس نموذج تنموي قوي ومستدام؟
> ليس كفيلا بالطبع ولكنه عامل مساعد بكل تأكيد. دول الجوار من حولنا، تبدل كل ما في وسعها من أجل جلب استثمارات الشركات الكبرى العالمية ولا سيما في القطاعين اللذان ذكرتهما، ولا تتوانى في التعبير المباشر وغير المباشر عن تذمرها إذا سبقها المغرب إلى جلب هؤلاء المستثمرين الاستراتيجيين، لقدرتهم على خلق الرواج بالمناطق التي ينزلون بها لا سيما على مستوى خلق مناصب الشغل، باعتبارها أم المعضلات في هاته البلدان. إذن فبلادنا مطالبة إذن بتطوير أدائها ليكون محفزا أكثر على جلب الرأسمال الخارجي دون الاستهانة بمقدرات منافسيه، فهذا شيء ضروري لإنعاش الخزينة ومقاومة المشاكل الاجتماعية. لكن دون الاعتقاد، أن بإمكانية المراهنة على المستثمر الخارجي فقط تأسيس النموذج التنموي القوي والمستدام، لأن النموذج الذي تبحث عنه بلادنا، وكما سبقت الإشارة، هو اختيار دولتي وشعبي عام، تتقاطع فيه العوامل الاقتصادية مع العوامل الاجتماعية والبيئية والثقافية، ثم السياسية بشكل خاص. لا يمكن الحديث عن أي مشروع تنموي بدون وجود إرادة سياسية حقيقية، تؤمن بالتغيير ومستعدة لتحمل تبعات هذا التغيير، الذي بات مهددا لمصالح المنتفعين بواقع الحال السائد. بدون إرادة فعلية، مؤمنة بالدمقراطية ورافضة للاحتكارية ومهمومة بمطلب تحقيق العدالة الحقيقية مجاليا واجتماعيا، ستصبح مثل هذه الاستثمارات، مجرد رتوشات للتمويه بوجود مشروع تنموي، لا أثر له على أرض الواقع.
>ما السبيل إلى ضمان العدالة المجالية فيما يتعلق بتوزيع المشاريع التنموية في مختلف الجهات المغربية، وكيف يمكن الخروج من التركز الذي تعرفه جهات دون أخرى؟
> سؤال مهم جدا، والجواب عنه، مرتبط بحل الإشكالية الجهوية التي مازالت لم تأخذ مسارها الصحيح، رغم إرادة الدولة القاضية بتفعيلها والمعبرة عن استعدادها لهذا التفعيل في أكثر من مرة وفي العديد من الدرجات والمواقع. ما وقع مؤخرا بإقليم جرادة من أحداث مؤسفة وما حدث قبلها بالحسيمة، يجعلنا نقول بأن الظروف أضحت ملحة لتفعيل مؤسسة الجهة ومنحها كل الصلاحيات والإمكانات البشرية والمادية واللوجيستية كي تتحمل مسؤوليتها، يجب على الجميع أن يتخلصوا من عقدة المركز ويتحرروا من فزاعة الجهة التي يحاول البعض تصويرها ب « أنها حمالة خطر» تهدد وحدة الدولة. هذا مجرد وهم، لأن ما يهدد الدولة فعليا، هو توالي النكبات الاجتماعية وتفاقم اختلالا المحيط، مع غياب المخاطب المحلي المناسب، الذي بإمكانه التدخل في الوقت المناسب دون انتظار صفارة الحكم من العاصمة. الآن سمعنا بأن رئاسة الحكومة قد رصدت مبالغ مهمة لتدعيم صندوق التضامن بين الجهات، هذه خطورة إيجابية، تبقى إذن مسألة توضيح الحدود الفاصلة بين اختصاصات كل المتدخلين الجهويين والمحليين، وإنهاء زمن «الترهيب بالتعليمات»، مع توقيف كل الرؤساء الجهويين الضعفاء، المتخوفين على مراكزهم والمحتمين بالسلطة. لو قمنا بتفعيل الجهة كما يجب، وتركنا لنخبها أهلية اختيار النموذج التنموي المحلي المناسب في كل جهة، حسب إمكاناتها وطاقاتها، ووفق رؤية يتماهى فيها النموذج الجهوي مع خطة البرنامج التنموي العام في البلاد، فمن المؤكد، أننا سنفتح الباب أمام الجهات للتباري في جلب الاستثمارات المحلية والأجنبية و في غيرها من قطاعات. أما المتعثرة منها أو الفقيرة، فيمكنها الاستنجاد بصندوق التضامن تبعا لتقييمات موضوعية واستحقاقات عقلانية لا يد للتدبير الجهوي فيها، ساعتها ستصبح كل جهة هي المسؤولة عن الاختلال أو العطب الذي يطال مجالها الترابي، وستنقشع السحابة عن الذين يفعلون والذين هم لا يفعلون.
