ظاهرة سلبية أخرى تسربت في الفترة الأخيرة إلى حقلنا الصحفي، خصوصا على مستوى الكتابات المتابعة لمشهدنا السياسي الوطني، ولمواقف الأحزاب والحساسيات المتنافسة، ويتعلق الأمر بإصرار بعض الكتبة، عند تقديم موقف حزبي معين، إلى البحث له دائما عن مبررات من خارج حقله الدلالي، ومن خارج السياسة ككل، أي أن كل موقف يتم التعبير عنه، برأي هؤلاء «المحللين» الجدد، تكون وراءه حسابات ذاتية أو مصالح شخصية، ولا يمكن، في نظرهم، أن يكون تعبيرا عن موقف سياسي أو مبدئي.
في جلسة الخميس الماضي بمجلس النواب، أقدم فريق التقدم الديمقراطي على سحب تعديله الرامي إلى خفض العتبة المطلوبة لتشكيل فريق نيابي، وصوت إلى جانب بقية الفرق على النظام الداخلي للغرفة الأولى، وكانت الخطوة رسالة إلى الجميع بأن المطالبة بجعل العتبة المذكورة محصورة في 15 نائبا أو حتى في 18 كان الهدف منها جعل النظام الداخلي أداة لحماية التعددية الحزبية والسياسية، وتمكين مختلف تيارات الرأي المتواجدة في المجتمع من التعبير عن ذاتها من داخل المؤسسة التشريعية، وجعل هذه الأخيرة الفضاء الوطني الرئيسي للتعبير السياسي، بدل أن يتم دفع حساسيات سياسية وفكرية بكاملها إلى حصر تواجدها في… الشارع.
هذا هو المبدأ، وهو ما سبقتنا إلى العمل به برلمانات بلدان عريقة في الديمقراطية. لكن طبقتنا السياسية والحزبية ضيعت جوهر هذا النقاش، ولم نسمع أحدا يناقش حزب التقدم والاشتراكية في المبدأ، بل إن البعض جعل التشريع فعلا هذه المرة ضد فريق معين، ويستهدف حزبا محددا، وكأن هذا هو رهانه الوحيد في السياسة، وفي الحياة.
قالوا إنهم ليسوا في البرلمان كي يشرعوا لمصلحة فريق معين، ولكن لم يجيبونا كيف صاروا يشرعون ضد هذا الفريق نفسه…
فعلا، كان الموقف مؤسفا، وكان بعض الذين يحسبون أنفسهم زعماء صغارا حقا حد… التقزز.
وعند بداية الأزمة التي افتعلت داخل الأغلبية وحواليها، خرج الحزب نفسه ينادي بقية الشركاء إلى تحكيم العقل، واستحضار المصلحة العليا للبلاد، فكان الرد «سمعنا، ولن نفعل»، وكتب بعضهم أن التقدم والاشتراكية لا يفكر سوى في الحقائب الوزارية، وبأنه يفعل المستحيل من أجل ألا يغادرها أو تغادره، وخلص البعض الآخر إلى أن الحزب سيكون أكبر الخاسرين من هذا السيناريو المتوهم أو ذاك. ولما شدد الحزب على ضرورة تفادي إقحام جلالة الملك في نزاع مفتعل داخل الأغلبية، قوبل موقفه بالتهجمات والسباب، واستهدف قياديون منه في أشخاصهم، وشنت عليهم حملات القذف والتشنيع. لكن عندما انتهت المآلات إلى نفس ما سبق أن قال به التقدم والاشتراكية، أصيب الكثيرون بالخرس، ولم يعتذر أحد، ولم يستوعب بعض الكتبة أن المواقف بالنسبة للمناضلين والقوى العريقة تحركها المبادئ أولا.
فمنذ تشكيل الحكومة الحالية، والحزب يقول ويكتب ويصرح بأن الإصلاح لم يبدأ معها، وإنما هو مسلسل انطلق منذ حكومة التناوب التوافقي، وفي نفس الوقت يقول الحزب بأن مصلحة البلاد تتطلب تقوية السير وفق قواعد المنهجية الديمقراطية واحترام ما أفرزته صناديق الاقتراع، والحرص على تحصين بلادنا وحماية استقرارها العام، ومن ثم الانخراط في الدينامية التي أسست لتحالف الأغلبية الحالية ومساندة الحكومة الحالية وتشجيعها على مواصلة الإصلاح وإنجاح مسلسلات التنمية خدمة لمصالح بلادنا وشعبنا. لكن مرة أخرى كان عسس الكلمات في زوايا المشهد يؤولون، ويستخرجون من الكلام عكسه.
وعندما جاء خطاب العرش منتصرا للوضوح، وقابضا على العقل وحكمة المواقف والأشياء، لم نر بعض ممتهني المزايدات يتراجعون، أو يعتذرون، وإنما هم صمتوا.
البلاد دائما تحتاج إلى العقلاء من أبنائها، لأنه عندما يسود التيه، ويصير الشارد من الكلام موقفا وإبداعا، هنا بالذات يصير العقل ضرورة، ويصير بعد النظر واجبا وطنيا، ونصير كلنا في حاجة إلى القوى العقلانية التي تفكر في المستقبل، وليس فيما علق بأنفها.
[email protected]