مبدعون مازالوا بيننا -الحلقة 13–

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض المعالم النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

محمد لڭزولي.. “مديح اليومي” (الحلقة 12)

محمد لڭزولي (2015 – 1937) رسام عصامي ارتاد عالم الرسم منذ عام 1959، وكان ينتمي إلى جماعة الرسامين الفطريين بالرباط، إلى جانب فاطمة وزوجها حسن الفروج وأحمد الورديغي وميلود الأبيض وإبراهيم الكتبي وغيرهم. نظم منذ عام 1960 عددا لافتا من المعارض الفردية والجماعية بمختلف المدن المغربية، وكذا بالجزائر وفرنسا وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية. من آخر معارضه الفنية، نذكر “مديح اليومي” الذي احتضنه رواق باب الرواح بالرباط طيلة شهر أكتوبر 2009. تشكل بعض لوحاته متنا بصريا بمتحف الفن البروت في قلب لوزان. بيعت أعماله التشكيلية بعدة فضاءات وسائطية متخصصة في المزاد العلني على نحو متواتر، معظمها من فئة الرسم بالألوان المائية.
تنفرد لوحاته الصباغية بالطابع الخيالي، حيث تعـج بالكائنات والحيوانات المستوحاة من حكايات ألف ليلة وليلة، فضلا عن لوحات تعبيرية وثق فيها مشاهد المدينة القديمة والأسواق والحرفيين: مشهد الصيد، الحدائق… كما يستحضر، بشكل مبهج واحتفالي، العادات والمواسم والمقاهي والجوانب المتنوعة والمتعددة للثقافة المغربية، مستعملاً في ذلك ألوانا طرية ومكثفة لا مجال للفراغ فيها. يقول لڭزولي: “لقد اخترتُ أن أعبر في بعض لوحاتي عن العديد من المهن التي كان المغاربة يمارسونها، ولاحظت أن الفن التشكيلي المغربي لم يهتم بتوثيقها… قمت بهذه العملية، لاسيما في ظروف كانت فيها هذه المهن مهددة بالانقراض” (حوار مع محمد لڭزولي، المنعطف الثقافي، 25-26 أكتوبر 2008).

ضرب من الفينومينولوجيا البصرية


كتب الباحث الجمالي والمفكر محمد الشيكَر نصا ضافيا حول تجربة المبدع لڭزولي ارتأينا أن ننشر هذا المقتطف منه: “ينتسب منجز محمد لڭزولي إلى هذا السجل الإيقونوغرافي العصامي المغربي، ويعد أحد أساطينه الفطريين المائزين. ولقد عايش هذا الفنان السلاوي الحركة التشكيلية الفطرية، في سائر مناشطها ومفاصلها؛ من أشد لحظات الانكفاء والتهميش إلى أبهى مدارج التألق والفرادة. وقيّض له أن يشهد خروج الأثر البصري الفطري من قوقعة المحلية شطر مراقي الكونية، وتألقه في المحافل الفنية الدولية.
كابد محمد لڭزولي اليتم في ميعة طفولته، ولأن ظروف الفقد والفاقة كانت شديدة الوطأة عليه، فقد ألفى نفسه مدفوعا به إلى تيار الحياة الهادر الفوار، حيث احترف حرفا كثيرة تستدعي إنفاق الجهد العضلي، ومكابدة مشاق العمل ووعثائه. وكانت حاضرة سلا آنئذ، أي غداة أربعينيات القرن المنصرم وقبلها، مشهورة بحرفها ومهنها التقليدية من حصارة ونجارة ودرازة وخرازة وحجامة ووشي وحياكة وزراعة وما إليها. عمل محمد لڭزولي حلاقا وخياطا تقليديا ومزارعا، وبقدر ما كان يتوخى من تقلبه بين جُماع من الصنائع لسد الرمق وتوفير لقمة العيش، فإنه لم يكن ينفك في ذات الآن عن استقراء مخبوء حياة الناس البسطاء، ومشاركتهم شظف العيش وضيق اليد وقوة البذل، وحرص على توثيق ذلك في ضرب من الفينومينولوجيا البصرية التي تنقل إلى صعيد الرؤية الشعورية ما يحبل به الوعي من مدركات، وما ينطبع فيه من ماجريات ونوازل وأحداث في انبثاقه الـخام وطراوته العفوية التي لم يفعل فيها الوعي النظري أفاعيله. وشرع لڭزوليفي التعاطي البصري مع تفاصيل الحياة اليومية ومروياتها وأيقوناتها ابتداء من سنة 1957 برفقة كل من أحمد الورديغي وميلود الأبيض وحسن الفروج وإبراهيم الكتبي. وتفتقت مواهبه الفنية في المراسم التي كانت تشرف عليها جاكلين برودسكيس تحت رعاية وزارة الشباب والرياضة من سنة 1950 و1964، والتي استطاعت بفضلها أن تطبع جزءا فارقا من كارتوغرافيا التشكيل بالمغرب. لم تكن الفنانة برودسكيس تحث طلابها على تقفي منزع تعبيري مخصوص أو اعتماد أسلوب فني بعينه، إنما كانت تدفعهم إلى القبض على مظان التعبير البصري، التي تناسب ممكناتهم وخياراتهم الإستتيقية باعتبارهم يمثلون أقلية تشكيلية أو يُبدعون “تشكيلا صغيراً” ضمن نسق بصري عالِم له ضوابطه وشرائطه. وبالرغم من أن جاكلين برودسيكس لم تكن فطرية المنزع، إلا أنها لم تكن تجد ضيراً في حثِّ محمد لڭزولي أو زملائه على المضي فيه، واتخاذه أسلوبا تعبيرياً مخصوصاً”.

