استقلالية المتعلم بين الرؤية الحالمة وواقع المدرسة المغربية

  يعتبر الخوض في مبادئ قيام المناهج التعليمية وكذا الأنظمة التربوية من أهم سبل تقييم وتقويم مدى نجاح هذه المناهج والأنظمة في الوصول لبلورة الغايات والأهداف العامة المؤسسة لتلك المبادئ في سلوكات الأفراد ومنهم المجتمع برمته. لنجد ضمن أهم المبادئ التي يقوم عليها النظام التربوي المغربي، ومنه مختلف المناهج التعليمية، مبدأ تنمية استقلالية المتعلم. وهو شعار لطالما نجده مكررا في العديد من الوثائق والمرجعيات الرسمية، ثم في العديد من المناسبات التربوية ضمن الخطاب الرسمي للوزارة. وهي حقيقة يقف عليها الممارس التربوي وكل من تناول المنهاج الدراسي بالبحث والتمحيص. فإشكال تنمية استقلالية المتعلم حظي ولايزال يحظى بالكثير من الاهتمام عند الباحثين والمهتمين بميدان التربية والتكوين في محاولات حثيثة للإجابة على عدة أسئلة قد نخصصها ونجمعها في سؤالين أساسيين اثنين وهما:

  • أي استقلالية لمتعلمي المدرسة المغربية وما مدى قدرتهم على تحمل مسؤولية تعلماتهم ونموهم العقلي والمعرفي؟
  • ما مدى جنوح المنهاج الرسمي لتنمية هذه الاستقلالية لدى متعلمي المدرسة المغربية وكيفية انضباطه لمختلف المعايير الاجتماعية الخاصة بالمحيط؟

إن نظرة التربية وفلسفتها القائمة على اعتبار المتعلم بمثابة الشريك الأساسي في عمليتي التعليم والتعلم ونفي كونه مجرد متلق ومستقبل لما يتم تسطيره في إطار السياسة التعليمية والمناهج الدراسية، لهو سبب تنامي التفكير وبجدية في كيفية تعزيز استقلالية هذا الشريك الأساسي وتجاوز كونه صاحب أداء سلبي وبدون مساهمة تذكر في بلورة الخطة التعليمية وتنفيذها للوصول إلى أفضل النتائج وتحقيق المماثلة المفترضة بين مواصفات المنتوج النهائي للمدرسة ومتطلبات الاندماج في المجتمع العصري القادر على مجابهة مختلف التحديات بنجاعة وفعالية. فرغم الاتفاق الكبير بين مختلف الباحثين حول أهمية استقلالية المتعلم كمبدأ أساسي لبلوغ درجة الكمال في تكوين الشخصية وبناء التعلمات، هناك قدر مهم من الاختلاف حول ماهية هذا المفهوم ووظيفته ثم تطبيقاته في ميدان التدريس وتدريس اللغات بشكل مهم، وهذا راجع لعدم وجود معيار معين وحقيقي لقياس هذه الاستقلالية. ففي حقل علم اللغة التطبيقي، مفهوم الاستقلالية متعدد الوجوه والاستخدامات مع عدة فروع منها السياسية والنفسية والفلسفية والثقافية بشكل لا يستهان به، فالشخص المستقل هو ذلك الإنسان الذي يتحكم في نفسه متحررا من كل أنواع السلط الخارجية ومن أوامر الآخرين وتدخلاتهم، وهو الأمر الذي يختلف فيه المغربي بصفة عامة عن مجموعة كبيرة من أفراد المجتمعات الأخرى بحكم العلاقات الاجتماعية السائدة واستمرار تقديس علاقات القرابة وإقرانها بحمولة دينية، ثم سيادة الجنوح أكثر إلى التباهي بالانتماء لمناطق جغرافية واستمرار براثن القبلية والتشبث بالعشيرة، إذ لا يمكن الحديث عن فرد مستقل دون تمتعه بالحرية الكافية لذلك والقدرة الضامنة لاتباعه نمط معين من العمل الخاص به.

من هنا يتضح بأن اعتماد منهاج دراسي تربوي في الأساس يعد تقويضا لهذه الاستقلالية التي يمكن اعتبارها بمثابة قدرة خاصة بالمتعلم لإدارة شؤون تعلمه من بدايتها إلى حين بلوغ غايات التربية وأهدافها شريطة عدم الاعتماد على أشخاص آخرين (مدرس-مربي-منشط…) ونفي كل تدخلات المدرسة بالأساس في اختيار وتقويم هذه التعلمات. فقد يكون الوضع الحالي للمدرسة المغربية ناتجا عن الفشل في اختيار التعلمات المناسبة لفئة المتعلمين والمتعلمات الحالية وكذا الأخطاء المتكررة والجسيمة في تقويم مدى اكتسابها واستثمارها من قبلهم في مواقف الحياة العامة. وبالتالي فالاستقلالية باعتبارها حالة مثالية لمتعلمي ومتعلمات الفترة المعاصرة تعني بالضرورة غياب التبعية والإجبار على العمل بكتب وأنشطة تعليمية محددة لكل أطفال المغرب بجدولة زمنية متطابقة بين الشمال والجنوب وبين مناطق الهامش والمركز، فتنمية استقلالية المتعلم تعني لزوما تخلصه من تدخلات مختلف العاملين في ميدان التربية والتكوين لتحديد المحتوى الدراسي الذي نجده في الغالب بعيدا كل البعد عن إمكانيات ورغبات هذا الكائن الصغير الذي لا يأبه أي متدخل لرأيه ومنطقه في رؤية العالم من حوله، فالمدرس والمربي بهذا المفهوم سيفقد معظم أدواره ووظائفه، وبشكل خاص وظيفة التعليم، ليصبح ميسرا ومسهلا لتعلم الموارد التي يرى المتعلم بأنه في حاجة إليها لإيجاد حلول لمشكلات مرتبطة أساسا بواقعه اليومي والخروج منها بنجاعة كافية لتركيز هذه الحلول كمعطيات وخبرات تعلمية في الذهن يتم اللجوء إليها في وقت لاحق لتجاوز كل الوضعيات المكافئة. كما أن وظيفة المؤسسة التعليمية ستعيش تحولا كبيرا نحو اعتبارها هيكلا تعليميا يكون التحكم فيه في يد المتعلم والمتعلمة ضمن نظام تعليمي تعلمي يتسم بالمرونة الكافية واللازمة لتجاوز الخطاب الصفي المبني على الإلزام والإجبار في مقابر الترغيب والتحبيب وفهم شخصية المتعلم مع خلق وضعيات محفزة على الانخراط والمشاركة للوصول بالمدرسة المغربية في النهاية إلى إرساء نموذج للتدريس قوامه المهمة والتمركز الفعلي حول المتعلم.

