مبدعون مازالوا بيننا -الحلقة 2-

تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

الجيلالي الغرباوي: مقام الاغتراب

عندما نستحضر الفنان المغربي الأصيل الجيلالي الغرباوي (1930-1971)، نقف عند مجموع لوحاته التشكيلية التي باعها لموثق الأعمال الفنية بالمغرب الراحل عبد الرحمان السرغيني تحت وطأة الفاقة والحاجة. وكم ستظل هذه اللوحات الإبداعية أسيرة الظل والنسيان إلى أن بادرت الباحثة المغربية ياسمينة الفيلالي في إطار مؤسسة «أونا» إلى إعادة الاعتبار لاسم الفنان الغرباوي عن طريق اقتناء معظم أعماله الإيحائية فضلا عن إعداد أول كتاب مونوغرافي حول مساره الإبداعي الغني بالوقائع والتجارب المحملة بهاجس قدر درامي وصراع ضد المجهول والمستحيل.


إن غياب جرد بيوغرافي مدقق وتوالي الاستفهامات تلو الاستفهامات حول تجربة الغرباوي يعمق لدى المهتمين معاناة الفقر المعرفي إزاءها، ذلك أننا لا نعرف عن حياة الغرباوى إلا بعض الشذرات العامة من قبيل: نشأته بالجرف المالح قرب سيدي قاسم سنة 1930، حياته قضاها يتيم الأبوين ولما يتجاوز بعد أربع سنوات، تربيته من طرف عمه في سن العاشرة قبل أن يعانق مسار تعلم »الترصيص«. حسب بعض الشهادات التي أوردها الناقد جمال بوسحابة، فإن طفولة الغرباوي كانت مأساوية وأليمة تطبعها الصدمات والمواقف الدرامية العنيفة ذات الانعكاسات المباشرة على حساسيته النفسية المرهفة. ما بين 1940 و1950، أقام الغرباوي بفاس متدرجا من حياة التلمذة بإحدى المؤسسات الثانوية إلى عالم بيع الصحف بشارع محمد الخامس، وفي المساء كان يتلقى دروسا في الصباغة بأكاديمية الفنون. في سنة 1952، سيتفضل فنانان فرنسيان «لغاتيان» بتقديم الغرباوي لمدير الفنون الجميلة بالرباط آنذاك السيد أحمد الصفريوي الذي كان له الفضل في حصول الغرباوي على منحة لمتابعة تكوينه الفني بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بباريس، حيث سيتعرف في «مونتباماس»، (الحي الفني)، على الناقد الفني بيير رستاني والفنان التشكيلي هنري ميشو اللذين ينتميان إلى مدرسة باريس، ومن هنا اعتزل لوحاته الانطباعية لينخرط بشكل هستيري في مشروع أعماله التجريدية المتأثرة كثيرا بالواقعية الجديدة التي أسسها الناقد الفني بيير رستاني عام 1960 وبحركة الطليعة الباريسية، مزاوجا بين قراءاته المتعددة وافتتانه الكبير بإعادة ترجمتها إلى صور استيهامية. في هذه الفترة بالذات وبالتحديد عام 1955، سيدشن الغرباوي عودته اللاإرادية إلى المغرب، حيث اشتدت حدة أزمته النفسية إلى درجة إقدامه على محاولة الانتحار رغم احتكاكه الكبير بأوساط المثقفين والمبدعين (حسين طلال، عبد اللطيف الزين، كمال الزبدي، ابن علال، محمد الدريسي، ميلود الأبيض، أحمد الصفريوي…إلخ). وكلما انتابته هذه الأزمة الداخلية يلتجئ إلى مستشفى الأمراض النفسية بسلا بعد أن يكون قد أفرغ هلوساته الغرائبية في إتلاف قماشاته وتمزيقها. بعد سنة واحدة على أقرب تحديد، سيحصل الغرباوي على منحة للتكوين بأكاديمية «ديل بلي أرتي» بروما، حيث سيحتك بالفنان التشكيلي المليحي وبالفنان الموسيقي ماكسويل دافيس، كما ارتاد السفريات المتتالية وزار كلا من «لاسيسيل» و»لاتوسكان» وأقام معارض فنية.


اضطر الغرباوي إلى العودة للوطن الأم نظرا لشدة مرضه، إذ سيتعرف بالرباط على أحد العشاق الكبار للفن «لوبير دونيس»، عندها سيقيم بملجئ خيري أسس سنة 1952 بـ «تومللين» قرب أزرو وهناك سينتعش بروح الصداقة والمودة والوفاق والسلام. في سنة 1957 سينظم له صديق يهودي معرضا لمساره الفني بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث سيحصل على جائزة متحف الفن بسان فرانسيسكو.
إلا أن التأثير الواضح على مساره الحياتي سيرتبط برحيل «لوبير دونيس مارتان»، حيث ستغلق دار تومللين أبوابها ليقبل على صفحة جديدة سادها الصراع المرير من أجل توفير حاجيات العلاج والسفر فاضطر إلى بيع معظم لوحاته إلى موثق الأعمال الفنية المغربية الراحل السرغيني خاضعا للعبة العرض والطلب… وستكتمل حلقات مسلسل الفنان جيلالي الغرباوي بباريس سنة 1971، إذ كان يقيم عند الناقد الفني «بيير كودبير»، متعاطيا للصباغة واجترار مرارة الاغتراب الاضطراري، وهي المرارة التي تنتاب كل مهتم بمصير الفنون في العالم… إلى أن صعق العالم بفاجعة موت الغرباوي كجثة هامدة على أحد المقاعد العمومية الباريسية بـ «شون دومارس» بالقرب من ساحة برج إيفل. أليست هذه الفاجعة صرخة مأساوية في وجه متاهات الفقر والتهميش والاغتراب والعزلة الباردة والقاتلة؟

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top