التشكيل لسان حاله وترجمان بصيرته


من أسماء الحركة التشكيلية المغربية الحديثة، هو لڭزولي الذي أخلص إلى جذوره السامقة في أغوار ذاته الطفولية ولا وعيه الجماعي. لم يسقط في أية نزعة نرجسية أو استعلائية، بل ظل على عكس ذلك وفيا لطبعه قبل تطبعه. فلوحاته شبيهة بإنسيته وبشخصيته الاجتماعية. حاورناه مرارا حول مضامين لوحاته البسيطة إعدادا وإنجازا، ولا نقول “التبسيطية” لأن في بساطة الأسلوب والتركيب عمقا فطريا يعز عن الوصف. تكتسي لوحاته طابعا شعبيا وسرديا في الآن ذاته، مما يجعلها تكتفي بذاتها على مستوى تأويل دلالاتها الصورية – البصرية والسردية معا. تمكن هذا الفنان العصامي من ترجمة كل ما هو مألوف في المتخيل الشعبي المغربي، فاتحا مسارب مغايرة. الأمر يتشاكل مع فعل الكتابة التأويلية التي تمسك بخيوط المعاني الناظمة، وتضفي إيحاءات جديدة على كل ما هو منذور للتلقي البصري. جاور وحاور المشاهد اليومية والسير ذاتية والسير غيرية على طريقة الحكواتيين أو الشعراء الجوالين، مما أهل لوحاته لتحقيق درجات تصاعدية على مستوى التفاعل والتجاوب خاصة مع الأوساط الثقافية الدولية التي لم تسقط عليها أحكاما اختزالية مسبقة من قبيل: الفن الساذج، أو الفن التبعي، أو الفن الكولونيالي، أو الفن المهمش والمغمور. تعاملت الأوساط المذكورة مع لوحاته، حسب ما صرح به لنا في لقاءات متوالية، كدرر إبداعية وتحف تشكيلية استطاعت، بميسمها البصري الخاص، أن تصوغ رؤية جديدة لروافد عيشنا المشترك بكل معالمه الإثنوغرافية المتجذرة، الماضوية منها والراهنة. اختار لنفسه هذا المسلك التعبيري لأنه لسان حاله وترجمان بصيرته، مبلورا معالجته اللونية والمشهدية خارج مدارات الفنانين العصاميين من جيله: لم يرسم على طريقة محمد بن علي الرباطي، أو محمد الحمري، أو محمد بن علال، أو أحمد الورديغي، أو حسن الفروج، أو عباس صلادي…

“رغبت في أن أحكي بالريشة، فهي قلمي وصوتي وعيني”
نفض لڭزولي الغبار، بالفعل، عن هذه الروافد والمعالم المهددة بالنسيان والمحو والطمس والأفول. لقد منح لتاريخنا الفطري المشترك عبقه الفريد، ناقلا بعين بصرية عذراء سحر ما واكبه وصاحبه وعايشه حد التماهي والاندماج، كاسبا بذلك رهانا نوعيا مزدوجا: رهان عيانية الموروث البصري ومعيشه، ورهان عيانية العمل الفني وفرادته.
أسر لنا لڭزولي في لقاء مفتوح معه بمحترفه بسلا: “لوحاتي جزء من ذاتي. تروي قصة حياتي بكل مراحلها. أرسم كما يكتب الآخرون. أرسم كما يحكي الرواة الشعبيون”. منذ البداية، استهواه الرسم وتقنياته الصباغية التي تملّك أسرارها في حضرة جاكلين برودسكيس بناء على معاشرته للفنانين المعاصرين له. كان يعلم بالفراسة والسليقة أن الصورة التقنية (تقنية التصوير الصباغي) ساهمت في دمقرطة الوعي بالوجود والكائنات، وجعلت اللوحة في متناول المشاهدين أو المتلقين البصريين (نتذكر ما كتبه والتر بنيامين في مؤلفه “الفن في عصر التقنية”).
شخوص رسومه هم أبطال رواياته البصرية الذين اشتغل على انطباعاتهم بتريث ودأب ومثابرة. يقول لڭزوليفي هذا السياق: “كنت أحلم دائما بالتصوير. كل ما أراه عبارة عن لوحات تسجيلية حية. تثيرني الحكايات المسرحية والسينمائية والروائية. رغبت في أن أحكي بالريشة، فهي قلمي وصوتي وعيني”. أسس حداثته البصرية المستقلة على القماش واللوحة المسندية أو المؤطرة، دون انجراف مع تيارات ومغامرات الحركة البصرية الجديدة بمنجزاتها وتنصيباتها.

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Top