فرفع شعار “تنمية استقلالية المتعلم” يستوجب من المدرسة المغربية اقتراح نموذج نظام تربوي يقوم على:

  1. الحد من التدخل في تحديد التعلمات والمحتوى الدراسي مع ما يتطلبه ذلك من مساعدة المتعلم على استحداث نمط ووثيرة خاصة لأدائه الشخصي في التعلم قصد تجاوز الظواهر السلبية التي نعيشها من هدر مدرسي وانقطاع دراسي وغش في مختلف الامتحانات التي يراها المتعلم قياسا لمدى خضوعه للآخر الراشد الذي تكفل بتلقينه.
  2. إشراك المتعلم في تسطير الأهداف التعلمية والمساهمة بقوة في برمجة المحتوى الدراسي وتقسيطه بشكل يراعي خصوصا البحث عن حلول للوضعيات ومختلف المشكلات والظواهر التي تجابه هذا الفرد الاجتماعي في مختلف مراحل حياته، وهذا رغبة في تحقيق المساعدة والإعانة اللازمتين لهذا المتعلم لبلورة استراتيجيات تعلم مناسبة وممارسات تقويمية لمراقبة التعلم وتصحيحه.
  3. تجاوز القناعات الاجتماعية للمتعلم والأسرة والمدرسة وكل الفئات الاجتماعية وتحفيز دافعية الكل لبلورة نظام تعليمي قادر على استيعاب مختلف درجات الاستقلالية وتجاوز نظرة الخوف من فقدان الأدوار أو القيمة الاجتماعية.

فغالبا ما يتم حصر الاستقلالية عند المتعلم في التدريب على مجموعة من الاستراتيجيات والأساليب والمهارات التعلمية المحدودة، وكمثال على ذلك الدرس القرائي الذي يفرض قيودا صارمة في اختيار النصوص التي ستكون بمثابة حوامل قرائية، ومنها التزام خلفية معرفية محددة سلفا وموافقة للسياسة التعليمية التي لا يمكن فصلها عن السياسة العامة للوطن، وبالتالي يكون الهدف الأسمى لهذا الدرس هو تدريب المتعلم على فك الرمز وفهم المحتوى قصد استثماره في مواقف أخرى، وطبعا بعد خضوعه للتدريب الكافي على هذه الاستراتيجيات والأساليب المعتمدة في نظام تعليمي فوقي ينطلق من مواصفات المنتوج المرغوب وليس من خصائص الفئة المستهدفة في إطار استقلالية تقنية فقط للاستجابة بشكل كبير لرأي الفئات الاجتماعية المهيمنة، والتي ترى تحمل المسؤولية من قبل المتعلم واستقلاليته بمثابة مغامرة اجتماعية غير محمودة العواقب بحكم كون المجتمع بنيان وتراص لمجموعة من البنيات التي تسعى دوما إلى الثبات ونبذ التغيير لتعزيز البقاء من خلال إعادة إنتاج نفس التنشئة ونفس الفئات الاجتماعية. فانعدام القدرة لدى المدرسة المغربية على بلورة نموذج للتعلم الذاتي باعتباره أساليب وطرق تربوية لتوجيه المتعلم خلال فترة الحجر الصحي، وهو أمر مثبت بالدراسات وخلاصات التقارير الرسمية، ليعد أكبر مؤشر دال على انعدام القابلية والقدرة على العمل المؤدي إلى تعزيز استقلالية المتعلم المغربي وبالتالي فقدان الفرص السانحة لتدريب المتعلم على تحمل المسؤولية الكاملة في اختيار التعلمات وتقويمها للاتصاف بالشجاعة الكافية الميسرة للإفصاح عن التعثرات بشكل طوعي يساهم في إكساب هذا المتعلم التصحيح اللازم والنجاعة الكافية لمجابهة مشكلات وإكراهات البيئة المحيطة به، ويبقى هذا الشعار مجرد رؤية حالمة لصقل قدرة المدرسة المغربية باعتبارها مؤسسة اجتماعية تمتلك من الوسائل والإمكانات ما يوصلها إلى تحقيق التغيير الاجتماعي وبالتالي نفي كل المعايير الاجتماعية الميالة إلى الثبات ونبذ التطور.

بقلم: سعيد اخيطوش

باحث في قضايا التربية والتكوين- مفتش تربوي بمديرية خنيفرة

Related posts

Top