أكون أو لا أكون

وحدها السينما ما زال يتحكم فيها منطق السوق، الذي يذهب إلى حد أن يفرض بديكتاتورية شكلا معينا على الفيلم، ونمطا أحاديا للسرد، وقوانين ومحددات صارمة، أو لنقل مجموعة محدودة من الوصفات التي أثبت السوق فاعليتها وانسجامها مع ما يخلقه الإعلام من أفق انتظار عند الرأي العام، لأنها تتراوح بين صناعة الترفيه والتسلية وكوسيلة توجيه الرأي العام وفق سياسات المرحلة. جدلا، يكون هذا  الوضع مقبولا، نوعا ما في الغرب، حيث توجد سوق فعلية.. لكنه يبدو كوضع شاد حينما يفرض حتى على الفقراء مثلنا، الذين لا موقع لهم في السوق، ولا سوق لهم، حتى وإن يغيروا نمط تفكيرهم، لغتهم، جلدهم وطريقة اشتغالهم فإن ذلك لن يغير من وضعهم الذي هو في الحقيقية وضع هامشي يمكن أن نحوله بقليل من الذكاء لوضع يخلق شروط الإبداع والمغامرة. إننا نفكر في أنفسنا انطلاقا من آخر لا مُبالي تماما لما نقدمه من تنازلات لإرضائه، والأدهى أن لا نكون ملزمين بذلك.
يُطالب مخرجو هوليود بنوع من التنازل وبالدفاع عن منظومة من القيم التي في غالبها محافظة ووفقا لمجموعة من المعايير الفنية المحددة سلفا حتى وإن تعلق الأمر بأفلام بميزانيات بسيطة أو إنتاج مستقل عن الاستوديوهات، لأنه في كل الحالات الإنتاج مشروط بالسوق. إن تاريخ هوليود هو تاريخ الصراع بين المخرجين وبين المتحكمين في التوزيع، الشيء الذي فرض وما زال لغة وأنماطا سردية وفق عدد معين من الأجناس: الوستيرن، أفلام الرعب، الكوميديا الاجتماعية …
ما معنى أن تنتج فيلما يشبه، إلى حد الحلول والتوحد، فيلما أمريكيا بإمكانيات مغربية بسيطة وواقع مغاير تماما، لا تتوفر فيه شروط وتقاليد لإنتاج أفلام من هذا النوع. ما معنى أن تُحوِر واقعا وتُجهده وُترغمه ليشبه ديكورا فيلم معروف، وفي بلد يبعد بآلاف الكيلومترات والسنين. إن الأشكال الفنية هي وجهة نظر وموقف من العالم وليست تدابير تقنية محضة وموضوعية نستعملها أينما شئنا. ما معنى أن تقوم بكل تلك التضحيات ولا تجد من يصفق لك غير الفقراء الذين تحاول أن تتملص من الانتماء إليهم كما لو أنك تتنكر لذاتك وتحاول أن تقدم للآخر صورة عنك حتى لو كانت كاريكاتورية، إن اقتضى الأمر. اختار ارنست لوبتيش الهجرة للاشتغال في هوليود وللعمل في إطار صناعة أخرى وسياق اجتماعي وثقافي مغاير لكنه صنع أفلاما وكأنه لم يغادر البتة مسقط رأسه وثقافته، لقد حمل معه في حقيبته ثقافة بلده وهو يهاجر في سفر معكوس، فأغلب أفلامه صورت بهوليود لكن أحداثها تمر بعواصم أروبية وتُصنف بكونها أفلام أروبية. الآخر ربما ينتبه إليك قليلا، ربما عندما يحس أنه سيتعلم منك شيئا جديدا، عندما تكون صادقا مع نفسك وواقعك الذي قد تعرف وحدك نقله، لا يحتاج إليك لتعيد إنتاج ما يتقنه وربما يكون قد مله.
في فيلم “أكون أو لا أكون”، تضطر الفرقة المسرحية عندما تجتاح ألمانيا فرسوفيا، إلى المقاومة السرية، وتنجح في ذلك مستغلة موهبتها في المسرح، وتحويل القسوة إلى ملهاة مسلية. المقاومة تبدأ من المعرفة والوعي  بالنقطة التي نتوقف عندها، بمعنى عندما نبقى منسجمين بقناعة مع ذواتنا. لحظة الشك والتردد هي اللحظة التي يستغلها العدو لتحويلنا إلى كائنات ممسوخة وللإطاحة بنا. في فيلم “أكون أو لا أكون” يستغل العاشق وجود الزوج Joseph Toura على خشبة المسرح وإلقائه لمونولوغ “هاملت” المعروف: أكون أو لا أكون، ليلتحق بالزوجة  Maria Toura، لمحاولة استمالتها، لأنه يعرف أن الزوج عاجز ولو مؤقتا أن يبارح مكانه ولأن الشخصية التي يتقمصها مترددة وعاجزة عن الفعل. الشك والتردد سلاح ذو حدين.

بقلم: محمد الشريف الطريبق

الوسوم , ,

Related posts

Top