تتميز الحملة الانتخابية هذه السنة بلجوء الأحزاب والمرشحين إلى منصات التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنيت لمخاطبة الناخبات والناخبين، وذلك بسبب إكراهات الحالة الوبائية الوطنية والتدابير الاحترازية المعتمدة من لدن السلطات.
الأحزاب، تبعا لذلك، اعتمدت أشكال جديدة في الدعاية الانتخابية، وابتكرت أنماط مغايرة في التواصل مع الناس…
بعض هذه القوى السياسية حافظت، مع ذلك، على أساليب طرق الأبواب وزيارة المنازل وتنظيم جولات اللقاء المباشر بالناس في الشارع، وعمدت أيضا إلى إقامة بعض التجمعات، ولكن الغالب كان هو اللجوء إلى الدعاية الرقمية، وبالتالي برزت شبكة الانترنيت كدعامة رئيسية في التواصل السياسي والانتخابي مع الشعب.
هناك أحزاب سبق أن جربت هذا التواصل الرقمي منذ سنوات، ومن ثم راكمت تجارب وخبرات على هذا المستوى، ولكن معظم هذه القوى تعاقدت هذه السنة مع خبراء ووكالات اتصال مختصة، وهذا فتح باب التطلع نحو تطوير العمل في هذا القطاع بدوره وتأهيله، أي قطاع وكالات الاتصال المهتمة بالعمليات الانتخابية والممارسة الحزبية والسياسية، وخصوصا أمام ما أصبحت توفره اليوم الانترنيت والتكنولوجيا الرقمية من إمكانيات جديدة لتنظيم وإدارة الحملات الانتخابية والتواصل مع الناخبات والناخبين.
من المؤكد أن الاهتمام الواضح اليوم بتكنولوجيات الانترنيت والتواصل الرقمي في الحملات الانتخابية والعمل السياسي سيزداد في المستقبل، وسيتكثف اللجوء إلى هذه الدعامات الحديثة، وربما ستتاح فرصة تقييم هذا التحول عقب انتهاء المسلسل الانتخابي الجاري حاليا، ولكن المعطى موجود فعلا، ويجب استحضاره عند مقاربة تبدلات فعلنا الحزبي والانتخابي وسوسيولوجيتهما العامة.
عدد من المرشحين هذه السنة، أفرادا وأحزابا، استثمروا مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضا الصفحات والحسابات الشخصية، وقاموا بنشر صورهم الدعائية والتعريف ببرامجهم الانتخابية وشعاراتهم ورموزهم، كما عمدوا إلى نشر فيديوهات ومقاطع مرئية مصورة وكبسولات منجزة، والبعض بث لايفات، كما جرى تنظيم ندوات وتجمعات رقمية تفاعلية عبر تقنية التناظر المرئي، علاوة على ما توفره هذه الفضاءات الرقمية كذلك من تعليقات المتابعين والجمهور، وفرص التفاعل المباشر بين المرشحين والناخبين…
وبقدر ما وفرت التقنيات الرقمية خدمات وفرص جديدة وجاذبة أمام القوى السياسية والمرشحين، وأتاحت زخما في النقاش الانتخابي المباشر مع الجمهور ورواد شبكة الانترنيت، فهي أيضا أثارت مخاوف وتساؤلات، وعرضت أمام المتابعين تحديات يجب على بلادنا أن تهتم بها مستقبلا.
العالم الرقمي يتيح لأي كان أن يقول ما يريد، ولو تعلق الأمر بخطاب مبالغ فيه أو وعود معلقة في السماء، كما أنه يسمح بالترويج لخطابات تهاجم المنافسين وتشوه صورتهم وسمعتهم، وتنشر القذف والتشنيع والتمييز في حقهم…
وخلال هذه الحملة الانتخابية نفسها لاحظنا توالي نشر صور مفبركة وغير صحيحة، كما جرى الترويج لأخبار زائفة ومغالطات وأكاذيب في حق منافسين…
ويعرف الكل أن تقنيات بسيطة تسمح في الفضاء الرقمي بتحريف الصور والتصريحات والتعليقات، وقد تصل عواقب هذه الخروقات إلى حد إنهاء مسارات سياسية وشخصية بعد تشويه أصحابها ونشر مغالطات وأكاذيب في حقهم.
وتتفاقم هذه المخاطر، أساسا، جراء لجوء جهات حزبية إلى توظيف خبراء وأشخاص مدربين على مثل هذه الأساليب غير القانونية، وذلك ضمن ما يعرف بـ«الجيش الإلكتروني» أو«الذباب الإلكتروني»، علاوة على إغراق صحف ومواقع إلكترونية بإدراجات إشهارية ودعائية مؤدى عنها، والقيام بذلك لدى عناوين عديدة، ما يسهل «إغلاق» هذه السوق أمام المنافسين، وبالتالي يطرح ذلك مشكلة مساواة الأحزاب المتنافسة في الدعاية الانتخابية الرقمية، وجعلها مرتبطة بحجم الموارد المالية المتوفرة لهذا الحزب أو ذاك.
إنها الإشكالية الأولى المطروحة أمام الحملات الانتخابية الرقمية، أي مساواة كل الأطراف السياسية والحزبية في الولوج إلى الحق في الدعاية والتعريف ببرامجها.
أما الإشكالية الأخرى، فهي المتصلة بالقواعد القانونية والأخلاقية، وضرورة تطوير المقتضيات القانونية والمؤسساتية والتنظيمية والرقابية، فضلا عن الأدوات والآليات التقنية المناسبة، وذلك بغرض التصدي لكل المشاكل والسلبيات التي تنجم عن استعمال التكنولوجيا الرقمية…
وبالإضافة إلى التأهيل القانوني والتنظيمي والمؤسساتي، هناك كذلك ميكانيزم الرقابة والتتبع الآني لما يتم ترويجه، فضلا عن الارتقاء بدور القضاء على هذا الصعيد، وتقوية خبرة وتكوين القضاة في مواجهة هذه الخروقات المستجدة، وحماية المواطنات والمواطنين من التضليل والأخبار الكاذبة، ومن التعدي على معطياتهم الشخصية والتصرف فيها ضد القانون، وأيضا تمكينهم من آليات للبث العاجل في كل المنازعات ذات الصِّلة.
ثم هناك أيضا دور الملاحظين المستقلين للعمليات الانتخابية، وأهمية الارتقاء بكفاءاتهم العملية والقانونية والتكنولوجية بغاية تمتين قدرتهم على رصد الخروقات الناجمة عن استعمال التكنولوجيا…
كل هذا لا شك أنه سيزداد الحديث عنه مستقبلا، ومن المؤكد أيضا أن دولا أخرى تعاني من ذات المشكلات، ولكن من الضروري تعزيز انتباه بلادنا لتفتح هذا الورش المتعلق بتطوير القوانين والآليات التي من شأنها تمتين قواعد الإنصاف والمساواة والشفافية واحترام الأخلاقيات، فضلا عن حماية المواطنين من التضليل، والحرص على معطياتهم الشخصية، وبالتالي تعزيز جودة الحكامة العامة في استعمال التقنيات الرقمية، وجعل هذا التحول يكون رافعة لتأهيل منظومتنا الانتخابية والسياسية وتقوية مصداقيتها، وفِي نفس الوقت صيانة التعددية والانفتاح…
<محتات الرقاص