مبدعون مازالوا بيننا -الحلقة 13-

تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

مريم أمزيان.. ريادة وجسارة

     تمثل الرسامة مريم أمزيان (1930-2009) طليعة الفن التشكيلي النسائي الأكاديمي بالمغرب، حيث تفاعلت في البداية مع أجواء مدينة مليلية المحتلة ونواحي مدينة الناظور منفتحة على الفنون الجميلة داخل وسطها الأرستقراطي (أبوها ماريشال عام 1974 في عهد جلالة المغفور له الحسن الثاني، وجدها كان من المقربين  لعاهل إسبانيا)، حيث استأنست  بالمبادئ الأولية  للرسم في ربوع مدينة العرائش  قبل أن تلج أسلاك الدراسات العليا بكلية الفنون الجميلة سان فرناندو بمدريد دون اجتياز الأطوار التكوينية التحضيرية بمدرسة سانت إيزابيل بإشبيلية نظرا لنبوغها الإبداعي المبكر وامتلاكها لناصية التمرس التشكيلي الرصين، إذ  حصلت على دبلوم أستاذة مادة الرسم والتصوير الصباغي.

مريم أمزيان

 

    عرضت مريم أمزيان نماذجها الفنية التعبيرية خارج كل نزعة استشراقية اختزالية منذ سنة 1953، فقد تناول منعطفات مسارها الفني الدكتور عبد الحق المريني في كتابه “دليل المرأة المغربية” (الجزء الأول، دار النشر المعرفة،1993 ). كما انشغلت منذ البداية بتصوير المرأة الريفية والصحراوية مهتمة بحليها ولباسها التقليدي ونشاطها اليومي. فتصاويرها المعروضة بالمغرب وفرنسا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وتونس ظلت تتسم بألوان وأصباغ زيتية تعكس اهتمامها المباشر بموضوعات اجتماعية مستلهمة من البيئة المغربية. هذه التصاوير، التي مرت عبر مراحل متعددة، سادها في البداية النمط الكلاسيكي الجديد الخاضع لصرامة قواعد الرسم والبناء الخطي والإنشاء اللوني لتنخرط في التصوير الواقعي التسجيلي الذي يستلهم وحداته المشهدية من التراث الوطني الأصيل بمسحة انطباعية آسرة. تقول عن طلائع مسارها الإبداعي: “بتوجيه عصامي، بدأت أرسم العالم وحياتي،  وكانت بلادي هي التي أحب أن تبرز عبر أعمالي… إني أشخص في لوحاتي كل ما يهتز له كياني وله صلة ببلدي من مناظر الجنوب الشائع بفنه المعماري العريق إلى سواحل الريف ولا سيما أبناء شعبي الذين هم من أصلي، أبناء حوض البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا السمراء، حيث غنى وتميز كل مظاهر الحضارات الإفريقية العربية الأمازيغية. هكذا تغلق دائرة الإحساس العاطفي الذي أعبر عنه في لوحاتي، هذه الدائرة التي تبدأ وتنتهي بالمغرب”. يشكل الجنوب الشرقي للمغرب بمساحاته الصحراوية رحبة الأرجاء وذهبية الرمال رصيدا ماديا ولاماديا في الآن ذاته للعمارة المغربية الأصيلة والغابرة، فهو معقل القصبات (تغرمت تصغير لكلمة إغرم التي تعني القصر) الشاهدة على نبوغ الصناعات الحرفية، وهي علامة مضيئة على مدى تفاعل الإنسان مع مجاله الطبيعي في انسجام روحي وتكامل نفسي. عكست لوحات مريم أمزيان هذه المناظر المعمارية الموحية الساحرة التي تشي بسلام طبيعة المغرب وسكينته لزائر ضاقت نفسه في متاهات الإنتاجية، واستحوذ القلق على نفسه بتعبير الفيلسوف المستقبلي محمد عزيز الحبابي (كتاب المغرب في لوحات رسام “مريم أمزيان”، إلى من يتعطشون إلى الجمال والنور، مصلحة الإشهار للخطوط الملكية المغربية، بدون تاريخ نشر، ص8). ألهم هذا السحر البصري ببهائه وصفائه مخيلة هذه الفنانة الرائدة على أثر جهابذة الفن الحديث أمثال دولاكروا وماتيس ودوفي وغيرهم، فهو يعكس بثرواته الإنسانية مدى انسجام الإنسان المغربي مع وسطه الطبيعي في تناسق عضوي قل نظيره.

     إن القصبات وغيرها من القلاع والحصون الجنوبية الشامخة التي أبدعت في رسمها تعكس أبرز ملامح التراث الهندسي الذي يقدم لنا، بتعبير الباحث أحمد الصفريوي، صورة ناطقة عن التوازن وخصوبة الماء المعشب التي تتعارض مع وحشية الفيافي وهول القفار: تصبح السماء بيت الله في عين أبناء الصحراء ومظهرهم المعتدل واللطيف، فعندما عرف الإنسان المغربي حياة الاستقرار وتفاعل معها شرع في تنفيذ الاستعارات الهندسية على فلسفته الخاصة بنشأة الكون، معتبرا السماء قبة تستند على أربعة أعمدة. إنه يطمح إلى جلب السماء إلى بيته بوصفها، مجازيا، مهبط الوحي وأهدأ فضاء في الطبيعة يستدعي السمو والارتقاء، فالمسكن يغدو مكعبا مقعرا تفصله عن العالم الخارجي جدران لا نوافذ لها، وتنفتح بيوته على ساحة لا يمكن أن تشاهد منها غير السماء التي تصبح جزءا شذريا من السماء في أبعادها الميتافيزيقية (كتاب المغرب في لوحات رسام “مريم أمزيان”، مناظر المغرب تستحق أن ترسم كلها، ص21). تقول في حقها الكاتبة والفنانة التشكيلية لبابة لعلج: “صورت امرأة بلدها بكافة ألوانها. رسمت “الروح المغربية في عمقها”. خلدت فاس في عظمة قدرها: مآذنها، ومساجدها، وحياتها الروحية ونساؤها المهيبات. لوحاتها شاهدة على مفاتن حسن النساء في مختلف ربوع البلد: إنه نشيدها لمجدهن. إنه النشيد من أجل التاريخ. مشاهد الرقص، والموسيقيات، والنافورات شعرها وحب نغمها. جسورة، تجرأت على تصوير العري. الفنانون الذكور يترددون في عرضه! يفضلون إظهاره للمتعلمين في سرية محترفهم. لوحة “عارية من الظهر”. لوحة “امرأة عارية” (ذات الساقين المحجبين). لوحة “عارية على المبخرة”. بالطبع، هو عري عفيف ومقدس. على سبيل التكريم، تظهر امرأة أخرى عارية ناعمة ومحتشمة. بماذا تطالب طاقتها؟ ما هي الصورة التي تبحث عن تدميرها؟ ماذا ينجلي بين الدنيوي والقدسي؟ هل تتحدث عن البهتان؟ هل تتوق إلى تحرير المرأة من رق ثقافتها؟ مشيئة الله. مشيئة الأب. مشيئة الرجل. حقيقة ثالوث يبعث على الارتجاف. هل أداؤها عري المرأة وحكم عليها بالتدني؟ هذه الحالة ليس تحربا. الاثنان معا المذكر والمؤنث! الرجل غير مستهدف، بل الأفكار!” (أيقونات التشكيل بصيغة المؤنث، مريم أمزيان روح ونور، 2021، ص 79).

 إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top