> ما هي الإجراءات الكفيلة بتقوية روح الثقة وتعزيز مناخ الأعمال الذي من شنه أن يرفع وتيرة الدينامية الاقتصادية؟
> هناك العديد من الإجراءات المتداخلة والمترابطة مع بعضها البعض، لكنها كلها تشترك في بعد واحد هو الدمقرطة، دمقرطة المؤسسات وتحسين أداء الإدارة على مختلف المستويات. لا بد من إجراءات قانونية أجملها في : وضع سياسة اللاتمركز حقيقي تواكب نظيرتها اللامركزية، وإصلاح القضاء عن طريق الزيادة في عدد المحاكم، عادية منها أو إدارية أو تجارية وتمكينها من أطر قضائية كافية وقادرة على البث في كل الملفات بالجودة والسرعة المطلوبتين، وإيجاد حل لمشكل تنفيذ الأحكام القضائية ولا سيما في شقها المتعلق بمنازعة الإدارة مع شركات القطاع الخاص، وتنظيم وإصلاح إجراءات التحفيظ العقاري وغيرها من معاملات عقارية لحفظها من التلاعبات والتراميات والمزايدات والمضاربات والتي كثيرا ما تكون السبب في فشل المشاريع الاستثمارية، والحرص على نزاهة تطبيق قانون الصفقات العمومية وطلبات العروض من المراوغات والزبونية والإقصاءات التي تتحكم فيها شبكة العلاقات النفعية، تطهير الإدارة من شتى مظاهر الفساد المعروفة وعلى رأسها الرشوة، والرفع من قدرة الجهات على تسويق مجالها وجذب المستثمرين وفق خططها الذاتية على النحو الذي أوضحنا في جواب سابق، تجويد الشبكات الطرقية واللوجيستية، وتبسيط المساطر الجمركية وتطهيرها، وتوفير شروط تمويلية مشجعة، والإسراع بالإفصاح عن السياسة النقدية الجديدة التي تريد البلاد تبنيها. هذه كلها جملة من الإجراءات، من شأنها التأسيس لعنصر الثقة لدى رجال الأعمال وتحفيزهم على استثمار الأموال وهم مطمئنين على مآل توظيفاتها على الأمدين القصير والبعيد.
> لكن في المقابل العديد من المنتقدين يقولون إن المقاولات تستفيد من مجموعة من الإجراءات الضريبية وتحفيزات مهمة غير أن مساهمتها في تحريك الاقتصاد تبقى دون الانتظارات؟
> ليس صحيحا تماما، فالمقاولات الصغرى والمتوسطة تعاني الآن في صمت، بدليل أن عددا كبيرا منها يعلن عن توقف نشاطه كل سنة، لعدة أسباب، منها الثقل الضريبي ثم عدم قدرتها على المنافسة بسبب انهزام الدولة أمام القطاعات غير المهيكلة والمهن العشوائية وكذا تقاعسها عن حماية بعض المنتوجات الوطنية رغم ارتفاع مؤشر مساهمتها في الاقتصاد الوطني، لا تنسى أن المقاولات الصغرى والمتوسطة هي المشغل الأول في الاقتصاد الوطني، فضلا عن إنعاشها لخزينة الدولة بمداخيل ضريبية مهمة. كان هناك برنامج لإنقاذ ودعم هذه المقاولات، لكن لا توجد – بظني- دراسة تقييمية شاملة لنتائج هذا البرنامج ولا لانعكاساته الإيجابية على واقع هذه المقاولات التي مازالت تعاني كثيرا، ويجب الإسراع بإنقاذها وتخصيص حيز هام في البرنامج التنموي المأمول لثمين أدوارها وإعادة النظر إليها، كعنصر منشط للرواج ومنعش لسوق الشغل وليست مشاتل ضريبية بالنسبة للدولة، فضلا عن فتح إمكانات أخرى أمامها، لاقتحام الأسواق الوطنية والخارجية، لاسيما بالنسبة للمقاولات التي تشتغل في بعض المهن الوطنية الأصيلة، التقليدية منها بالأساس، والتي لديها كل مقومات المنافسة لو وفرت لها التشجيعات المناسبة. أما بخصوص بعض الشركات الكبرى، فالعديد منها بالفعل، ذو امتيازات ريعية لارتباطه بلوبيات المصالح، التي يشترك فيها البعد الاقتصادي مع نظيره السياسي مع غياب الحس المواطني. لذا، فمن من المفروض على الدولة أن تعيد النظر في أسلوب تعاملها مع هذه الشركات وفق قاعدة «رابح رابح»، بدل الريع والاحتكار والامتياز والتفضيلية.
> ما هي في نظركم أسباب نزيف إفلاس المقاولات، وكيف يمكن الحد منه؟
> أغلب المقاولات المعلن عن إفلاسها هي من صنف المقاولات الصغيرة والمتوسطة، التي تجد صعوبة في تسويق منتوجاتها، أو تعاني من الإجحاف الضريبي أو عدم القدرة على مواجهة تقلبات السوق بفعل المنافسة الشديدة للقطاع غير المهيكل، وربما هذا ما يفسر توجه أغلب هذه المقاولات إلى قطاع الخدمات، الذي أصبح فيه التنافس قويا، يصعب أمامها فرص إيجاد حصص في السوق، ولو قمنا بدراسة التوزيع الترابي لأغلب هذه المقاولات المفلسة، سنجد أن غالبيتها يوجد بالمدن الصغيرة أو المناطق البعيدة عن المحاور الوطنية النشيطة، أي عواصم الجهات الكبيرة أو الشريط الساحلي ما بين القنيطرة والجديدة. وهذا ما يدفعني إلى القول من جديد، أن الحل الجذري لتجاوز هذه الإشكالية، فضلا عن تطهير المناخ الاقتصادي من كل مظاهر الرشوة والزبونية والضغط الضريبي والحيف في الصفقات وغيره، يتمثل في تفعيل البعد الجهوي وفتح المجال للجهات كي تلعب دورها في تحقيق التنافسية الترابية. أقصد أن تتنافس في إيجاد عوامل الجذب السكاني والنشاطي إلى مجالها الترابي، من خلال ما ستقدمه من امتيازات عقارية وجبائية وسكنية وبيئية وفضاءات بيع وترويج للمنتجات إلخ، أي خلق مراكز حضرية جهوية جديدة ذات إمكانات لإنعاش المقاولات وضمان استمرارها، فحيثما كان الجذب السكاني مرتفعا، ارتفاع معدل الجذب أيضا بالنسبة لمختلف أنواع الأنشطة الأخرى.
حاوره: حسن انفلوس